تعاظم الاسلام السياسي في الشرق الاوسط وآثاره على اسرائيل

بقلم: ميخائيل ميلشتاين

في نهاية سنتين ونصف السنة على اندلاع ثورات ‘الربيع العربي’ في الشرق الاوسط، يمكن القول بيقين انها تسجل انجازا للمحافل الاسلامية، ولا سيما تلك المتماثلة مع حركة الاخوان المسلمين. في بؤرة السياق الثوري تقف الحملات الانتخابية في مصر، في تونس وفي المغرب، التي جرت منذ نهاية 2011، وحققت فيها هذه المحافل انتصارات بارزة. وقد ظهرت هذه ‘الموجة الخضراء’ على خلفية انهيار نظام الحكم المطلق القديم، في الدول التي كان فيها المجتمع المدني لا يزال ضعيفا، والاجنحة العلمانية الليبرالية غير مستقرة بما فيه الكفاية. في مثل هذا الواقع يمكن للمحافل الاسلامية ان تستغل سياقات التغيير السريعة اساسا، بسبب كفاءاتها التنظيمية المثبتة، شعبيتها الجماهيرية والايديولوجية التي تمثلها؛ وهذه عناصر تطورت على مدى عشرات السنين من النشاط في ظروف العمل السري للمعارضة المضطهدة. ومع ذلك، فان انجازاتها لا تعد مفاجأة لمن يتابع السياقات الجارية في المنطقة، إذ انه منذ الثمانينيات انتهت تجاربهم في الانتخابات في الجزائر، في مصر، في الاردن، في تركيا، في السلطة الفلسطينية، في لبنان، في دول الخليج (ولا سيما الكويت) وفي العراق بانجازات مهمة جدا. 
وشكلت هذه الانجازات مقدمة لسياقات عميقة اقليمية، وعلى رأسها تعزز الاساس الديني في كل مجالات الحياة، وبالمقابل ضعف التيارات الوطنية وتيارات اليسار التي كانت سائدة منذ نهاية الحرب العالمية الاولى. 
لقد كان تحليل التحولات التي شهدتها المنطقة مفعما في بدايته بالتركيز على الروح الجديدة وبقدر أقل على المحافل القديمة. ومع ذلك، يخيل أن اليوم ايضا يمكن أن نجد في اوساط دوائر عديدة ميلا متفائلا لوصف شرق اوسط جديد يقوده ويصممه شباب يتوقون للثقافة الغربية، تحركهم قوة الافكار الليبرالية والديمقراطية ويعملون بوسائل حديثة كالشبكات الاجتماعية. وحسب هذا الفهم، فان هذه القوى الجديدة تنجح في القضاء على قوى الماضي، الطغيان الحديدي، احزاب السلطة الكريهة والجيوش شديدة القوة. بيد أن هذا النهج يميل غير مرة الى تجاهل لاعبين اكثر تقليدية مساهمتهم في الهزة مهمة بقدر لا يقل. وبين هؤلاء يمكن أن نجد التوترات الدينية، الطائفية والعرقية التي نشبت بكل شدتها في أعقاب الصدمة التي شهدتها الدول القومية العربية. وتعد المحافل الاسلامية احد اولئك اللاعبين الغافين، ويبدو ايضا ابرزهم. فالجيل الجديد لا يتشكل إذن فقط من الشباب محبي الغرب المؤيدين لحقوق الانسان والمواطن، بل ايضا من جموع الشباب الملتحين التواقين الى رؤية من نوع مختلف تماما، وهم ايضا يمثلون بشكل اصيل هذه الهزة ويعكسون كما أسلفنا سياقات عميقة متواصلة. 
بين المجموعتين، الشباب الليبرالي والاسلامي، هناك توتر أساسا. فالمجموعتان تنظران بشكل قطبي الى جوهر التغيير الذي تم في ظل الهزة، والشكل الذي ينبغي من خلاله تثبيت صورة الدول في المنطقة. وتبدو المواجهة الاشد بين المجموعتين في مصر تحت نظام الاخوان. فالشباب الليبرالي يظهرون كأقلية، ولكن يبدو أنهم يرفضون قبول التغيير الذي حل في أعقاب الانتخابات، ويواصلون الصراع في سبيل صورة مصر المستقبلية. 
يمكن بقدر كبير أن نصف العملية آنفة الذكر بانها المرحلة الثانية من الهزة، التي تتركز على تصميم الساحات السياسية الجديدة الناشئة في أعقاب الانتخابات. ومع ذلك، لا ينبغي تجاهل ان قسما لا بأس به من هذا الشباب الليبرالي انتخب بارادته الحرة ‘الاخوان’ وفضل مرشحه للرئاسة على اولئك الذين هم من اوساط التيارات الليبرالية، بسبب حقيقة انهم مثلوا بديلا اصيلا لانظمة الحكم المطلق القمعية.
في مركز التيارات الاسلامية في العالم العربي تقف حركة الاخوان المسلمين التي تتمتع باقدمية اكثر من 80 سنة، وتعرض بديلا للنظام القائم ولا سيما للتجربة الاجتماعية والثقافية التي تبلورت في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الاولى. وترى الحركة في العودة الى الدين حلا للمشاكل المركزية في مجالات المجتمع، الاقتصاد والسياسة. غير أنها رغم مبادئها القاطعة، فان عقوبتها تكمن بالذات في البراغماتية التي تتميز بها منذ تأسيسها. فهي تتطلع الى اقامة نظام ديني أكثر، ولكن ليس حكما دينيا كايران؛ تتطلع الى الاستيلاء على السلطة، ولكن من دون الغاء الدولة القومية؛ اقامة مجتمع ديني أكثر، ولكن عدم فرض السلوك الاسلامي بالقوة. وتلقي الحركة بسحرها على ابناء المنطقة منذ عقود عديدة، سواء بسبب صلتها الوثيقة بجمهور الشباب وارتباطها بعالمهم الثقافي، او بسبب وعودها بمستقبل افضل. 
ان قيام نظام سياسي برئاسة الاخوان المسلمين ليس بالتالي بمثابة ‘خلل’ تاريخي، بل نتيجة لسياقات عميقة طويلة المدى. ولكن الهزة التي المت بالمنطقة في السنتين والنصف الاخيرة عكست ليس فقط صعود الاخوان المسلمين، بل ايضا نشوء وتعاظم جماعات اخرى تنتمي الى التيارات الاسلامية. فالانتخابات، ولا سيما تلك التي جرت في مصر، ولدت اضافة الى انجازات الاخوان، انجازات كبيرة للتيار السلفي ايضا. فبعد سنوات عديدة ركز فيها المراقبون الخارجيون والداخليون على حد سواء على الاخوان، في ظل بحث في مسألة اذا كان يوجد ‘اسلام’ آخر، أرق وأكثر اعتدالا.
وقد عكست نتائج الانتخابات في مصر واقعا مفاجئا جدا وكشفت عن وجود تيارات اخرى، غير ان هذه ظهرت بعيدة عن الصيغة المخففة التي أمل فيها الكثيرون، ولا سيما من اوساط المراقبين الغربيين. النموذج الذي يعرضه التيار السلفي متشدد على نحو خاص في المجالات الاجتماعية والثقافية ويتميز بالسعي الى بلورة مجتمع شريعة دينية أكثر من النموذج الذي يحاول الاخوان اقامته. ان تعزز التيار السلفي، الذي يلوح في مواقع اخرى غير مصر، يتحدى إذن الاخوان من اليمين. وناهيك عن أن الحديث لا يدور عن تيار متماثل، فقد بدأت الاحزاب السلفية تناكف السلطات برئاسة الاخوان على انعدام الفرض الكافي لقوانين الشريعة في المجالات الاجتماعية والسياسية. هكذا في مصر وكذا ايضا في تونس.
ويفتح دخول السلفيين الى المجال السياسي ثغرة’ لقيام ساحة تسيطر فيها تيارات اسلامية لم تجد نفسها أبدا معا في اطار سياسي، وهذه الشراكة كفيلة بان تتطور الى صراعات داخلية حول مسألة شكل تطبيق ‘الرؤية الاسلامية’، ولكن ثمة تيار آخر يوجد هو ايضا على يمين التيار السلفي، تيار يسمى احيانا ‘الجهاد العالمي’: مجموعة غير موحدة من المنظمات المتماثلة مع منظمة القاعدة وعقيدتها، وان كانت لا تشكل بالضرورة جزءا من تنظيمها. وتشكل هذه المجموعات اليوم تحديا مركزيا من ناحية أنظمة الاخوان، مثلما حصل في مصر وفي قطاع غزة. 
وتبرز هذه المجموعات في عدم انتمائها الى الاطر السياسية الرسمية، وتتبنى في معظمها الجهاد الكفاحي المصمم ضد الاعداء في الداخل وفي الخارج، وتهاجم أنظمة الاخوان على خروجها، زعما، على خلفية تأطرها السلطوي. وقد وصل التوتر المتصاعد بين تيارات الجهاد العالمي والاخوان في السنوات الاخيرة في ظروف معينة حد المواجهات العنيفة. 
وتصميم المجال السياسي الاسلامي الان في مراحله الاولى. ففي ظل التجربة الاولى لحركات الاخوان في ادارة الحكم تحتد مسألة موقفها، في وضعها الحالي، من باقي المحافل الاسلامية. هذا وضع غريب بالنسبة لمن كان في الماضي غير البعيد مطاردا من السلطات، ويوجد على ذات الجانب من المتراس، والان يجد الاخوان أنفسهم في الطرف الاخر، فيما هم يختلفون الواحد مع الاخر على نحو بارز. ويخلق هذا الوضع منذ اليوم توترات عديدة ويبدو أنها ستتعاظم كلما تعمق تأطر الاخوان في الدول المختلفة. اما الانجازات الحالية للمحافل الاسلامية فكفيلة بان تؤثر بشكل دراماتيكي على المنظومة الاقليمية بعمومها. 
ويحتمل ان يتبدل التقسيم الذي كان حتى وقت قريب مضى بين معسكر ‘المقاومة’ (ايران، سورية، حزب الله، حماس ومنظمات اخرى) وبين معسكر التسويات المؤيدة للغرب (السعودية، الاردن، مصر وتونس) لتحل محلها خطوط انقسام جديدة. وتبرز على نحو خاص امكانية نشوء معسكر يتكون من الدول التي يقودها الاخوان. وهذه لن تتوجه بالضرورة الى تحقيق الرؤية الاسلامية بعيدة المدى للحركة، ولكنها كفيلة بالتأكيد على ان تعمل بالتنسيق في المواضيع الخارجية والداخلية، بل وتساعد الواحدة الاخرى في ضوء التحديات المشتركة. ومثل هذا المعسكر كفيل بان يضم منذ المدى المنظور مصر، تركيا، قطاع غزة الذي تحكمه حماس، بل وقطر (جهة شاذة لا يحكمها الاخوان كباقي الكيانات ولكنها متماثلة بشكل اساس مع الفكرة التي تمثلها الحركة). هذا معسكر يتماثل إذن بشكل واضح مع العالم السني. 
ورغم القرب الظاهر مع عدة مبادئ من مذهب النظام الايراني، وأولا وقبل كل شيء التطلع الى اقامة نظام اسلامي سياسي، كفيل بمعسكر الدول التي يحكمها الاخوان ان تصبح خصما لايران، وبالفعل يمكن ايجاد مؤشرات على ذلك منذ الان في مجرد الخصومة المريرة بين معسكر الاخوان ومعسكر ‘المقاومة’ في الصراع الجاري في سورية (حماس هي مثال شاذ عن حركة تنتمي في نفس الوقت الى المعسكرين معا).
وحتى بهذا يؤكد صعود الاخوان من ناحية طهران التوتر المتصاعد منذ اكثر من عقد من الزمان بين الفرس والعرب، وبين السنة والشيعة؛ التطور الكفيل بان يقلص أكثر فأكثر مجالات النفوذ في العالم العربي. 
على أي حال، في المرحلة الحالية لا يزال لا يمكن تشخيص ‘معسكر أخضر’ متبلور، بل في اقصى الاحوال مؤشرات على سياقات تبلوره. تعبير عن ذلك يمكن أن نجده في مؤتمر الحزب الاسلامي الحاكم في تركيا في ايلول/سبتمبر 2012، الذي شارك فيه الى جانب رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، الرئيس المصري محمد مرسي ورئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل. وقد مجد الثلاثة في خطاباتهم صعود القوة الاسلامية في المنطقة، في الغالب في ظل هجوم على اعمال الاسد في سورية واطلاق اللذعات نحو ايران. 
لقد كانت حملة ‘عامود السحاب’ من نواحٍ عديدة حدثا تصميميا ومبلورا بالنسبة للاعبين الاقليميين المتماثلين مع الاخوان. ففي ظل المعركة العسكرية أظهرت مصر، تركيا وقطر دعما سياسيا واعلانيا واسعا لحماس، كانت ذروته في وفود كبار المسؤولين الذين وصلوا الى قطاع غزة أثناء الحملة وبعدها. 
واضافة الى ذلك، مظاهرة التضامن المصرية والمبادرات الانسانية التي نفذها مرسي كانت في نهاية المطاف ايضا محددة بخطوط حمراء حادة وواضحة، كانت غايتها منع انزلاق النزاع الى داخل مصر. احد المظاهر البارزة لذلك كانت البادرة الطيبة المصرية التي أتاحت انزال جرحى فلسطينيين في المستشفيات المصرية في العريش، ولكن ليس في المراكز المدينية لمصر. 
ان الهزة الاقليمية وصعود قوة المحافل الاسلامية تنطوي في داخلها، كما يتبين، على قدر اكبر من التحديات، مما على الفرص من ناحية اسرائيل. فالحركات الاسلامية، ولا سيما تلك من مدرسة الاخوان لا يمكنها أو غير معنية في هذه المرحلة في الانقطاع عن المؤسسة الايديولوجية وأفكارها التي تتضمن ضمن امور اخرى نهجا انتقاديا تجاه الغرب وعداء شديدا تجاه اسرائيل
وسيترافق تعزيز قوتها أغلب الظن بتقليص كبير في مظاهر التطبيع تجاه اسرائيل، سيجد تعبيره أساسا على المستوى الدبلوماسي، في التعاون الاقتصادي والثقافي، وبالطبع في العلاقات العامة للشارع متعاظم الوزن جدا في أعقاب الربيع العربي. 
وسيشتد هذا الميل اساسا في اثناء الازمات الداخلية أو المعارك العسكرية التي تشارك فيها اسرائيل. ومع ذلك، فان الوضع الجديد لا يبشر بالضرورة بانزلاق سريع وحتمي نحو مواجهات جبهوية بين اسرائيل والمنطقة الاسلامية الجديدة. 
ولا يستبعد امكانية تعايش طويل المدى وان كان هشا، الدليل على ذلك يمكن ايجاده في المقابلة التي منحها مرسي مؤخرا لشبكة ‘الجزيرة’، وأكد فيها التعاون الامني الجاري بين مصر واسرائيل، في ظل تكبده عناء التشديد على الاضطرارات ثقيلة الوزن التي تتصدى لها المحافل الاسلامية، التي تلزمها بتخفيف حدة سياستها، ولا سيما تجاه اسرائيل وأن التعاون يجري احيانا حتى بين الاعداء حين تفترض المصالح الوطنية ذلك. 
وبالفعل، فان الاحزاب الاسلامية ستضطر، اغلب الظن الى البحث عن مجال حل وسط بين الرؤية والواقع، والامر كفيل بان يجد تعبيره في نهاية المطاف في الحفاظ على وضع راهن أساس وبارد حيال اسرائيل، من دون اعتراف رسمي بها. ومهما يكن من أمر فان على اسرائيل أن تعترف ان في محيطها الجغرافي السياسي يحدث تغيير دراماتيكي. 
فهو يرتدي صورة مغايرة عن تلك التي كانت في المنطقة على مدى عشرات السنين، وذلك في ضوء سيطرة التيارات الاسلامية، الامر الذي هو واقع دائم وليس ظاهرة عابرة.

‘ ‘مفترق الشرق الاوسط’ ـ مركز دايان لدراسات الشرق الاوسط وافريقيا جامعة تل أبيب

حرره: 
م.م