عدم نزاهة الوسيط الأميركي يعرقل حل الدولتين

بقلم: مايا روزنفيلد* 

قبل سنوات غير كثيرة كان البروفيسور ايان لوستيك، الباحث الضليع في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، يعتبر من المؤيدين الواضحين لحل الدولتين. ومع اني تابعت عن كثب عملية ابتعاده عن هذا الموقف، فان مقاله "وهم الدولتين" الذي نشر، مؤخراً، في "نيويورك تايمز" وفي "هآرتس" فاجأني. ثمة فارق كبير بين رفض حل الدولتين على اساس ما فعله بهذا الحل سلسلة من مقرري السياسة الاسرائيليين والادارات الأميركية، وبين رفضه لصالح البديل الذي يعرضه لوستيك في مقاله، والذي يتعارض في جوهره مع مفهوم الحل العادي الذي كان يتبناه حتى وقت قصير والذي شاركته فيه كزميلة وصديقة.
قبل أكثر من عقد، عندما كان ارئيل شارون في ذروة حملته لتصفية ياسر عرفات وتحطيم السلطة الفلسطينية، أعلن الرئيس جورج بوش عن تأييده لقيام دولة فلسطينية مستقلة ومتواصلة، واطلق صيغة "خارطة الطريق". ويخيل أن هذا التداخل في المصالح (مصالح "مخرب" فلسطين مع مصالح مخرب العراق) ادى منذ ذلك الحين بالفجوة بين خطاب الدولتين وبين سياستهما على الارض الى الذروة البشعة والاكثر إثارة للعار. ولكن حقيقة أن بنيامين نتنياهو في ولايته الاولى، شارون، ونتنياهو في ولايته الثانية والثالثة بذلوا كل جهد مستطاع لجعل حل الدولتين كليشيه ممجوجا، وبيل كلينتون، جورج بوش وبراك اوباما، كل بطريقته، سمحوا للسلوك الاسرائيلي المجرم بالاستمرار – لا تعني أن حل الدولتين أصبح غير ذي صلة. 
في العام 1986 طرح ميرون بنفنستي الحجة القائلة إن "مشروع الاستيطان" في الضفة، الذي كان يقدر في حينه بعشر حجمه الحالي، بلغ كتلة حرجة سيمنع سيناريو انسحاب مستقبلي اسرائيلي من "المناطق". وقد حظيت فكرته بلقب "نظرية اللاعودة". وبعد نحو سنة اندلعت الانتفاضة الاولى ودحضت توقع بنفنستي، الذي لم يأخذ بالحسبان على الاطلاق العامل الفلسطيني. وثبت أن الفلسطينيين يرفضون العيش تحت سلطة الاحتلال الاسرائيلي، وـن لهم أجندة مرتبة ومتبلورة لإقامة دولة مستقلة في الضفة وفي القطاع. 
صحيح انه منذ اكثر من 25 سنة، وبعد مئات الاف المستوطنين الجدد، ومسيرة سياسية فاشلة والاف الضحايا (الاغلبية الساحقة منهم فلسطينيون) فإن احتمال أن تقوم في المستقبل القريب دولة فلسطينية في "المناطق" ليس أعلى مما كان اثناء التوقيع على اتفاقات اوسلو في العام 1993. ولكن احتمال أن يهجر الفلسطينيون تطلعهم لإقامة دولة فلسطينية في "المناطق" متدن بقدر لا يقل عن ذلك. وذلك رغم الثمن الباهظ جدا الذي دفعوه في العشرين سنة الاخيرة، ورغم الانقسام بين السلطة الفلسطينية وحكومة "حماس"، الذي تمس بشدة بقدرة الفلسطينيين على تحقيق أهدافهم الوطنية. 
ان الكفاح الفلسطيني لتقرير المصير بجوانبه المختلفة وبالتيارات المختلفة المشاركة فيه، شهد تحولات غير قليلة في هذه العقود، ولكنه بقي ثابتا على مطلب طرد الاحتلال الاسرائيلي من مناطق الضفة والقطاع، واقامة دولة مستقلة. ولا يوجد أي مؤشر الى أن المنظمات، المؤسسات، الاحزاب والحركات التي تعمل اليوم في "المناطق" تسعى الى هجر الكفاح في سبيل الاستقلال. وفضلا عن ذلك، لا يوجد ايضا مؤشر الى وجود سياقات اجتماعية وسياسية كفيلة بان تحث الى الامام ارتباطات، تحالفات، واندماجات ثنائية القومية، مثل تلك التي يصفها لوستيك في مقاله (هذا المقطع من المقال شطب من الترجمة إلى العبرية). يحتمل أن يجد يساريون فلسطينيون علمانيون (وهم نوع آخذ في الاختفاء لشدة الاسف) لغة مشتركة مع "اسرائيليي ما بعد الصهيونية"، كما يغدق لوستيك في الخيال، ولكن هاتين المجموعتين لا تتشارك في وضع اقتصادي - اجتماعي مشابه، ومصالح سياسية مشتركة. ومن جهة اخرى، فان المكانة الاخذة في الضعف للعمال الفلسطينيين، الذين يواصلون كونهم متعلقين في عيشهم بالعمل في اسرائيل وفي المستوطنات، وان كانت مشابهة بشروط العمل الضارة والوحشية بشكل خاص بعشرات الاف مهاجري العمل الذين يجتهدون من أجل البقاء على قيد الحياة في تل ابيب، الا ان امكانية ان تتضافر جهود هاتين المجموعتين المستغلتين لتعقدا تحالف مظلومين متعدد القوميات، هي امكانية غير معقولة على نحو ظاهر. ومدحوضة بقدر لا يقل عن ذلك ان يتخلى يهود اسرائيليون من اصل عربي ذات يوم عن هويتهم "الشرقية" ويستبدلوها بهوية "عربية". وتستند هذه الفكرة الى الفرضية الاشكالية التي تقول ان "الشرقية" هي بنية مصطنعة فرضت من فوق من قبل الدولة الصهيونية بينما "العربية" هي التصنيف الثقافي الاصيل. من المقلق اكثر من ذلك منطق الحجة المركزية التي يطورها لوستيك: نقطة منطلق المقال هي الحجة في أن نموذج الدولتين هو اليوم بمثابة عائق يمنع مدى رؤية الإسرائيليين، الفلسطينيين، والمهتمين الآخرين ويمنعهم من فحص البدائل. ولكن لاحقا يدعي لوستيك بأن تحقيق حل بديل لا يحتمل الا بعد أن تتصاعد سياسة السيطرة، الاستغلال، والقمع الاسرائيلية الى درجة لا تتمكن فيه الاسرة الدولية بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص ان تقف مرة اخرى جانبا وستتخذ ضدها خطوات عقابية حادة.
بعد عشرات السنين من الكفاح الفلسطيني لتقرير المصير – كفاح ضحى الكثيرون بأرواحهم في سبيله وحقق انجازات لا بأس بها – يقترح لوستيك على الفلسطينيين الجلوس والانتظار الى أن تسيطر اسرائيل على القليل الذي تبقى من أراضيهم، او الشروع في ثورة تتركهم ينزفون ويتعبون اكثر مما هم عليه اليوم. وهو يقترح عليهم ان يستمروا هكذا الى أن يأتي اليوم الذي تعلن فيه الولايات المتحدة بان الكيل طفح، فتوقف الفظاعة (وكأن ما منع الولايات المتحدة من العمل من أجل حل عادل حتى الان هو حقيقة انه لم يطفح الكيل بعد). الاقتراح الذي يتقدم به لوستيك لاولئك الاسرائيليين الذين يعارضون الاحتلال بثبات منذ عشرات السنين (وان كانوا أقلية، ولكنهم أقلية ذات حقوق كثيرة) مثير للانطباع بقدر لا يقل: لم يتبقَ لهم غير قبول القدر، طأطأة رؤوسهم، وادارة حياتهم المغتربة الى أن تمر الأيام الظلماء. 
حتى لو تجاهلنا التجاهل الغريب للوستيك للكفاح الفلسطيني من أجل الاستقلال والاسرائيليين المعارضين للاحتلال، وافترضنا ان القسم الاول من السيناريو خاصته سيتحقق بالفعل، وان اسرائيل ستصعب سياستها أكثر فأكثر، والأسرة الدولية ستتدخل اخيرا في النهاية فتعاقبها وتعزلها، من الصعب أن نرى كيف سيؤدي كل هذا الى فتح نافذة فرص اجتماعية، سياسية وثقافية جديدة، من النوع الذي يراه لوستيك امام ناظريه. كيف سيشق ابعاد حل الدولتين عن جدول الاعمال الطريق الى نشوء وتحقق بديل ثنائي القومية؟
أعتقد ان ما فشل ليس حل الدولتين (فهذا الحل لم يجرب بعد)، بل الفهم في أنه يمكن الوصول الى حل كهذا من خلال مفاوضات اسرائيلية – فلسطينية برعاية أميركية حصرية. فان حق الفلسطينيين في تقرير المصير واقامة دولة مستقلة في الضفة وفي القطاع عاصمتها القدس الشرقية هو حق معترف به من الاسرة الدولية منذ عشرات السنين. وقد لاقى هذا الاجماع الواسع في هذا الشأن اسناداً له في قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة في تشرين الثاني 2012 للاعتراف بفلسطين كدولة مراقب. وينشأ عنه، ضمن امور اخرى، انه ليس صحيحا مواصلة اشتراط قيام الدولة الفلسطينية بموافقة المفاوض الاسرائيلي. لقد استغلت حكومات اسرائيل (ولا سيما حكومات اليمين، ولكن ليست وحدها فقط) استغلالا سيئا المرة تلو الاخرى الاطار الحالي للمفاوضات لتحقيق اهداف، وعلى رأسها المشروع الاستيطاني، كل هدفها احباط قيام دولة فلسطينية. ورغم ذلك يواصل الوسيط الأميركي تجاهل هذه السياسة الهدامة ويبذل جل الجهود لاستئناف محادثات توقفت او تحفيز محادثات تعبت – وكأن المحادثات هدف بحد ذاته. وذلك في الوقت الذي مطلوب فيه توجيه الجهود لحث تحقيق اهداف المفاوضات، أي اقامة دولة فلسطينية في كل الارض المحتلة والتوقيع على معاهدة سلام بين اسرائيل وفلسطين ذاتي السيادة. 
ان هذا النهج الأميركي يخدم مباشرة مصالح حكم اليمين في اسرائيل، يساهم في تجذير مفهوم مغلوط وكأن المفاوضات يمكنها أن تولد ايضا نتائج اخرى (مثلا، "دولة" فلسطينية على 40 في المائة من اراضي الضفة)، وتخرب على تحقيق الاجماع الدولي في موضوع الدولة الفلسطينية. يخيل ان لا مفر من مصادرة مصير حل الدولتين من يدي الوسيط غير النزيه جداً هذا.

هآرتس 

* دكتوراة في علم النفس وعلم الانسان تبحث في المجتمع والسياسة الفلسطينيين في "المناطق" وفي الشتات.

حرره: 
م.م