بوتين المحتل

بقلم: ناحوم برنياع

طلب سائق سيارة الاجرة الذي أقلني الى مطار كييف، عاصمة اوكرانيا، أن أعبر عن تصوره للوضع. وأنا لا أفهم اللغة الاوكرانية وهو لا يتكلم الانجليزية. قلت ‘بوتين’ فقال فورا ‘بوتين غتلر’ فسألته: ‘أبوتين هتلر؟’ فهز رأسه في رضى. إنه لأمر لطيف حينما يمكن اجراء حديث ثقافي مع اجنبي.
بالغ السائق، فبوتين أزعر حي لكن المقارنة مع هتلر داحضة في أحسن الحالات وسابقة لأوانها في اسوأها. إن اوكرانيا دولة فاشلة تعاني انقساما داخليا متواصلا، لاسباب تاريخية وجغرافية وعرقية ودينية. وقد أصبحت منذ نشأت على أنقاض الامبراطورية السوفييتية أداة لعب بين الشرق والغرب فكانت روسيا من جهة وامريكا والاتحاد الاوروبية من جهة اخرى. وحولت كل كتلة اموالا الى الحركات السياسية التي تريحها ونثرت وعودا وارسلت تهديدات. فلم تصل الحرب الباردة اوكرانيا أمس بل كانت هناك طول الوقت.
استولى بوتين على شبه جزيرة القرم بعد أن طرد حشد قومي في عاصمة اوكرانيا بالقوة الرئيس الذي هو تابع فاسد لموسكو وفرض على مجلس الشعب تعيين قيادة جديدة معادية لروسيا. ورفض بوتين أن يسمي البصقة الاوكرانية مطرا فرد بالاجتياح.
إن ما رأيته مبكرا جدا هذا الشهر في شبه جزيرة القرم لا يريدون أن يروه من واشنطن أو بروكسل أو كييف. كان مقدار قوة الاجتياح الروسي ضئيلا ومُنع الجنود من اجراء أي اتصال بالسكان فوقفوا في الميدان مقنعين دون أن ينبسوا بكلمة. إنهم حاضرون غائبون.
ولم تكن حاجة الى أكثر من ذلك وراوح الاستقبال بين عدم الاكتراث والدعم الحماسي. ولم تكن ثمة أي محاولة لصد القوات أو للتشويش عليها. واستقر الجيش الاوكراني في قواعده وكانت مظاهر الاحتجاج المدني متفرقة وانفعالية. وقد احتاج الروس لتأمين مطار سمبروفول عاصمة القرم الى دوريتين عسكريتين من’ المشاة في كل واحدة جنديان وذلك كل شيء. واحتاجوا للتأمين البرلمان في هذا الاقليم الى أقل من قسم سرحوه بعد نصف يوم ايضا.
وبعبارة اخرى تلقت الكثرة الغالبة من سكان القرم الاجتياح على أنه حقيقة منقضية فلم تُرفع اعلام بيضاء على أسطح المدينة بل اعلام روسية واختفت كل اعلام اوكرانيا دفعة واحدة.
يُعرف نحو من ثلثي سكان القرم أنفسهم بأنهم روس ـ بلغتهم وثقافتهم وهويتهم؛ وفرحوا جميعا أو اكثرهم بالعودة الى حضن الأم روسيا. وكان ثمة من ضاقوا ذرعا بنظام الحكم الفاشل في كييف وأملوا أن تحول روسيا الى شبه الجزيرة مالا ومشاريع بناء والكثير من السياح (حالة الجو في القرم جيدة وتوجد شواطيء وجبال وتوجد قدرة كامنة) وكان ثمة من خشوا من القمع والحرب. فاذا كان قدرهم أن يعيشوا تحت سلطان روسيا فانه يفضل فعل ذلك في سلام.
لندع نتائج استفتاء الشعب السريع الذي قام به نظام الدمى الموالي لروسيا فهذه الحيل التي تستعمل الديمقراطية الشعبية ليست أكثر من فكاهة محزنة. إن الاستفتاء يستحق السخرية لكن لا يمكن انكار رغبة الاكثرية.
تشبه مساحة القرم مساحة اسرائيل ضمن خطوط وقف اطلاق النار، فهي تبلغ نحوا من 26 ألف كم مربع. وتعتبر بالمفاهيم الدولية نصف دبوس في خريطة العالم. ويفترض كل من له مشاركة في الازمة الدولية أن روسيا ستستمر في السيطرة عليها على نحو ما، فقد كانت القرم جزء من روسيا تاريخيا وضُمت الى اوكرانيا في 1954 في اطار ترتيب داخلي في الاتحاد السوفييتي وعادت الآن الى الوطن.
ليست القرم هي التي تقلق الرئيس اوباما الآن ورؤساء الاتحاد الاوروبي بل قضايا مقلقة اخرى. وقد نجحوا في كتم غزو بوتين السابق لجورجيا في صيف 2008 لكن اوكرانيا قريبة جدا من قلب اوروبا.
السؤال الاول الى أين يتجه بوتين. هل يكتفي بالقرم أم يجتاح مناطق في شرق اوكرانيا يأمل سكانها الاجتياح؛ وهل ينساق طوعا أم اندفاعا قسريا الى حملة ستنتهي الى الاستيلاء على اوكرانيا كلها.
يمكن أن نفهم لماذا تكون روسيا حساسة من سياسة الدول المحاذية لها لأنه يوجد هنا تقدير امني مشروع ومسؤولية عن روس يسكنون هناك، وتاريخ طويل من الحماية والتدخل، لكن الاحتلال العسكري وسيلة اشكالية وهو يجبي أثمانا.
والسؤال الثاني ما الذي سيحدث لقوة ردع الولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي. لأنه اذا كانت الولايات المتحدة غير قادرة على ردع روسيا عن استعمال القوة العسكرية في قلب اوروبا فما هي جدوى حلف شمال الاطلسي؟ وكيف توجد دول مثل بولندا وجمهورية التشيك كانت في الماضي توابع روسية واستقر رأيها على الانضمام الى الغرب؟ وتلقى الرئيس اوباما في هذه القضية انتقادا شديدا من متحدثي اليمين في امريكا. وهو يُصور بحق أو بغير حق على أنه رئيس ليست له سياسة خارجية، ورئيس ليست له خطوط حمراء.
والسؤال الثالث هو كيف سيؤثر الاجتياح في العلاقات بين موسكو وواشنطن. إن العقوبات التي فرضها اوباما على مسؤولين روس كبار أمر يثير السخرية. والعقوبات الاوروبية أكثر ايلاما لكن بوتين سيتحملها بسهولة ايضا. والسؤال الى أين يبلغ الغرب في العقاب الاقتصادي والدبلوماسي اذا أصر بوتين على رأيه. إن روسيا قابلة لاضرار العقوبات بها اكثر مما كانت في العصر السوفييتي. وبوتين يرقص على حبل دقيق وكذلك اوباما ايضا. ويلوح في الافق امكان تجديد الحرب الباردة. والسؤال الرابع يجب أن يقلقنا ايضا. فقد استقرت الحدود في اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وبقيت كما كانت حتى حينما نشبت حروب في يوغسلافيا مثلا أو حينما انتقض الاتحاد السوفييتي. والقوى العظمى ضامنة لحدود اوكرانيا وكل تغيير بها يُشكك في قداسة الضمانات الدولية.
إن روسيا قوة من القوى العظمى وللقوى العظمى درجات حرية خاصة بها. خذوا على سبيل المثال اجتياح الصين للتبت، فقد كان الاحتلال الصيني عملا أوقح وأكثر اجراما من احتلال بوتين للقرم. وبرغم ذلك سلم العالم المتنور بذلك، لكنه لم يسلم باحتلال صدام حسين للكويت.
يتابع ساسة اسرائيليون غير قليلين بوتين في حسد. ما الذي يفعله باوكرانيا، ما الذي يفعله، ولماذا لا نحتل غزة في الغد صباحا، ولماذا لا نضم الضفة في الغد صباحا. ويحسن بهم أن يتريثوا، فليس واضحا الى الآن هل يخرج بوتين منتصرا من استعماله القوة في اوكرانيا. لكن حتى لو كان ذلك فلن نتعلم منه. فيجب أن نحذر أشباه بوتين عندنا كما يُحذر مشاهدو عروض السيرك قائلين لا تُجربوا هذا في البيت.

يديعوت أحرنوت