مطلوب الخطة ب

بقلم: شلومو أفنري

الآن، بعد أن الغى وزير الخارجية الامريكي جون كيري وصوله الى رام الله واضح ان المسيرة السلمية الاسرائيلية الفلسطينية تقف على شفا الفشل. لا يوجد شيء أسهل من ايجاد مذنبين، فضلا عن السبب الفوري: بنيامين نتنياهو الذي جعل موضوع الاعتراف باسرائيل كالدولة القومية اليهودية حجر الاساس في المفاوضات؛ محمود عباس، الذي أقنع رفضه الاستجابة لهذا الطلب الكثيرين في اسرائيل بان الفلسطينيين غير مستعدين حقا لقبول دولة اسرائيل ولانهاء النزاع؛ وبالطبع الرئيس الامريكي براك اوباما ووزير خارجيته كيري، اللذين دمجا نشاطا لا يكل ولا يمل مع نقص مذهل بالواقعية وسلم أولويات هاذٍ، تجاهل المخاطر المتوقعة للساحة الدولية ومصالح الولايات المتحدة من التطورات الدراماتيكية في اوكرانيا. يتبين أن الفجوات بين المواقف الاسرائيلية والفلسطينية عميقة للغاية مثلما كان واضحا لكل من تابع فشل المفاوضات منذ عهد ايهود اولمرت.

كل هذا صحيح، ولكن هذا لا يجيب على السؤال الهام حقا: ماذا سيحصل الان؟ فالاتهامات والاتهامات المضادة لن تجدي نفعا، واولئك الذين يعتقدون مثل وزيرة العدل تسيبي لفني بان كل ما ينبغي هو قليل آخر من الوقت، سيكون من الصعب الاقناع بان الخطأ من نصيبهم مثلما هم مخطئون اولئك الذين يعتقدون بان الضغط الامريكي هو الحل. مخطئون الفلسطينيون أيضا الذين يعتقدون بان التوجه الى مؤسسات الامم المتحدة هو من ناحيتهم الحل: فمثل هذا التوجه، حتى لو نال هناك دعما كثيفا وألحق باسرائيل ضررا دوليا جسيما، لن يمنح الفلسطينيين ما يطمحون اليه دولة مستقلة. ففي نهاية المطاف، الحوار مع اسرائيل فقط والاتفاق معها سيسمحان بقيام دولة فلسطينية سيادية ومستقلة.

مهما يكن من أمر، واضح أنه من ناحية اسرائيل استمرار الوضع القائم ليس مرغوبا فيه ولهذا فمن الواجب عليها حتى وان كانت الولايات المتحدة تخطيء الان بالاوهام على الاتفاق الدائم اقتراح بديل للوضع الراهن. ولهذا الغرض يمكن التعلم من نزاعات مشابهة. في عشرات السنوات الاخيرة نشبت عدة نزاعات عنيفة يوجد لها أوجه شبه معينة مع النزاع الاسرائيلي الفلسطيني: فيها جميعها توجد عناصر الصراع بين حركتين قوميتين، الصدام بين روايتين تاريخيتين متضاربتين، احتلال عسكري، ارهاب وأعمال ضد الارهاب، استيطان في الارض المحتلة وتدخل دول مجاورة. ورغم ان هذه النزاعات ليست في اساسها نزاعات دينية، توجد فيها اساسات دينية تجعل من الصعب تحقيق اتفاق بشكل عام.

هكذا في قبرص، في البوسنه، في كوسوفو وحتى في كشمير البعيدة. كل العناصر الموجودة في النزاع الفلسطيني الاسرائيلي موجودة هناك وان كانت في حالتنا الكثافة تكون أكبر احيانا، وكنتيجة لذلك، الاحتمال للاتفاق أقل. فليس حكم المدينتين المنقسمتين نيقوسيا وميتروبتسا كحكم القدس.

في كل واحد من هذه النزاعات كانت محاولات، محلية، اقليمية ودولية، للوصول الى اتفاقات دائمة، وفيها جميعها فشلت هذه المحاولات. في المرة الاخيرة حصل هذا في قبرص، عندما أيد كل المشاركين، بما في ذلك أيضا الساحة الدولية كلها، خطة الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان، ولكن معارضة اليونانيين القبارصة منعت تحققها. ومع أن كوسوفو حظيت بالاستقلال، ولكن كون الصرب لا يزالون يرفضون الاعتراف بذلك، فان النزاع لم ينتهِ بعد، وفي البوسنة، لا تزال اتفاقات دايتون التي أنهت الحرب والقتل معلقة على شعرة ولم تحقق هدفها النهائي.

في كل تلك الحالات وجد بديل مؤقت، هش، ولكن في نهاية المطاف مقبول على الطرفين كبديل لاستئناف عنيف للنزاع. ودون التنازل عن رؤيا الاتفاق النهائي، تبلورت في كل واحدة من هذه الحالات تسويات جزئية أقامت منظومة لما يمكن ان نسميه في اللغة السياسية ‘ادارة فاعلة للنزاع′، بدلا من حل لا يزال ينفذ من بين أيدي الاطراف مثلما من أيدي الساحة الدولية. فاذا كانت الولايات المتحدة واوروبا لا تنجحان في حل مشاكل قبرص وكوسوفو، فمن المجدي الوصول الى الاستنتاج الواقعي بان ليس صدفة أنهما لا تنجحان في حل النزاع الاسرائيلي الفلسطيني الذي هو اكثر تعقيدا تركيبا باضعاف.

ينبغي القول بصراحة: ما يقترح هنا ليس ‘السلام الاقتصادي’ الذي يشكل بالنسبة لنتنياهو بديلا للاتفاق النهائي ان لم يكن ذريعة للامتناع عنه. يدور الحديث عن خطوات تستهدف تقليص شدة النزاع، تقليل مستوى اللهيب، السماح باتفاقات جزئية، خطوات احادية الجانب (بعضها بموافقة صامتة، بعضها احادية الجانب تماما، ولكنها خطوات تساعد الطرف الاخر ايضا).

هكذا، مثلا، اتيح المرور بين شطري نيقوسيا كنتيجة لخطوة تركية احادية الجانب، وهكذا تتيح اتفاقات جزئية في كوسوفو التعاون الهش ولكن المتطور بالتدريج بين حكومة كوسوفو والسلطات المحلية للاقلية الصربية التي في نطاقها. ولم توقع الاطراف في اي واحدة من هذه الحالات على اتفاق مبادىء او قبلت رواية الطرف الاخر (رأينا كم هو صعب عندنا)، ولكنه كان من مصلحة الطرفين التقدم، بالتدريج، خطوة إثر خطوة، نحو تقليل حجوم النزاع.

ما هو معنى الامر في حالتنا؟ من الجانب الاسرائيلي، معنى الامر تقليل آخر لعدد الحواجز في مناطق الضفة ومنح حرية حركة اوسع للفلسطينيين في نطاقها؛ انهاء ما تبقى من حصار اقتصادي اسرائيلي على غزة (الموضوع الذي قد يكون ممكنا تحقيقه في اطار التنسيق مع مصر)؛ نقل مناطق ج أو اجزاء منها الى سيطرة فلسطينية؛ تسيهلات على عبور البضائع من الضفة واليها؛ ازالة بعض البؤر الاستيطانية غير القانونية المنعزلة؛ موافقة صامتة على الامتناع عن مزيد من البناء في المستوطنات (خطوة قد تكون سهلة اذا ما ذكرنا أنفسنا بانه في خريطة الطريق وافقت اسرائيل في حينه على عدم اقامة مستوطنات جديدة).

من الجانب الفلسطيني يجب لمثل هذه الخطوات ان تتضمن تغييرا ذا مغزى وان كان تدريجيا، في الخطاب الفلسطيني عن اسرائيل في جهاز التعليم وفي المنصات العامة، بما في ذلك تقليص الدعم الحماسي لما يسميه الفلسطينيون ‘الشهداء’، وفتح حوار داخلي صادق وحقيقي عن ان أنسال لاجئي 1948 سيتم استيعابهم في نهاية المطاف في مناطق الدولة الفلسطينية وليس في اسرائيل.

في المجدي ايضا أن يجري الفلسطينيون بعض الترتيب في بيتهم، وان يتوصلوا الى توافق ما بين فتح والسلطة الفلسطينية وبين حكومة حماس في غزة. فواضح انه طالما توجد سلطتين فلسطينيتين تقاتل الواحدة ضد الاخرى ايضا احيانا، فلا يوجد اي احتمال حقيقي لاتفاق حقيقي بين الفلسطينيين واسرائيل، بل وربما من المناسب اجراء انتخابات اخرى في السلطة الفلسطينية الكل يتجاهل أن ليس للسلطة اليوم من زوايا عديدة شرعية ديمقراطية. وهذا ايضا موضوع لا يمكن تجاهله للمدى البعيد، وان كان ينبغي التعاطي معه بالحذر المناسب: عندما لا تكون هناك أي حكومة في العالم العربي انتخبت ديمقراطيا وبحرية (وربما باستثناء تونس) يحتمل أن يكون مبالغا فيه مطالبة ذلك من الفلسطينيين بالذات. هذا موضوع حساس ولكنه جدير ببحث فلسطيني داخلي حقيقي.

بعض هذه الخطوات ستكون قاسية على اسرائيلن وبعضها سيكون صعبا على الفلسطينيين. يمكنني منذ الان أن اسمع الادعاءات المبررة من الطرفين بان مثل هذه الخطوات غير مقبولة. ما على الطرفين ان يفهماه وفي نهاية المطاف الولايات المتحدة ايضا، هو ان الاحتمال لاتفاق نهائي هو في هذه اللحظة وهم. والوضع الراهن ضار للطرفين اكثر بكثير من الخطوات الجزئية، التي اذا ما نفذت فسيكون لها احتمال في أن تدفع الى الامام، رويدا رويدا ومع الكثير من الصبر، السير نحو اتفاقات اوسع.

احدى المآسي في محادثات كامب ديفيد 2000 لم تكن أنها فقط فشلت، بل انه لم يكن لاي من الاطراف خطة بديلة لحالة فشل المحادثات. يجدر الا نكرر هذا الخطأ التاريخي.