السعودية الفردوس

بقلم: سمدار بيري

‘البنت وعد محمد في الحادية عشرة من عمرها فقط، أصابت ملايين السعوديين بالجنون ومشاهدين ذواقين ايضا في مهرجانات أفلام دولية، بل فعلت ذلك بنقاد سينما متشددين ووخازين. إن عينيها كبيرتان براقتان، ومن وراء النقاب تتدلى سماعتان تصدر عنهما موسيقى تقنية، وهي تهز رأسها بحسب الايقاع. وبين بيتها في الحي المُغبر في الرياض وسوق الحي الغافية ومدرسة البنات وحدهن، تنتقل بين عالمين: بين الجيل القديم المحافظ المتشدد، حيث لا يجوز للنساء الحضور مع أبناء الجنس الآخر، وبين جيل الشباب الذين درسوا في الخارج ورأوا حياة اخرى وهم في خيبة أمل عميقة.

وهي تجري بجلباب اسود وحذاء كونفرس رياضيا، ومع سنيكرز وسماعتان وسراويل جينز وبلا أدنى تجربة أمام عدسات التصوير، مثَلَت في مركز الاخراج وحصدت دورا رئيسا. إن وعد محمد هي نجمة ‘واجدة’، وهو الفيلم السينمائي الاول (والوحيد) الذي كُتب وأُنتج وأُخرج ومُثل في السعودية المنغلقة، التي لا يوجد فيها دور سينما الى اليوم.

‘لا يخطر بالبال’، يقول وجدي ملحم، وهو محلل قديم في الاعلام السعودي، ‘أن يجلس الرجال والنساء في المكان نفسه معا، وأن يجعلوا القاعة مظلمة ايضا في اثناء مشاهدة الفيلم’. وتقول المخرجة هيفاء المنصور، ابنة التاسعة والثلاثين: ‘حينما تتوسل صديقاتي في السعودية إلي لرؤية الفيلم أوصيهن بدخول سيارة وأن يسافرن اربعين دقيقة الى قاعة سينما في واحدة من الامارات الجارة. لكن لا يمكن السفر بصورة عفوية لأنه لا يجوز للنساء قيادة السيارات في السعودية بل يجب ايجاد سائق، وهذا أمر غير منظم’.

إن ‘واجدة’ عمل سيزيفي لامرأة ذات تصميم. فقد ناضلت المنصور خمس سنوات الى أن نجحت في احراز موافقة وتمويل لتصوير فيلم روائي أول في السعودية. ‘كان ذلك مرهقا، لكنني لم أستسلم’، تقول. ‘حينما كتبت السيناريو عرفت ما هي المواضيع الحساسة وما الذي لن يمر، ولن أتخلى عما بدا لي مهما. لكنني حينما جئت الى رجال اعمال في العالم العربي وطلبت أن ينفقوا على الفيلم رفضوا ذلك وقالوا: لا توجد هنا حركة.

‘إن أسهل شيء رفع اليدين استسلاما والشكوى من أن وضع النساء في السعودية صعب جدا. وأصعب من ذلك أن تحشر نفسك وتتسلل الى المنطقة الرمادية بين الجيل القديم المنغلق وبين شباب السعودية الذين يريدون أن يعيشوا حياة مفتوحة’.

وتقول إن هؤلاء الشباب يريدون ألا يُملى عليهم ما يفعلونه. لكنهم لا يعلمون ايضا ان التغيير الكبير سيكون مؤلما ولن يحدث دفعة واحدة.

ذروة الاذلال للمرأة

إن قصة ‘واجدة’ بسيطة وساذجة في ظاهر الامر، نرى في المشهد الاول صفا طويلا ذا لون واحد لنعال سوداء في أقدام طالبات مدرسة. لكن يوجد ايضا زوجا أحذية رياضيان وهما لواجدة التي توبخها المديرة لأنها تجرأت على أن تتجاوز المعتاد. وهي في طريقها الى البيت تشاهد في حسد ابن الجيران عبد الله الذي يركب دراجة هوائية، وهو يعطيها هنا وهناك دورة في ساحة البيت مما يسبب امتعاض أمها التي تحذرها بقولها: ‘إحذري أن تفقدي بكارتك وأن يضطر أبوك الى علاجنا معا’.

ويستقر رأي واجدة على ادخار مال كي تشتري لنفسها دراجة هوائية. وتتحول حقيبتها المدرسية الى دكان متنقل لاعمال يدوية تبيعها لصديقاتها الى أن تُضبط، وفي هذه المرحلة يستقر رأي البنت المشاغبة على أن تُنافس في مسابقة حفظ للقرآن فتحفظ عن ظهر قلب صورا طويلة وتجتهد وتُرتل وتفوز بالجائزة الاولى، وحينما تسألها المديرة الصارمة ماذا ستشتري لنفسها بمال الجائزة تفتح واجدة عينيها البراقتين وتهمس قائلة ‘دراجة هوائية’، وترتعب المديرة وتعلن أن الحديث عن ‘فساد’، وتقرر أن يتم تحويل مال الجائزة باسم الفائزة تبرعا الى الفلسطينيين في المناطق. وفي النهاية وبعد ازمة عائلية كبيرة تحقق واجدة حلمها وتمضي منطلقة على الدراجة الهوائية نحو الأفق غير المعلوم، بين الجيل القديم والجيل الذي تُغلفه الآمال.

لكن هذه هي قصة الاطار فقط، فالمشاهدون لـ’واجدة’ يحصلون على فرصة نادرة لمشاهدة الحياة اليومية للطبقة الوسطى الدنيا في مملكة النفط الغنية.

مصممة ومشاغبة ومغامرة

وُلد سيناريو ‘واجدة’ عند المنصور بعد أن عادت من دراسة الأدب المقارِن في الجامعة الامريكية في القاهرة. وتتذكر قائلة: ‘شعرت فجأة بأنني في السعودية أدخل في حالة من ترى ولا تُرى. واشتعلت القصة عندي لكنني علمت أن من السابق لأوانه جدا أن أُخرجها وأُحدث فضيحة وتذرعت الصبر’.

إن المنصور هي الثامنة بين 12 ابنا للمرحوم الشاعر عبد الرحمن المنصور. وهي تقول: ‘كان أبي انسانا مميزا وحساسا. وقد زرع فيّ حب السينما في سن صغيرة حينما كنا نشاهد معا أفلاما في فيديو المنزل. وقد شاهدت كل الافلام الكلاسيكية وأثر بي ذلك جدا. وحينما ضغطت عليه أرسلني لدراسة الاخراج السينمائي في استراليا، التي هي المكان الأبعد كي لا يُشيعوا في السعودية اشاعات عني’.

وحينما عادت الى الرياض أخرجت ثلاثة أفلام وثائقية عن عالم النساء في السعودية، أحدها وهو ‘نساء بلا حدود’ فتح لها بابا كبيرا، فقد دُعيت المنصور مع فيلمها الى وزارة الخارجية في واشنطن، حيث لقيت الدبلوماسي الامريكي برادلي نايمن، ونشأت بينهما علاقة غرامية وتزوجا قبل سبع سنوات، لكن لم يكن ذلك قبل أن يُسلم زوجها ويصبح له اسم جديد هو عبد الحكيم. وللزوجين ولدان آدم وهو في السادسة وهيلي وهو في الثالثة. وتُبيح المنصور لنفسها اليوم أن تكشف عن أنها جاءت الى عرسها في السعودية وهي تقود بنفسها سيارة غولف مزينة بأزهار بيضاء.

بحسب هذه السيرة الذاتية يسهل جدا أن نُخمن من هي الشخصية الحقيقية التي تُجسدها شخصية البنت واجدة المتمردة وغير العادية. وتقول المنصور في ذلك: ‘يقول أناس كثيرون إن هذه البنت المصممة والمشاغبة والمغامرة هي أنا’.

قبل ثلاث سنوات نجحت في الوصول الى الأمير صاحب المليارات الوليد بن طلال الذي يعمل على الدفع قدما بمكانة النساء في السعودية.

وتحمس ابن طلال مالك قناة التلفاز ‘روتانا’، وتحمس للسيناريو وحصل على موافقات على التصوير، واقتسم الانفاق مع شركة انتاج في المانيا. واستقر رأي المنصور على أن يكون الممثلون جميعا سعوديين، رغم أنه ليست لهم تجربة سينمائية. ومثلت دور أم واجدة الحسناء، ريم العبد الله وهي مقدمة أخبار قديمة.

وكانت المشكلة الكبرى أن توجد الممثلة التي تؤدي دور البنت. وتقول المنصور: ‘جاءت 50 بنتا. لم تلائم طائفة منهن؛ وأرادت أخريات الدور لكنهن واجهن رفض الآباء الذين خشوا أن يسيء الفيلم الى سمعة عائلاتهن. وبقينا من غير الممثلة الرئيسة الى ما قبل التصوير باسبوع. وفجأة ظهرت وعد مع السماعتين وعرفت فورا أنني وجدت بالضبط ما كنت أبحث عنه’.

ورغم الموافقات الرسمية لقي فريق الانتاج صعوبات راكمها سكان الحي في ضواحي الرياض، حيث تم التصوير.

تقول المخرجة: ‘تلقيت تهديدا بالقتل، وقالوا كل شيء عني، قالوا إنني كافرة وإن نعشي أصبح مُعدا. وصاحوا بنا: إذهبوا من هنا. لكنهم لانوا بالتدريج وجاؤونا بشراب ونظروا في حب استطلاع′.

أخرجت المشاهد بجهاز تحكم من بعيد. ‘حصلت على شاحنة كبيرة غطيناها بستائر محكمة الاغلاق واختبأت في داخلها لمنع الشكاوى من الاختلاط بين الرجال والنساء. وكان لي في الشاحنة جهاز تحكم من بعيد تابعت بواسطته ما كان يجري في موقع التصوير. وأصدرت أوامر اخراج من الشاحنة بالصراخ أو عن طريق اجهزة اتصال. وكان ذلك عملا مرهقا وبح صوتي بسبب الصراخ، ولم يسمعوني احيانا بجهاز الاتصال لكننا نجحنا آخر الامر’.

طلاق بسبب الفيسبوك

سيصل الفيلم بعد اسبوعين الى دور السينما في اسرائيل، بعد أن عُرض في سلسلة طويلة من المهرجانات الفخمة الشأن. وقد حضر العرض في مهرجان البندقية المخرجة المنصور والنجمة وعد محمد مع دراجتين هوائيتين خضراوين لتكون حيلة دعائية تسويقية. واندفعت نحو البنت فورا معجبات ايطاليات واقترحن تبنيها، ‘كي لا تعود الى حياة البؤس في السعودية’.

ورغم أن الفيلم عُرض في جدة عاصمة اعمال السعودية مرات معدودات فقط، في مراكز ثقافية للسفارات الاجنبية، قدمت وزارة الداخلية السعودية ‘واجدة’ لمسابقة الاوسكار لأفضل فيلم اجنبي. ويُقدر كثيرون أنه سيكون بين الافلام الخمسة المرشحة النهائية. وتقول المنصور: ‘إنهم يفخرون بي الآن ويباركونني على هذا الانجاز، لكن يؤسفني أنهم لا يعرضون الفيلم عرضا احتفاليا في السعودية’.

وفي هذه الاثناء بدأ شيء ما يتحرك في مكانة النساء السعوديات المنخفضة. فقد دخلت ثلاثون امرأة لأول مرة الى المجلس الاستشاري للقصر الملكي الذي يشتمل على 150 عضوا، بيد أن المستشارات الجديدات وهن اكاديميات وطبيبات ومحاميات ونساء اعمال حُكم عليهن بأن يقبعن وراء ستار في القصر، وأن ينقلن توصياتهن الى ديوان الرجال بواسطة رسائل الكترونية ‘كي لا يكون اختلاط وكي لا يُسمعن اصواتهن المغرية’.

وبدأ يتصدع ايضا منع السفر الى الخارج من دون محرم. فقد حصلت 500 امرأة بارزة في مجالهن على اعفاء من الحاجة الى الحصول على إذن من محرم للسفر، لكن رسالة الى هاتف المحرم المحمول الأب أو الأخ أو الزوج تُبلغه في لحظة أن ‘محرمه’ تدخل منطقة السفر في المطار. فاذا أصر المحرم فانه يستطيع أن يمنع السفر الى الخارج في آخر لحظة.

أخذ يبدو تحسن ضئيل بالهام من فيلم ‘واجدة’: فبفضل هذا الفيلم سمحت وزارة الداخلية السعودية لنساء المملكة لأول مرة بركوب الدراجة الهوائية، بشرط أن تكون الراكبة مع محرم مُجلببة مُنقبة (من تستطيع ركوب دراجة هوائية بهذا اللباس الثقيل جدا؟)، وبشرط أن يتم الركوب في شوارع جانبية بعيدا عن ضجيج الحركة. ولا تكتفي منظمات حقوق انسان سعودية بالدراجة الهوائية، لأن آلاف النساء سيجلسن غدا وراء المقاود ويقدن السيارات مدة نصف ساعة في شوارع المدن الكبيرة احتجاجا على اضطهاد النساء في الدولة.

أعلن الفقهاء من قبل أن ‘السياقة خطيرة على الرحم والمبيض وتفضي الى ولادة اطفال مشوهين’، لكن قائد شرطة الآداب في الرياض، الشيخ عبد اللطيف، يُبين إنه ‘لا يوجد في الشرع الاسلامي منع سياقة النساء’.

فلماذا مُنعت النساء السعوديات السياقة مع كل ذلك؟ تقول هيفاء المنصور: ‘ترفض وزارة الداخلية ان تصدر لهن رخص سياقة كي لا ينشأ احتكاك بالرجال عند الاشارات المرورية. ويوجد ايضا خوف من ان تشجع السياقة النساء على الخروج من البيوت وعلى تحطيم قيم العائلة’.

إن استطلاعا نشر أول أمس جعل السعودية في المكان الثاني من حيث عدد حالات الطلاق في الدول العربية، بعد عُمان: ففي كل يوم يتطلق هناك 82 زوجا أي ثلاثة في المعدل كل ساعة. ويشير الاستطلاع الى أن الاسباب الرئيسة للطلاق هي الخيانة والزنا.

‘كانوا يتطلقون الى ما قبل ثلاث سنوات في الأساس بسبب إدمان المخدرات’، يُبين عالم الاجتماع السعودي، الدكتور محمد فاضل. ‘قبل سنتين لاحظنا احتكاكا بين أزواج بسبب إدمان النساء للتسوق. واليوم أتاح الفيسبوك وتويتر فرصا جديدة للنساء ايضا. فالتي تعاني في البيت تتجه الى الشبكات الاجتماعية، ويسهل عليهن في مملكة غنية كالسعودية أن يبادرن الى حل الزواج بشرط أن يوافقن على التخلي عن الممتلكات وتربية الأبناء’.

إن فيلم ‘واجدة’ يعبر ايضا عن أحداث داخل العائلة السعودية، فحينما تُصر البنت على أن تركل الأعراف تحذرها أمها بقولها: ‘اذا استمررت في الشغب فسأهتم بأن آتيك بعريس′.

والأب لا يعيش معهما، وحينما يأتي للزيارة تتزين الأم وتطيعه، وهي ما زالت تحب زوجها وتخدمه في استسلام. وفي لحظة ما يتزوج امرأة اخرى وتشاهد ابنته واجدة وأمها مراسم الزواج من بعيد.

وتُبين المنصور قائلة: ‘اخترت متعمدة أن أحصر القصة في البنت، فهي ترى ما يجري على النساء من الجيل القديم، لكن لا تنطبق عليها الى الآن القواعد المتشددة. فقد تكون هي التي تنجح في إحداث التغيير الكبير الذي يتمناه الجميع′.

يديعوت أحرنوت