رفقاً بأنفسنا وأشقائنا...
المخاض العسير الذي تمرّ به مصر منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من شباط العام الماضي، هذا المخاض يرسل في كثير من الأحيان، إشارات خاطئة، بشأن السياق الذي تتم فيه عملية التحول الديمقراطي، قبل أن ترسو عند محطة واضحة المعالم، ومستقرة، بصرف النظر عن القوى السياسية التي تتصدر المشهد.
في هذا المقام يخطئ كل مَن يعتقد أنه بمجرد اندلاع الثورة، وتغيير رأس النظام، أن عملية التحول الديمقراطي قد دخلت مرحلة الأمن والأمان والاستقرار.
ويتساوى مع هؤلاء في الخطأ، مَن يعتقدون أن ما جرى حتى الآن لا يستحق التضحيات التي قدمها ويقدمها الشعب المصري، ذلك أن دولة بحجم مصر، شعباً، وإمكانيات، وجغرافيا سياسية، ودوراً تاريخياً، وبُعْداً حضارياً يضرب في أعماق التاريخ، مثل هذه الدولة، التي ابتليت بجهاز بيروقراطي ضخم، وبانزياحات اجتماعية هائلة، يمكن أن تنجز عملية التحول خلال فترة قصيرة، وبأثمان زهيدة.
لا مجال لمقارنة سياقات الثورة والتحولات الجارية في أوضاع مصر، بما وقع ويقع في شقيقاتها العربيات، من تونس، إلى المغرب وليبيا، إلى اليمن وسورية والبحرين، ولكن إذا كان الحديث عن ثورة وتغيير فإن المسألة تنطوي على عملية هدم، وإعادة بناء، ولأن الثورة التي وقعت لها سمات وخصائص معينة، لا تتطابق مع مفهوم الثورات الجذرية التي نقرؤها في الكتب المدرسية، فإن عملية الهدم، تصاحبها إعادة تربية، وتصاحبها، عمليات تغيير في القيم والمفاهيم، وفي العلاقات والقوانين العامة والتفصيلية نحو إعادة تعديلها، وتجديدها، وإضفاء الطابع الديمقراطي المأمول عليها.
ثمة مبالغة في تواصل واندلاع الاحتجاجات بين المليونيات التي تقررها القوى السياسية، ولا تتجاوز فيها الحشود عشرات الآلاف في معظم الأحيان وبين الاحتجاجات المطلبية التي تقوم بها الجماعات المهنية، سواء أكانوا عمالاً أو موظفي قطاع عام، أو شرطة.. ذلك أن أحياء القاهرة تكاد لا تخلو يومياً من احتجاجات وأحداث تصل إلى حد الاشتباك ووقع ضحايا.
يلفت النظر أنه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، تصاعدت ظواهر الاحتجاج غير المبرر والخطر، الذي تقوم به جماعات مؤيدة لهذا المرشح الذي لم يحظ بشروط الترشيح، أو ذاك، الذي جردت بعض القوى السياسية حملات من أجل منعه من الترشح على خلفية الاتهام بالانتماء لما يسمى "الفلول". كان من أصعب هذه الظواهر ما تقوم به جماعة المرشح الذي لم يحظ بشروط الترشح حازم أبو إسماعيل، الذي تقيم جماعته لأيام وأسابيع اعتصامات في كثير من المواقع، إلى حد تعطيل السير، وأخطرها الاحتجاجات التي تقع قبالة وزارة الدفاع، وأدت إلى اشتباكات سقط جراءها أكثر من مائة جريح، وهي لا تزال تنتقل من مكان إلى آخر.
وإذا كانت مثل هذه الاحتجاجات غير المنطقية، تندرج في سياق تأكيد وترسيخ حق التظاهر السلمي، ليصبح تقليداً ثابتاً، ومشروعاً في الحياة السياسية المصرية، وهو أمر إيجابي، إلا أن انفلات مثل هذه الاحتجاجات إلى الحد الذي أدى إلى نشوب أزمة سياسية خطيرة بين مصر والسعودية، ينطوي على شبهات تتصل بوجود أصابع خفية، تنتمي إلى قوى الثورة المضادة من خارج البلاد، لدفعها نحو المزيد من التأزم والتدهور، ليس فقط لإطالة أمد عملية التحول الديمقراطي وتعظيم الثمن المدفوع، وإنما أيضاً للتأثير سلبياً على طبيعة المحطة التي ترسو عندها هذه العملية.
نتفهم أن الكثير من الاحتجاجات التي وقعت على خلفية قضية المحامي المصري الجيزاوي الذي ضبطته مصلحة الجمارك السعودية وبحوزته وفق الادعاء أكثر من واحد وعشرين ألف قرص من المهدئات. نتفهم أن تكون الاحتجاجات هدفها إعادة صياغة مفهوم كرامة المواطن وصولاً إلى كرامة الوطن، ولكن ليس إلى الحد الذي يؤدي إلى نشوب أزمة سياسية دبلوماسية بين الشقيقتين الكبيرتين، مصر والسعودية، التي بلغت حد سحب السفير السعودي وإغلاق السفارة والقنصليات في القاهرة.
إن مثل هذه الأزمة، تنطوي على أبعاد خطرة جداً، لا تقف حدودها عند تأثيراتها السياسية والدبلوماسية، بل إنها تشتمل على مخاطر اقتصادية واجتماعية، حيث يوجد أكثر من مليوني مواطن مصري يعملون في السعودية، وأكثر من خمسة عشر ألف مواطن سعودي في مصر، بالإضافة إلى آثار تتصل بالاستثمار والدعم والسياحة... .
ليس من حقنا أن نوجه اتهامات، ولكن الإعلام المصري الذي أعطى مساحة واسعة لهذه القضية وفصولها، يشير إلى بعض الدول العربية الصغيرة في حجمها والكبيرة في فعلها وتدخلاتها، إلى حدود تدعو للعجب، وتعكس حالة من التطاول غير المفهوم إلا في سياق خدمة مشاريع وأهداف دول كبرى. لا يمكن أن ندخل في متاهة الحديث عن سيناريوهات المشهد السياسي والاجتماعي القادم في مصر، ولكن الأشهر الثلاثة الماضية منذ انتخابات مجلسي الشعب والشورى تشير إلى تراجع شعبية بعض القوى، خصوصاً الإسلامية، وتقدم شعبية أخرى، لكنها أيضاً تشير من بين عوامل أخرى كثيرة، إلى أن صراعاً خفياً، وعلنياً، يجري بين القوى الكبرى في المشهد السياسي، ونقصد المجلس العسكري من ناحية، والجماعات الإسلامية من ناحية أخرى، لا ينطوي على أبعاد عدائية وتصاعدية، وإنما على أبعاد تتصل بتناسب القوى، والصلاحيات، وسلطة القرار. مصر الدولة العربية الأكبر والأقوى، ووطن القومية والنهضة العربية، وقائدتها، متعبة حد الإرهاق، وهي تقاوم مخططات جهنمية من قبل قوى خارجية، تسعى لإضعاف مصر، وإثارة كل أنواع التناقضات في داخلها، حتى تخرج من هذه المرحلة الانتقالية، وهي غير قادرة على استعادة دورها الإقليمي، ودورها القيادي في المنطقة، وغير قادرة على ترميم اقتصادها، وعناصر قوتها.
المخطط ذاته، بطرق مختلفة يتم مع بقية الدول العربية التي شهدت عملية التغيير، والتي تمر في هذه المرحلة، فالسياسات الغربية، وعلى درجة الخصوص الأميركية ومعها الإسرائيلية، تسعى لإطالة أعمار الأزمات، وزرع كل عوامل وعناصر ومقومات اندلاع واستمرار الصراعات الداخلية، حتى تخرج هذه البلدان ضعيفة إلى أبعد الحدود، وحتى ترتهن عمليات التغيير الكلي أو الجزئي إلى سياسات ومصالح الأطراف الخارجية. بقي أن نقول إن على الفلسطينيين أن يخففوا بعض الأعباء عن مصر، فاستمرار الانقسام يشكل عبئاً ثقيلاً على الأمن القومي المصري.
إن أفضل تضامن مع مصر، وهو أيضاً يشكل انتصاراً للذات الفلسطينية مشروعاً وشعباً وقضية، هو في أن يستعجل الفلسطينيون إنجاز المصالحة، واستعادة وحدتهم، والتخفيف من تطلباتهم تجاه الشقيقة مصر، التي ننتظر دورها الفاعل والتاريخي، في الانتصار للقضية والحقوق الفلسطينية. وإذا كان المصريون يشعرون بالألم بسبب استمرار الانقسام الفلسطيني وفشل محاولاتهم للمصالحة، فإن على الفلسطينيين أن يشعروا بالخجل، وقلّة الوفاء لأنفسهم ولقضية شعبهم ولمن يقفون بالباع والذراع معهم.