تهدد باشتعال كبير.. العمليات الفردية تتحول إلى "موضة" فلسطينية

بقلم: عاموس هرئيل
بقي نحو عشرة شبان فلسطينيين فقط، الثلاثاء الماضي، في الساعة الرابعة بعد الظهر في الشارع المحاذي لجدار الفصل، في بلدة أبو ديس شرقي القدس. أحدهم، يلبس قميصا أحمر، كان يقطع بين الحين والآخر بخطى سريعة الشارع على عرضه، يقذف الشتائم بالعبرية ويقذف الحجارة على شرطة حرس الحدود الذين وقفوا قبالته، ولكنه يحافظ على مسافة آمنة بعيداً عنهم. وبدا أفراد الشرطة التعبون سئمين للغاية. أطلقوا هنا وهناك عيارات مطاطية باتجاه المتظاهرين، كأنه على سبيل رفع العتب. انتفاضة كسولة.

في الليلة السابقة هدم الجيش الاسرائيلي هيكل مبنى وتلة تراب عالية اقيما بمحاذاة الجدار من الجانب الفلسطيني، الشرقي. الجدار مبني في هذه المنطقة من سور عالٍ، وحش اسمنتي ضخم يقطع ابو ديس الى قسمين. التلة الترابية، التي على مدى اشهر طويلة ازدادت ارتفاعا بالتدريج غطت حتى الان اكثر من خمسة من اصل سبعة امتار هي طول السور في اقصى ارتفاعه، ودرج الفتيان الفلسطينيون على استغلالها واستغلال هيكل المبنى المجاور لرشق الحجارة والزجاجات الحارقة على سيارات الدورية التي تتحرك في طرفه الثاني. ردت السلطة الفلسطينية محاولة جس نبض اسرائيلية في محاولة للاستيضاح اذا كانت تستطيع بنفسها أن تزيل المبنى، وفي الجيش الاسرائيلي قرروا العمل.

استعدوا في الجيش لجلبة كبرى، في ضوء العملية الاستثنائية نسبيا في الفترة الاخيرة وتوقعوا وصول 600 متظاهر على الاقل.

ولكن سري نسيبة، رئيس جامعة القدس، التي يحاذي حرمها المبنى المهدوم، سمع في الليل عن الحملة الإسرائيلية، وقرر الغاء الدراسة. ولم يصل 12 الف طالب الى دراستهم، ولم يتجاوز عدد المتظاهرين في أي مرحلة الـ 200. وأصيب متظاهرات بجراح طفيفة بنار رجال حرس الحدود، واعتقل اثنان آخران. وخبت المظاهرة بعد بضع ساعات.
من الصعب التسوية بين التقارير المختلفة التي تصل الان من الضفة الغربية. فمن جهة فقدت المظاهرات الشعبية ضد المستوطنات والجدار زخمها في الاشهر الاخيرة، وحتى عمل اسرائيلي لهدم مبانٍ، والذي يعتبر كالاصبع في العين الفلسطينية، لم تخرج في ابو ديس الجماهير الى الشوارع. في رمضان الماضي قضى مئات الاف الفلسطينيين من الضفة وقت فراغهم في غربي القدس، والكثيرون منهم في تل أبيب أيضا، يجتازون الحواجز دون عراقيل بموافقة الجيش والشرطة (في الادارة المدنية وصلت مؤخرا رسالة شكر من مدير مجمع تجاري شهير في القدس، يهنئ بالارتفاع المتزايد للمبيعات بفضل الزوار الفلسطينيين في رمضان).

من جهة اخرى، هذا الهدوء النسبي، اللامبالاة الواضحة لمعظم الجمهور في الضفة (والذي يصر الجيش الاسرائيلي على تسميته "الشارع") لا ينسجم مع سلسلة الاحداث الاخيرة التي وثقت في الصحافة بتوسع. في تلك الليلة التي هدمت فيها التلة في ابو ديس، حاصرت قوة من وحدة "يمم" الخاصة المطلوب في "الجهاد الاسلامي"، محمد عاصي، الذي اختبأ في كهف قرب قرية بلعين غربي رام الله. عاصي، الذي تقول المخابرات: انه بعث بـ "المخرب" الذي زرع عبوة ناسفة فأصاب بجراح مواطنين في باص في وسط تل أبيب في تشرين الثاني من العام الماضي، ادار اشتباكا مسلحا مع رجال وحدة "يمم" وقتل بصاروخ.

مثل هذا الحدث، لمطلوب مستعد لان يقاتل حتى الموت، لم يسجل في الضفة منذ أكثر من سنتين. وهو ينضم الى سلسلة أحداث استثنائية على مدى أقل من شهر: قتل شريه عوفر في غور الاردن، عملية الجرافة في معسكر الجيش الاسرائيلي قرب الرام، الاسبوع الماضي، واصابة طفلة بنار فلسطيني تسلل الى مستوطنة بساغوت. واعترف ضابط كبير في قيادة المنطقة الوسطى، سُئل عن الحدث الذي قتل فيه المطلوب بأن "الميدان يتصرف بشكل مختلف الان". الضابط، مثل زملائه في الجبهات الاخرى في الضفة، لم يجد علاقة واضحة بين الاحداث، ولكنه شخص مع ذلك ميزة مشتركة. هذه الاحداث توصف بانها "عمليات أجواء": مبادرات محلية يقوم بها أفراد، في الغالب بلا انتماءات تنظيمية، حيث إن كل نجاح لـ "مخرب" – يحظى بتغطية اعلامية واسعة – يشجع آخرين على محاكاته والعمل ضد قوات الأمن والمدنيين الإسرائيليين. كما يفهم "المخربون" بأن العمل الذاتي، بدلا من أن يكون جزءاً من خلية، سيجعل من الصعب على المخابرات العثور عليهم مسبقا واعتقالهم قبل أن يتمكنوا من تنفيذ مخططهم.

هذه الاعمال لا تجترف حاليا الجماهير، ولا تجعل الشوارع ساحة اشتباك، مثلما كانت في المراحل الاولى من الانتفاضتين. ولكنها تكفي لتصعيد الدافعية لدى مزيد من الشباب. ويضاف الى ذلك بعض الضعف في سيطرة أجهزة امن السلطة الفلسطينية في مدن الضفة، والذي يجد تعبيرا واضحا له اساسا في بعض مخيمات اللاجئين، حيث عاد النشطاء الى حمل السلاح علنا خلافا لتعليمات الاجهزة.

وحيال استيقاظ الميدان يواصل الجيش الاسرائيلي استخدام الوسائل الموجودة تحت تصرفه في الضفة. فلم يتقرر بعد تعزيز حقيقي للقوات او عقاب جماعي، مثل اعادة الحواجز واستئناف العلاقات او منع التجول. وبقيت حجوم القوات الدائمة في الضفة صغيرة جدا مقارنة بالانتفاضة. 16 كتيبة فقط في كل الضفة (مقابل 23 قبل ثلاث أو أربع سنوات) والان لا يزالون يفكرون بتقليص آخر في السنة القادمة. في العام 2014 يخطط للتخفيض الى الحد الادنى لعدد كتائب الاحتياط التي ستخدم في أعمال تنفيذية: الوحدات النظامية، بدلاً منها سيتعين عليها أن تمضي في المناطق فترات أطول على نحو خاص.

حالة العصبية في الميدان تنعكس أيضا في المسعى الاسرائيلي لتصعيد نشاط الإحباط المسبق، مثل العملية ضد المطلوب عاصي. ويتعلق القلق الاسرائيلي بشكل غير مباشر ايضا بالمفاوضات السياسية، التي لا تزال تجري بكتمان نادر من السرية مع السلطة. ولو أن عاصي وامثاله نجحوا في ان ينفذوا هذه الايام عملية عديدة الاصابات لكان من شأن الامر أن يؤدي الى شل المحادثات والتوتر بين حكومة نتنياهو وادارة اوباما، المعنية باستمرارها. كما توجد ايضا مسألة تحرير السجناء: في الاسبوع القادم يخطط "لدفعة ثانية" من اصل أربع في اطارها سيخرج الى الحرية 29 سجينا فلسطينيا من اصل 104. كل عملية اخرى ستشعل نار الخلاف الداخلي في الحكومة على تحرير السجناء.

السبت الماضي، في غزة، دعا رئيس حكومة "حماس"، اسماعيل هنية، الى انتفاضة جديدة في "المناطق". في الضفة، مثلما في اسرائيل، لا يولون التصريح اهمية كبيرة. فهو يبدو كمحاولة من "حماس"، التي تعيش تضييقا شديدا تمارسه اسرائيل ومصر على القطاع، أن يركب بالمجان على ظهر الاحداث الاخيرة في مناطق السلطة وتشجيع الاضطرابات هناك بحيث تزعج القيادة الفلسطينية المنافسة.

اذا ما طرأ قريبا اندلاع أوسع، فانه لن يحصل بسبب "حماس" في غزة. فالخطر الاساس يكمن في التوتر المتصاعد في الحرم، حيث يتعاظم انتقاد الفلسطينيين (والى جانبهم الأردن) على ما يبدو لهم كجهد منظم من اليمين الاسرائيلي لخرق الوضع الراهن. فتزايد زيارات الحاخامين والمصلين في الحرم، والنشاط الحثيث لمنظمات مختلفة يقلق الطرف الاخر. وحدث كذاك الذي وقع بعد زيارة ارئيل شارون في ايلول 2000 واشعل نار الانتفاضة الثانية من شأنه ان يدفع التوتر الحالي الى التدهور نحو مواقع اخرى، اسوأ بكثير مما شهدناه حتى الان.

حرره: 
م.م