أشتاق لغولدا

أوري بار ـ يوسيف

لم أكن أبدا ممن أعجبوا بغولدا مائير. ومع أنه كان في سلوكها الشخصي كرئيسة للوزراء جوانب محببة، الا انها كانت في نظري دوما المسؤولة الرئيسة عن السلوك الاسرائيلي الرافض في الاتصالات مع مصر في السنوات ما قبل حرب يوم الغفران، السلوك الذي شهدنا نتائجه في تلك الحرب.
ولكني بدأت مؤخرا اشتاق لغولدا. والمسؤول اكثر من أي شخص آخر عن هذه الاشواق هو رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو. إذ عند مقارنة طريقة سلوكه الملتوية في المفاوضات مع الفلسطينيين بطريقة سلوك غولدا، تبرز مع ذلك أربعة فوارق مبدئية، تشرح لماذا كانت هي سياسية أيضا، بينما كان نتنياهو ولا يزال زعيما عديم كل رؤيا واقعية.
الفارق الاول يتعلق بالفكر. غولدا، مثل كل رفاقها في القيادة ومثل معظم الجمهور الاسرائيلي في حينه، لم تصدق بان العرب سيكونون مستعدين لان يسلموا في أي وقت من الاوقات بوجود اسرائيل. ولهذا فقد رفضت كل خطوة سياسية، كان من شأنها برأيها ان تؤدي الى انسحاب الى خطوط 67 ومرابطة الجيوش العربية على حدود اسرائيل، في ظل خلق تهديد وجودي جديد عليها. ولكن عندما آمنت غولدا بذلك، لم يكن السادات قد هبط في البلاد بعد، وكان اتفاق السلام مع مصر موضوعا غامضا، وليس عنصرا اساسيا في أمن اسرائيل منذ 35 سنة، والعالم العربي لم يعرض علينا انهاء النزاع وتطبيع العلاقات بيننا مثلما تفعل الجامعة العربية اليوم.
لم يتعلم نتنياهو تاريخ النزاع. ومع انه لا يقول علنا ان ‘البحر هو ذات البحر، والعرب هم ذات العرب’، الا انه عمليا يتصرف مثل اسحق شمير، وكأنه لم يطرأ اي تغيير في مواقف العالم العربي منذ 1967. سياسة الرفض لديه اكثر تطرفا وهي أقل منطقية وعقلانية من سياسة غولدا.
فارق ثان يتعلق بحجوم التهديد. فالتهديد العربي الذي تصدت له غولدا كان مبنيا على الاف الدبابات، المدافع والطائرات، التي في ظروف معينة يمكنها أن تشكل خطرا وجوديا على اسرائيل. غولدا، التي شهدت حرب التحرير والازمة التي سبقت حرب الايام الستة، رأت في سيناريو الاجتياح العسكري العربي الكبير خطرا حقيقيا، حتى وان كانت موازين القوى مع الجيوش العربية قد تغيرت منذ حرب الايام الستة في صالح الجيش الاسرائيلي.
أما لنتنياهو فثمة قليل من الكوابيس الاستراتيجية، ولكن من الصعب التصديق بان في احلامه الاكثر سوادا يتصور تهديد اجتياح كهذا. فبعد كل شيء نتنياهو هو الاخر يعرف بان التهديد العسكري العربي يوجد في سياق مواظب من التآكل منذ نهاية السبعينيات، وهذا السياق يصل اليوم الى ذروته، مع تفكك الجيش السوري. صحيح أنه يوجد تهديد صاروخي من جانب حزب الله وحماس، ولا يجب الاستخفاف به، ولكنه بعيد عن أن يكون تهديدا وجوديا.
السياسي الحكيم يحافظ على تناسب معقول بين أخذ المخاطر وبين شدة التهديد. يمكن الادعاء بان غولدا مالت في هذا الموضوع الى التشدد وهكذا فوتت الفرص في تحقيق السلام ومنع الحرب، ولكن كان لمخاوفها على الاقل اساس متماسك ما. ومقابلها يظهر نتنياهو كجبان، ويمتنع عن أن يأخذ اي مخاطرة أمنية، حتى وان كانت صغيرة، الامر الذي في نهاية المطاف قد يضع اسرائيل امام مخاطر أكبر بكثير.
الفارق الثالث يتعلق بخريطة الحدود ما بعد التسوية. فقد كان يمكن لغولدا ان تقع في الاوهام في أن بوسع اسرائيل ان تحتفظ باجزاء كبيرة من المناطق التي احتلتها في العام 1967. هكذا اعتقد في حينه الجميع تقريبا. اما نتنياهو فقد بات يعرف بان اسرائيل أعادت كل سيناء، حتى آخر سنتيمتر مقابل السلام مع مصر. كما أن اسرائيل أعربت عن استعدادها للعودة الى الحدود الدولية مقابل السلام مع سوريا، وخرجت من كل قطاع غزة دون أي تسوية مرحلية. كما يعرف نتنياهو ما هو الموقف الدولي بالنسبة لحدود التسوية بيننا وبين الفلسطينيين. ومع ذلك فانه يتمسك بالاعتقاد بان الموقف المتصلب الذي يصر على المساومة سيبقي بيد اسرائيل اراض كبيرة في الضفة وهو مستعد لان يفشل الفرصة لتحقيق التسوية على أساس هذا الاعتقاد وكأن ليس لتجربة الماضي وواقع الحاضر اي معنى.
وأخيرا توجد مسألة ثمن استمرار الجمود. فعندما اختارت غولدا تجميد الوضع القائم على التقدم السياسي، كانت تعرف بان الثمن قد يكون الحرب. ولكنها اعتقدت، تماما مثل الجميع، بان الحرب التالية ستكون مثابة اليوم السابع لحرب الايام الستة. اما نتنياهو، كما من المعقول الافتراض فليس لديه اوهام كثيرة في هذا الشأن. وعلى جدول الاعمال تقف عقوبات سياسية واقصادية، تقليص الدعم الامريكي، انتفاضة مسلحة أو غير مسلحة في المناطق، تفاقم العلاقات مع جيراننا وغيرها.ي ليس واضحا اذا كانت كل هذه التهديدات ستتحقق، ولكن من المعقول الافتراض باننا سندفع ثمنا غير قليل على الفشل السياسي المحدق امامنا.
ولكن ما يقلق نتنياهو هو تقليض الاضرار من خلال القاء الذنب على الفلسطينيين، وليس منع المخاطر والسير باسرائيل الى الامام نحو مستقبل افضل. هذه رؤيا رجل مبيعات وليست رؤيا سياسي مسؤول. ومع زعيم كهذا ثمة مكان للاشواق. حتى لغولدا.

هآرتس