هجمة شرسة على القاهرة

هذا ما حدث في هذا الاسبوع لمنال جرسطلي (24 سنة) في شارع مزدحم في القاهرة. ‘خرجت في الثامنة صباحا من محطة القطار الارضي وبدأت أسير نحو المكتب الذي أعمل فيه’، قالت. ‘التصق بي رجل شاب ذو لحية طويلة وبدأ يمد يده إلي. لم اشأ إحداث جلبة؛ فزدت في سرعة سيري لكن الرجل الذي تبين بعد ذلك أنه متزوج في السابعة والثلاثين من عمره، ألح على الالتصاق بي. وحينما لمسني صرخت بالناس أن يساعدوني على التخلص منه، لكن لم يهب أحد لمساعدتي. وقبل أن أدخل الزقاق الذي يوجد المكتب فيه استقر رأيي على أن أقف وأنهي هذا الامر. أُغرب عني أيها الوغد إنك لتخزي لحيتك’، صحت به فلطمني. آنذاك فقط تدخل الناس وأبعدوا عني المتحرش العنيف. فقلت لهم: ‘خذوه الى الشرطة أنا أريد أن أقدم شكوى عليه’.

‘وآنذاك تغيرت النظرة إلي دفعة واحدة. فقد حاول اشخاص في الشارع وبينهم اربع نساء أن يقنعوني بأن أتخلى له. وقالوا لي: لقد تعلم الدرس. وقد أخجلته بقدر كاف. فدعيه الآن لأن الامر سيكون اضاعة وقت أصلا في الشرطة، فهم فضلا عن أنهم لن يساعدوك سيُبينون لك أنك المذنبة بسبب سراويلك الضيقة وحذاءك العالي وقميصك الملون، ولماذا تخرجين الى الشارع دون حجاب؟’.

وهذا ما جرى لعصام بشاري (26 سنة) من مؤسسي الجمعية المصرية الجديدة ‘أمسك بالمتحرش’. ‘كنت أمشي في ساعة مبكرة في الصباح في أحد الشوارع الهادئة في حي الزمالك الفخم ورأيت غلاما يضايق امرأة شابة، ولم يكن عندي شك في أن الحديث عن تحرش. وسمعته يعرض عليها عروضا معيبة ومد يده ليلمسها وهدد بأن يخطفها. ودون أن أفكر مرتين انقضضت عليه وأمسكت به وجررته الى حانوت واشتريت حبلا وربطه الى شجرة.

‘هاتفت نشطاءنا في الجمعية كي يأتوا لتوثيق الحادثة. ورششنا على قميصه بمرش طلاء براق عبارة ‘أنا متحرش’، وصورناه ورفعنا صورته الى الفيس بوك’.

وفي الغد جاءت اليه خلية رجال شرطة وأوقفته بسبب سلوك عنيف. قال له رجال الشرطة: ‘مهما تكن نيتك الخيرة، اذا كانت عندك شكوى فتعال الى المركز وابحث عن ضابط محقق واترك التفاصيل وقدم شكوى لأنه لا يجوز لمواطن أن يتولى تطبيق القانون’.

كنتُ على يقين من أنهم سيقتلونني

أُنشئت جمعية ‘أمسك بالمتحرش’ قبل نصف سنة وكُشف عن نشاطها بعقب الزيادة الكبيرة في الاسابيع الاخيرة في مصر في عدد حالات الاغتصاب والتحرش الكلامي واعمال التعقب للهجوم على نساء. وتعمل الجمعية التي نشأت بمبادرة مشتركة من طلاب جامعات و’شباب الثورة’ في خلايا في كل واحدة 25 متطوعة ومتطوعا يخرجون الى الشوارع. وليس للمنظمة مكاتب ولا مخصصات مالية. ويوجد خط هاتف ساخن ونقاط لقاء تخرج الدوريات منها. ويعمل فيها في الحاصل العام 500 شخص جندوا بطريقة ‘صديق يأتي بصديق’. والنوبات كل واحدة ثماني ساعات تجري الخلايا في اثنائها جولات تفقدية في القاهرة فقط في الميادين وبالقرب من مراكز الشراء وعند الخروج من قاطرة النساء في القطار الارضي الذي يجتذب اليه بصورة طبيعية متحرشين كثيرين.

يصف محمود يحيى وهو من مؤسسي الجمعية رجالا يختلسون النظر الى داخل القاطرة ويعلمون الهدف لأنفسهم. ‘ينتظرون الى أن تنزل المرأة في المحطة فيتعقبونها وينتظرون فرصة للانقضاض عليها. ولا يهمهم أن تكون محجبة أو أن تكون سائحة أو أن تسير في الشارع مع صديقات، فهم يهتمون بفصلها عن الاشخاص الذين يصاحبونها ويجرونها الى مكان لا يعوقهم أحد فيه عن تنفيذ ما خططوا له’.

نشرت الحركة النسائية ‘نظرة’ في المدة الاخيرة قصة ثلاث شابات خرجن الى ميدان التحرير لمظاهرة ضد حركة الاخوان المسلمين، وجرى عليهن تحرش عنيف على نحو خاص، فقد فصل المتحرشون الشابات الثلاث عن رفاقهن وجروهن الى أزقة مظلمة ومزقوا ملابسهن. قالت واحدة منهن وهي مريم: ‘بكيت بكاءً مرا طول الوقت. كنت على يقين من أنهم سيقتلونني كي لا أتحدث عن الاغتصاب الجماعي’. وجرت على صديقتها أنيسة تجربة أقل عنفا بسبب تدخل مارة. ‘صرخت طالبة النجدة، فاقترب رجال شرطة فرأوا ما يحدث لكنهم لم يحاولوا وقف الكابوس′. أما الثالثة، مروة، فقالت إنها قذفت المهاجمين بقولها: ‘إخجلوا، نحن أبناء الشعب نفسه. حاولوا أن تفكروا ماذا كان سيحدث لو أن شخصا ما فعل هذا الشيء بأخواتكم أو بزوجاتكم’.

في استطلاع للامم المتحدة جرى في نهاية السنة الماضية بمشاركة منظمات نسائية مصرية، قال 92.3 بالمئة ممن سُئلن إنهن وقعن ضحية تحرش جنسي مرة واحدة في حياتهن على الأقل. وتحدث بعضهن عن تحرشات في اماكن العمل، وتحدثت أخريات عن هجوم عنيف في الشارع أو في متنزه عام أو عن عنف جنسي في العائلة. ولم تقدم واحدة ممن سُئلن شكوى في الشرطة. فقد كتبن قائلات: ‘خجلنا من أن يُكشف عنا، فقد كنا على يقين من أنهم سيتهموننا بأننا ‘نحن بدأنا’، وعلمنا أنه يجب الحفاظ على شرف العائلة’. وزعم 72 بالمئة من السائحات الاجنبيات اللاتي شاركن في الاستطلاع أنه جرى عليهن في مصر تحرش واحد على الأقل. وقرأت الصحفية القديمة شهيرة أمين – التي تُتذكر في اسرائيل أنها أجرت لقاء صحفيا مع جلعاد شليط في يوم تحريره من الأسر – قرأت التقرير فغضبت غضبا شديدا. ‘أفهم من كل ما أسمع شيئا واحدا فقط وهو أن هذا وباء عندنا وأن السلطة تغمض عينيها’، تقول. ‘بدل التفكير في حلول والقيام بحملة اعلامية وإقرار عقوبات شديدة للمتحرشين لردع اولئك الذين في الطريق الى أن يصبحوا كذلك، يكتفون بورقة. وحينما تجمع امرأة أصيبت بصدمة عنف جنسي، نفسها وتحضر الى الشرطة يقول رجال الشرطة لها: إن أصوب شيء تفعلينه اذا لم تريدي المشكلات أن تدعي هذا’.

تخلصت شهيرة نفسها قبل اسبوعين من كمين أعده لها مجهول كان ينتظرها في الظلام عند مدخل بيتها. ‘أوقفت سيارتي وسحبت المفاتيح وفتحت الباب. وفجأة جاء من الحديقة فتى شاب فانقض علي، وركلته وصرخت بجنون. وفي أقل من ثانية أسقطت عليه حقيبتي الثقيلة وهاتفي الخلوي والمال والمسجل وكل ما كان في داخلها. ويبدو أنه أدرك أنه لن ينجح معي فاختطف الحقيبة وهرب’.

سراويل ضيقة في الحرم الجامعي

أصبح المتطوعون للجمعية يعرفون طرق سلوك المتحرشين. ‘يخرجون زرافات زرافات الى اماكن مزدحمة ويُعلمون لأنفسهم ضحايا. فاذا لم ينجح ذلك مع واحدة انتقلوا فورا الى اخرى’. وأخذت تزيد في الاسبوعين الاخيرين حالات التحرش، ففي كل يوم يجري توثيق ما بين 80 الى 90 حادثة، وتأتي عشرات نداءات الاستغاثة الى ارقام الخط الساخن في منظمات النساء.

تشير القاضية ميرفت تلاوي التي ترأس المجلس القومي للنساء في مصر الى الآثار الاجتماعية والاقتصادية لهذه الظاهرة. ‘لما كان هذا الامر لا يحتل مكانا عاليا في ترتيب أولويات اجهزة الامن، تفضل عائلات كثيرة أن تبقي بناتها في البيوت وألا يخرجن للعمل لأن الشارع خطير. والعائلات التي هي في ضائقة اقتصادية شديدة فقط ترسل البنات للعمل ولمواجهة الاخطار. حتى إنه لا أمن في سيارات الأجرة. وتخرج البنات ملتفات من أخماص اقدامهن الى أعلى هاماتهن. فاما أن يكن محظوظات وإما أن يعدن الى البيوت يبكين بكاءً شديدا.

اعتادت شيرين بدر الدين، وهي من المتطوعات في جمعية ‘أمسك بالمتحرش’ أن تخرج في الجولات مسلحة بآلة تصوير. ‘نتجول في محطات القطار الارضي وفي اللحظة التي نلاحظ فيها رجلا يحاول أن يدخل قاطرة النساء نُربت على كتفه ونقول له: ‘قف لمصلحتك’. فاذا حاول أن يرفع يده علينا أمسك به الرجال في الخلية ورشوا قميصه بطلاء ‘أنا متحرش’، وأصور بالفيديو وأرفع الفيلم الى الشبكات الاجتماعية’.

في احدى الجولات في القطار شارك مصطفى إبن عزة سليمان، مديرة مركز علاج النساء المتعرضات للعنف. ‘حينما حاول أن يوقف رجلا تحرش بسائحة اجنبية، استدعى المتحرش رجال شرطة فتلقى إبني الضرب منهم’، تقول أمه. ‘أركبوه سيارة وأخذوه الى مركز الشرطة وفتحوا له ملفا في وزارة الداخلية’.

بين مئات الوقائع التي تم الكشف عنها، كانت الواقعة التي احتلت العناوين الصحفية الأسمن قد وقعت قبل عشرة ايام في جامعة القاهرة. فقد طاردت مجموعة من طلاب الجامعة من قسم الحقوق طالبة كانت تلبس قميصا لونه بنفسجي قوي وسراويل سوداء ضيقة، ‘وطلبت ذلك في الحقيقة’ كما وصف أحد المعتدين عليها. وقد نجحت قبل الانقضاض عليها بلحظة في أن تحبس نفسها في مراحيض النساء وهاتفت بهاتفها المحمول فاستدعت حراس الحرم الجامعي.

وفي المساء أجري لقاء في التلفاز مع عميد الجامعة الدكتور عصام جابر، وطلبت مجرية اللقاء أن يبين للمشاهدين لماذا لم يعمل كي يوقف المتحرشين، فاختار جابر اجابة تثير الغضب: ‘نتوقع وعلى الخصوص في جامعة محترمة جدا من الطالبات أن يظهرن بلباس محتشم. فاذا أصرت فتاة على التجوال بثياب مغرية فينبغي ألا تشكو أحدا فهي وحدها المذنبة’.

وفي الغد حينما اطلع على الردود الغاضبة من منظمات النساء، حاول العميد أن يصلح عبارته البائسة فقال: ‘نحن نحقق في الواقعة وحينما نجد المتحرشين ستنالهم عقوبة باهظة. نحن نفكر في إبعادهم عن الدراسة’.

ورشة تأهيل للمتحرشين

يشير المتطوعون لجمعية ‘أمسك بالمتحرش’ الآن الى انتخابات الرئاسة التي ستجري في الشهر القادم باعتبارها مناسبة يتوقع أن تخرج الى الشوارع جموع المعتدين الباحثين عن فريسة. ‘سيكون زحام في الطريق الى صناديق الاقتراع′، يُقدر عصام بشاري. ‘سيخرج ملايين الى الشوارع وستكون المتنزهات مليئة لأنه سيكون يوما عطلة وسيكون ذلك جنة للمتحرشين حقا’.

وتحاول السلطات الآن أن تواجه الواقع الجديد. ففي مكتب منال عاطف، مديرة قسم النساء في وزارة الداخلية، أعلموا على الخريطة مناطق نشاط الجمعية كي يكون رجال الشرطة على معرفة بهم وكي لا يوقفوا اعضاء خلايا الدوريات. والتقدير هو أن تبدأ الشرطة التعاون مع المتطوعين.

وتوجد محاولات لمواجهة هذه الظاهرة ايضا بواسطة سن قوانين. فقد بدأ فريق خاص من قبل المنظمة العليا لجمعيات النساء مع خبراء بالقانون ومتطوعي الجمعية، بدأوا العمل على ‘قانون التحرش’ الذي يضمن عقوبات سجن مدة سنتين الى عشر سنوات للمعتدين على النساء وغرامات تبلغ عشرة آلاف جنيه مصري (2870 دولارا) لمن يُضبط متلبسا أو تُقدم فيه شكوى تعتمد على شهادة مقدمة الشكوى وشهود عيان. وتفصل مسودة القانون الجديد الحديث عن ماهية التحرش وهو تعقب امرأة مصحوبا بملاحظات جنسية وتحرش هاتفي ينطوي على اشارات جنسية، وملامسة جسمية بل محاولة اللمس واستغلال علاقات السلطة في اماكن العمل من اجل ‘اشياء غير مرغوب فيها في السياق الجنسي’، والاغتصاب بالطبع. ‘لكن قد يتبين أن هذا القانون نمر من ورق’، تحذر شيرين ثابت من احدى منظمات النساء. ‘فأولا لم نتغلب الى الآن على حاجز حياء الضحايا اللاتي يحجمن عن المجيء الى مراكز الشرطة. وهن يخشين أن يضر تقديم الشكوى باحتمالات زواجهن بوساطة مناسبة لأن الفتاة التي تقدم شكوى تعتبر ملطخة لشرف العائلة.

‘وتوجد مشكلة اخرى وهي أن اعضاء مجلس الشعب يجب أن يجيزوا صيغة القانون الجديد، ولما كانت مصر تصرف امورها الآن دون مجلس شعب فان القانون قد يبقى في الدرج زمنا طويلا، ويستطيع المتحرشون أن يهيجوا’.

يوشكون في المجلس القومي للنساء أن يفتتحوا ورشة ترشد المتطوعين للجمعية الى كيفية التعرف على المتحرش (نظرة مركزة على الهدف، وحركات عصبية، وبحث في الجيوب لاستلال أداة حادة) وكيف يعاملونه دون مواجهة قوات الامن. ويخطط بعد ذلك لورشات للنساء اللاتي أصبن لتحريرهن من الصدمة الشعورية ولتقديم استشارة قضائية اليهن لتقديم شكوى ووسائل للتغلب على المخاوف. وتقول نهاد عثمان، وهي من منظمة النساء النسويات في مصر: ‘أحد أهم أهدافنا أن نمسك بالمتحرشين ونرسلهم الى ورشة تأهيل مع اطباء نفسيين وعاملين اجتماعيين يحاولون أن يربوهم على الكف عن ذلك’.

ويمتنع الاطباء النفسيون والاكاديميون الى الآن عن الانضمام الى النشاط لمقاومة التحرش. ويتلخص اسهامهم الآن في التحليل الاكاديمي للظاهرة.

‘كان يوجد تحرش دائما لكنه لم يكن وباءً’، يقول الدكتور خالد ضيف من قسم التاريخ في جامعة القاهرة. ‘كانت النساء يخشين حتى الربيع العربي تقديم شكاوى بسبب الظلم الاجتماعي ومواضعة أنهن دائما مذنبات.

إن المظاهرات على مبارك أعطتهن قوة، فقد أدت النساء دورا مركزيا في الميادين، فقد نظمن ورتبن وجندن واهتممن بأن يبرزن. وحينما تولى الاخوان المسلمون الحكم أعادوا النساء الى الوراء وأعطوا الهجوم عليهن شرعية.

‘يجب أن نضيف الى ذلك الازمة الاقتصادية الشديدة، فان ملايين الشباب العاطلين الخائبي الآمال يبحثون عن إفراغ ذلك في شوارع لا يوجد فيها رجال شرطة. وبعد أن أخرجوا نشاطهم في المظاهرات اصبحوا يتولون القانون بأيديهم ويهاجمون الخلية الضعيفة في المجتمع، فاذا لم تعالج هذه الظاهرة فسينشأ عندنا جيل عنيف’.