بعد 30 عاماً ...ليلى الفرنسية تبحث عن أبيها اللبناني

بيروت: "أين أبي؟ لا أريد جاهاً ولا مالاً في هذه الدنيا، أريد فقط أن أرى والدي…" من قلب محروق تتحدّث ليلى، سيدة فرنسية اكتشفت أنها ليست يتيمة، بل لها أب لبناني، فراحت تبحث عنه سنوات وسنوات بلا يأس ولا ملل، في أرجاء الأرض، وهو ما اوردته صحيفة الجمهورية التي توجهت إلى ليلى وأوردت تفاصيل قصتها.

ليلى طلبت المساعدة في العثور على والدها الذي اختفت آثاره عام 1993، معتقدةً أنّه في جنوب لبنان مع أهله. لكنّها تفاجأت بعد رحلتها المكّوكية في البحث عنه بأنّ الجميع يظنّون أنّه يقيم في فرنسا مع عائلته، مستغربين عدم محاولته الاتّصال بهم خلال هذه المدّة؟

فأين هو ناظم رومية؟ وهل ما زال على قيد الحياة؟ وبعد جولاته في لبنان وفرنسا وكولومبيا، هل تلتقيه ليلى التي غادرت فرنسا راجيةً أن تعثر على أثر له في لبنان؟

رواية ليلى

تروي ليلى: “بدأت الحرب عام 1983، وهي السنة نفسها التي قصدنا فيها لبنان أمي أبي وأنا، فاختارت أمي العودة الى فرنسا ورجعنا معاً. ولدى عودتنا حصل خلاف بين والديَّ، فقرّرا الانفصال، خصوصاً أنّ والدي لم يعش حياةً مستقرّة وطبيعية، وهذا ما لمسته خلال بحثي عنه. وقد سُجن في فرنسا بسبب محاولة تهريب مخدّرات، فاستغلّت والدتي غيابه في السجن لتلوذ بالفرار الى جنوب فرنسا وتمكث هناك الى جانب عائلتها، كان عمري 9 سنوات آنذاك، وطلبَت أمي منه في السجن عدم تتبّع اثرَنا لأنّها لم تعُد راغبة بوجوده في عائلتها، وقالت لي إنّه توفي. إلّا انّ والدي، وبعد خروجه من السجن، قصد الجنوب الفرنسي محاولاً استرجاعي، فتصادم مع والدتي وأقاربها النافذين هناك، ولم يستطِع الاحتفاظ بي”.

وتضيف ليلى أنّ والدها “كان شابّاً وسيماً وقويّ البنية، دخل في عراك شرس مع الشرطة الفرنسية اثناء محاولته استعادتي، وقد استغلّ الأمن الفرنسي قصّة سجنه في السابق ليعود ويزجّ به في السجن مجدّداً لسنوات عديدة إضافية على خلفية محاولته اصطحابي الى لبنان والمعركة التي شنّها على الشرطة”. وتتابع: “كبرت على معلومة مفادُها أن لا والد لي، بينما جميع الاطفال لديهم آباء. حتى اسم والدي لم تطلِعني أمّي عليه، وعندما كبرتُ عرفتُه وحدي، أساساً كيف أعرفه وأنا لم أنادِه يوماً “بابا”.

في الثانية عشرة من عمري، وبينما كنت أقلّب اوراق أمّي خفية عنها وجدتُ ورقة طلاقِها من والدي وعرفتُ أنّ أبي لبنانيّ واسمه ناظم هاني رومية، فاحتفظتُ بالأوراق، ومنذ ذلك الحين بدأت البحث عنه، وقرّرت أن أزور لبنان عندما أكبر لكي أبحث عنه، وعلى الرغم من الجمال الذي تتّصف به أمّي الشقراء ذات العينين الزرقاوين، فإنّ شكلي العربي وملامحي الشرقية ومحاولة رفاقي دوماً الأشارة الى الأمر، نمَّيَا في نفسي هذا الشعور، خصوصاً حينما كانوا يقولون لي: لماذا لا تتكلّمين العربية يا ليلى؟”. وتضيف: “في العشرين من عمري كنت أتناول المشروب مع أمّي في أحد المقاهي وكانت في حال استرخاء، فاستدرجتها وعرفت كثيراً منها عن والدي، إلّا أنّني لم أخُض يوماً في مسألة الديانة التي أزعجت الطرفين. فأخبرتني أمّي أنّ والدي شارك في حرب لبنان وحرب المخيّمات الفلسطينية في الأردن، وهو ليس جيّداً، على حدّ قولها، لكنّها أحبّته على الرغم من ذلك، إلّا انّها لم تستطع الاستمرار في نمط حياته. ولم تُنكر أنّه “كان طيّباً وأنّه هو الذي اختار اسمي” مشيرةً إلى أنّ “والديَّ لم يتزوّجا إلّا حينما رزقا بي، فسارع والدي الى مختار البلدة ليسجّلني على اسمه”، لكنّها إستدركت قائلةً لي: “إذا كان يحبّك فعلاً، لماذا لم يعُد حتى اليوم لرؤيتك؟”

بحث في لبنان

وتقول ليلى: “بعدما علمتُ أنّني لبنانية الأصل ووالدي من جنوب لبنان، بدأتُ البحث، واتّصلت بالشرطة الفرنسية محاولةً معرفة تاريخ خروجه من السجن في باريس، ويبدو أنّه رحل عام 1992، أي يوم كان عمري 12 سنة. لم أيأس، وبدأ انتشار الانترنت في تلك الحقبة، فحاولت الاتصال بأحدٍ من عائلة رومية وعرضتُ صورة لي مع والدي، وهي الوحيدة التي لي معه، وقد وجدتُها بين أغراض أمّي القديمة. وكنت أبعث الرسائل عبر البريد الالكتروني الى كلّ أصقاع العالم …لفترة قاربَت السنوات ولم أتلقَّ ايّ إجابات، ولكنّني لم اتوقف يوماً أو أيأس، بعدها اتّصلت بالقنصل اللبناني في فرنسا محاولةً الاستفسار منه عمّا إذا كان يعلم شيئاً عن والدي، وقلت له إنّني من قرية تدعى “الرمادية” في جنوب لبنان، وإنّ والدي ناظم رومية، وعرضتُ عليه اوراقي الثبوتية، فأرسل لي جوابا خطّياً معتذراً عن عدم استطاعته فعل شيء، وأن لا أثر لوالدي في لبنان. الأمر الذي أخافني، وأثارني وأغضبني”.

وتتابع ليلى: لقد طرت فرحاً عندما تلقّيت ردّاً عبر الانترنت من قريب لي من عائلة رومية من الكويت يدعى محمد، قال لي فيه إنّه قريبي ويعرف عمي صلاح جيّداً، وهو مقيم في الكويت ايضاً. تمسّكت بهذا القريب كأنّه كنز ثمين وتوسّلته عبر الانترنت ان يستعلم من عمّي صلاح عن والدي، وسألته ما اذا كان يعلم بوجودنا أنا وأمّي، وطلبت منه إبلاغ العائلة بأنّ لناظم رومية ابنة في باريس تريد ملاقاته والتعرّف إليه. فرح عمّي وتأثّر تأثّراً شديداً، وتوسّلته لكي اتصل به، وهكذا كان فتريثت ليومين قبل الطلب من صديقتي إجراء هذا الاتصال، إذ إنّني كنت متأثّرة بنحو لا يوصف…

«ألو عمّو صلاح»

إعتقدَ عمّي أنّني أنا المتكلمة ولكنّني كنت جالسة قرب صديقتي التي فتحت مكبّر الصوت فسمعت كلمة “حبيبتي ليلى” وصوت شخص يجهش بالبكاء. وهذا ما حصل معي ومع صديقتي ايضاً، وقد علمتُ انّ لوالدي عائلة كبيرة ومعروفة جدّاً في بلدة الرمادية في جنوب لبنان وتملك أراضي شاسعة وهي ميسورة الحال.

أين والدك يا ليلى؟

أين والدك يا ليلى؟ كان السؤال الذي أعاد الخوف إلى قلبي بعد السعادة التي شعرت بها نتيجة لقائي بالأحبّاء. فأجبتُ: “أنا التي أسألك، فمعلوماتي أنّه غادر الاراضي الفرنسية عام 1992 ومن المفترض ان يكون رُحِّل الى لبنان، فأجابني عمّي أنّه لم يرَ والدي منذ 20 عاماً، وأنّ ابي اختفت آثاره عام 1992، معتقداً أنّه يقيم معنا في فرنسا، وموضحاً أنّه كان في لبنان في 1992، وهذا ما اعتبرته صحيحاً لأنّني علمت انّه رُحِّل من فرنسا عام 1992، وقد رأته العائلة كلّها لأنّه بقي مدّة ستة اشهر هناك ليغادر بعدها، لكنّهم لم يعرفوا وجهته، وظنّوا انه معنا في فرنسا. دعاني عمّي الى الكويت، إلّا انّني فضّلت المجيء الى لبنان للتعرّف الى هويتي الكاملة وعائلتي، وأبلغت العائلة بموعد قدومي في 15 أيار 2010، وفجأةً أصبحت لديّ عائلة كبيرة وتحبني وتريدني. تأثّرت جداً لهذا الانقلاب في حياتي ولكنّ فرحتي لم تكتمل.

أتت ليلى لتنتخب !؟

أجمل شيء في رحلتي التي لم تكن عادية الى لبنان، وإلى مطار بيروت تحديداً، كان في 15 أيار 2010 يوم الانتخابات البلدية في جنوب لبنان، وكانت القرى قد حشدت ابناءَها واستنفرت الغائبين والحاضرين للتصويت، وهذا ما برّر اجتماع عائلتي كلّها التي قدمت من الخارج للتصويت لأحد اقاربنا الذي ترشّح لرئاسة البلدية في القرية وللائحته. أمّا انا فقد أتى شابّان لاصطحابي وهما أولاد عمّي ويعملان في افريقيا، وقد أتيا ليومين فقط للتصويت في الانتخابات، ولدهشتي أثناء وصول الطائرة الى المطار سمعت صوت الكابتن ينادي باسمي فخفتُ واعتقدت انّ سوءاً ما سيصيبني، إذ تذكّرت في تلك اللحظة ما اخبرَتني إيّاه امي عن ارتباطات أبي المشبوهة في المنظّمات وفي حروبه في المخيّمات. إلّا انّني تفاجأت حين طلب منّي الربّان جواز السفر، واقترب شخصان وطلبا منّي التوجّه معهما، وفجأة وجدتُ نفسي مع اولاد عمي الذين اتّجهوا بي الى قريتي الرمادية. وطوال الطريق كنتُ أبكي، بعدما تعانقنا، وقالوا لي إنّ العائلة كلّها تنتظرني.

أين ناظم رومية؟

قالوا لي إنّ السلطات الفرنسية رحّلته الى لبنان عام 1992 فمكث في لبنان 6 أشهر، ومنذ ذلك لم يعودوا يعرفون عنه شيئاً.

قصّة السيّدة الثَريّة

أمّا القصة المثيرة فكانت لقائي بالسيّدة الثرية البيروتية صديقة والدي المقيمة قرب شارع فردان والتي كانت تملك محلّات ألبسة اوروبية جاهزة من الماركات المهمّة. قصدتها بعدما عرفت مكان إقامتها، فدهشَت كثيراً عندما أعلمتها بأنّني ابنة ناظم رومية، وشهقَت، وعلى الرغم من كبرها في السن فقد ظهرت معالم جمالها في تفاصيل وجهها وقامتها، وقالت لي إنّ آخر اتصال حصل بينها وبين والدي كان عام عام 1993 من كولومبيا، حيث طلب منها مبلغاً من المال فحوّلته له، وأطلعتني على وثيقة المصرف التي تؤكّد صحّة أقوالها”.

 

وتتابع ليلى: “اتّصلت بالدولة الكولومبية محاولة معرفة ما إذا كان والدي مسجوناً لديها أم أنّه مقيم هناك، فلم أتلقَّ سوى إجابات سلبية. كذلك اتّصلت بسفير لبنان في كولومبيا لمتابعة القضية فلم يتوصّل الى شيء. وقد ردّد أهالي الرمادية أقاويل وإشاعات كثيرة حول إختفاء والدي، ومن ضمنها مشاركته في القتال وأنّه وبعد عودته الى لبنان عمل في تجارة المخدّرات وتهريبها، لكن لا دليل يثبت ذلك. وما زلتُ احبّه وما زال والدي وأريد أن أعرف ما إذا كان على قيد الحياة أم لا.

السائق الغريب والقلادة

ما آلمني أثناء وجودي في قريتي الرمادية هو أنّ سائق تاكسي من بيروت مرّ في محطة يملكها أحد أقاربي، وتبادل هذا السائق أخبار اهل القرية مع قريبي، وبعدما اخبره عن قصة رجوعي إليها أكّد له السائق أنّه يعرف والدي جيّداً وأنّه التقاه في بيروت وأنّه يذكر جيّداً القلادة التي كان يضعها حول عنقه، وكان غالباً ما يفتحها ليرينا صورة ابنته ليلى في داخلها. وبعدما علمتُ بهذه القصة فقدتُ صوابي لأنّ قريبي لم يتعرّف جيّداً الى سائق التكسي الذي توجّه الى بيروت”.

ليلى رومية اليوم متزوّجة من شاب لبناني وتقيم في بلدة “المطيلب” في المتن الشمالي، بعدما حطّت رحالها في لبنان في رحلة بحث دائمة عن والدها. وعلى الرغم من نجاح زواجها ووقوف زوجها والعائلة الى جانبها فإنّها ما زالت تعيش حال اضطراب داخليّ، فهي عاطفية الى أبعد الحدود، والدموع لم تفارق عينيها أثناء سردِها قصتَها حتى بتفاصيلها الدقيقة المؤثّرة. وقد أغدقت كلّ حبّها وعاطفتها على ابن زوجها الصغير الذي خصّصت له مكانة مهمّة في قلبها وعالمها وبيتها.