دروس من التدخل العسكري الخارجي في الشرق الأوسط

بقلم: شلومو بروم

في أعقاب تورط الولايات المتحدة وحلفائها في تدخل عسكري في أفغانستان وفي العراق، ونتائجهما الاشكالية من حيث الانجازات والاثمان، كان يبدو في بداية العام 2010 ان عهد التدخل العسكري الغربي في الدول العربية والاسلامية قد ولى. وتبنى الرأي العام في الغرب موقف معارضة شديدة لتدخلات جديدة ورغبة شديدة في قطع الصلة بالالتزامات القائمة. ونتيجة لذلك سعت الدول الغربية الى التحرر المبكر قدر الامكان من التزاماتها في العراق وفي افغانستان. وجاءت الهزة التي ألمت بالعالم العربي منذ نهاية 2010 ‘الربيع العربي’ لتغير هذا الميل وترفع من جديد الى جدول الاعمال الدولي مسألة الحاجة الى تدخل عسكري خارجي في هذه الدول.

في سياق الربيع العربي توجد هذه المسألة على جدول الاعمال بشكل عام حين تصطدم الانتفاضة ضد نظام دكتاتوري بمقاومة شديدة من هذا النظام، الذي يستخدم القوة لقمعها. وفي المرحلة التالية، تتصاعد المواجهة وتصبح حربا أهلية مستمرة بين جماعات مختلفة من السكان. وتتميز بهذا التطور أساسا مجتمعات منقسمة، الانقسام فيها ديني، إثني، قبائلي، أو جملة من هذه المزايا. في هذه الحالات، فان الاجزاء الداعمة من السكان للنظام، والى جانبهم أجهزة قوة النظام، تقاتل ضد أجزاء من السكان تعارضه. مثل هذه الحرب الاهلية هي بطبيعتها حرب بشعة على نحو خاص، لا تحترم فيها قواعد القانون والقضاء الدوليين المتعلقة بالمواجهات المسلحة، ويصبح السكان المدنيون هدفا مركزيا للاطراف المتقاتلة. وهذه هي الحالات التي تنشأ فيها الحاجة الى تدخل عسكري خارجي، بهدف انهاء الحرب الاهلية والفظائع التي تنطوي عليها. وفي حالات اخرى تحسم فيها المواجهة بسرعة، لان النظام ينجح في قمع الانتفاضة بالقوة، أو لان الثورة تنجح والنظام يسقط في غضون فترة زمنية قصيرة (مثلما حدث في تونس وفي مصر)، فان المسألة لا تطرح على جدول الاعمال. ويمكن للتدخل ان يكون من جهات اقليمية أو من جهات من خارج المنطقة.

منذ بدأ الربيع العربي كانت حالتان مختلفتان من التدخل العسكري الخارجي المباشر في الشرق الاوسط، الذي يبدو في هذه المرحلة بانه حقق هدفه – في ليبيا وفي البحرين مرة الى جانب الثوار ومرة الى جانب النظام، على التوالي. وفي أعقاب هاتين الحالتين نشأت ضغوط لاجراء تدخل مشابه في سورية لانهاء الحرب الاهلية هناك، وفي أعقابها بدايات تدخلات عسكرية خارجية غير مباشرة في هذه الحرب، من خلال مساعدة الجهات المتقاتلة في الطرفين. ساحة اخرى قد تنشأ فيها المطالبات بتدخلات عسكرية هي اليمن، التي حتى بعد رحيل عبدالله صالح عن الرئاسة لم يتحقق الاستقرار فيه بعد، ويحتمل أن تحتدم الازمة أكثر فأكثر.

منظومتان من الاعتبارات تمليان التدخلات العسكرية الخارجية في الدولة: واحدة هي منظومة الاعتبارات الانسانية، التي لها تأثير كبير على الرأي العام. في هذه الحالة، تكون الحاجة لمنع الفضائع والمس بالسكان الابرياء. اما المنظومة الثانية فتشمل اعتبارات استراتيجية للاطراف التي تفكر بالتدخل. هذه الاعتبارات تصطدم بالكلفة المتوقعة لمثل هذا التدخل على المشاركين فيه.

 

الاعتبارات الانسانية

 

في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقتل الشعب الذي وقع في اثنائها، تأسست الامم المتحدة وتطور مجال القانون الدولي الذي يعنى بالاعراف اللازمة لحصر الثمن الذي يدفعه السكان المدنيون في الاوضاع الحربية. وتعاظم الانشغال في هذا المجال بعد انتهاء الحرب الباردة واتساع ظاهرة النزاع داخل الدول، التي رفعت الى جدول الاعمال العالمي المعضلة الاساس في الصدام بين عرف السيادة والعرف الناشئ المتعلق بالتدخلات الانسانية. وفي هذا الاطار تبلور عرف حظي باسم االمسؤولية للحماية اResponsibility to Protectب أو باختصار R2P.

R2P هي جهد تقوم به الامم المتحدة للمضي في عرف دولي، في أساسه فكرة أن السيادة ليست فقط حقا بل مسؤولية ايضا. وتتركز المبادرة على منع أربعة أنواع من الجرائم: قتل شعب، جرائم حرب، جرائم ضد الانسانية وتطهير عرقي. ويتضمن العرف ثلاثة مبادئ اساسية:

1. للدولة مسؤولية في الدفاع عن سكانها ضد الفظائع الجماعية.

2. للاسرة الدولية مسؤولية مساعدة الدولة على القيام بهذه المسؤولية الاساس.

3. اذا فشلت الدولة في حماية مواطنيها من الفظائع الجماعية، وفشلت المساعي السلمية لاجبارها على ذلك هي الاخرى، فللاسرة الدولية مسؤولية التدخل بوسائل إكراهية، كالعقوبات الاقتصادية. أما التدخل العسكري فهو الوسيلة الاخيرة. وتقرر الاسرة الدولية التدخل العسكري، بشكل عام، بقرار من مجلس الامن على أساس الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، الذي يسمح باستخدام القوة العسكرية لمنع العدوان والاعمال ضد السلام.

ووردت هذه المبادئ في الوثيقة الختامية لمؤتمر عالمي عقدته الامم المتحدة في العام 2005، للبحث في منع جرائم الفضائع الجماعية. وسبق المؤتمر نشاط لجنة دولية عنيت بالتدخل وبسيادة الدولة، كانت قد شكلتها الحكومة الكندية في العام 2000، في أعقاب دعوة الامين العام للامم المتحدة في حينه، كوفي عنان، لبلورة اجمال حول متى يحق التدخل الانساني. وقررت هذه اللجنة اصطلاح ‘المسؤولية للحماية’، وفي التقرير الختامي لها، الذي نشر في كانون الاول/ديسمبر 2001، ظهرت هذه المبادئ. وصادق مجلس الامن على البنود الاساس في الوثيقة النهائية للجنة العالمية في 2006 وهكذا جعلها ذات مفعول ملزم.

السؤال المركزي الناشئ بعد إقرار هذه المبادئ هو في اي ظرف يكون فيها مبرر استخدام القوة العسكرية لغرض تطبيق ‘المسؤولية للحماية’. وفي تقرير اللجنة الدولية من العام 2001 طرحت ستة معايير الزامية للتدخل العسكري: هدف عادل، نية سليمة، وسيلة أخيرة، صلاحية شرعية، وسائل متوازنة، احتمال معقول لتحقيق الهدف.

لا يزال لا يوجد اجماع في المحافل الدولية المعنية على هذه المعايير (حتى وان كان مثل هذا الاجماع، فثمة مساحة واسعة لتفسير معظمها. في كل الاحوال، في اثناء العقدين الاخيرين، وحتى بداية الربيع العربي، كانت الحالة الوحيدة للتدخل العسكري في الشرق الاوسط لاسباب يمكن وصفها بالانسانية (وان كان يحتمل أنه كانت اعتبارات اخرى) كان القرار باقامة مناطق حظر للطيران في العراق بعد حرب الخليج في 1991. وقررت هذه المناطق الولايات المتحدة، بريطانيا وفرنسا، التي ادعت بانها تستند الى قرار مجلس الامن 688، رغم أن هذا لم يتناول صراحة أعمالا من هذا النوع.

 

المنظومة الاستراتيجية الاقليمية

عندما بدأت احداث الربيع العربي في نهاية 2010، كانت المواجهة الاستراتيجية الاساس في الشرق الاوسط بين محورين. محور يمكن تسميته ‘محور المقاومة’، تضمن الدول واللاعبين من غير الدول ممن تبنوا عقيدة المقاومة للغرب ولاسرائيل. وقادت هذا المحور ايران وضم فيه سورية، حزب الله وحماس. ومقابلهم وقف محور حظي بشكل عام بلقب ‘محور الدول المعتدلة’ او ‘البراغماتية’ في العالم العربي. وقادته مصر والسعودية وضم معظم الدول العربية. وتدعم هذا المحور الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، وكانت له مصالح مشتركة وتفاهم هادئ مع اسرائيل، وان كان وضعها السياسي حيال الدول العربية لم يسمح لها بعضوية حقيقية في محور مشترك معها.

لقد كان الاعتقاد السائد في العالم العربي أن محور المقاومة يوجد في حالة صعود وان معارضيه يوجدون في حالة هبوط. واستند هذا الاعتقاد الى ضعف مكانة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، نتيجة للتورطات العسكرية في العراق وفي افغانستان وعملية الانسحاب العسكري من هاتين الدولتين، انجازات اعضاء في هذا المحور حيال اسرائيل وحيال عناصر اخرى في المحور المعتدل، بما فيها انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان، فك الارتباط احادي الجانب لاسرائيل عن قطاع غزة وسيطرة حماس على القطاع، واخيرا انجازات حزب الله لحرب لبنان الثانية. كل هذا عزز مكانة ونفوذ ايران وحلفائها في العالم العربي، وادى الى ارتفاع شعبيتها في الشارع العربي، بما في ذلك الدول التي كانت ضمن المحور المضاد؟

لقد اندلعت الثورات في الانظمة العربية لاسباب لا صلة لها بالمنافسة بين المحورين. ولكن في غضون وقت قصير سعى الطرفان المختلفان في الصراع الاقليمي الى منع ضعفهما، نتيجة لتغييرات الانظمة في الدول المختلفة. واذا كان الامر ممكنا، استخلاص المنفعة منها ايضا، ونتيجة لذلك، فقد شدد الربيع العربي هذا الصراع واشتمل على ابعاد جديدة، وان كان بدا في البداية وكأن لا صلة له بالمنافسة الاقليمية.

في المرحلة الاولى، عندما سقط النظامان في تونس وفي مصر، اللذان كانا مع محور الدول المعتدلة، وكانا يرتبطان بالغرب، قدر اعضاء محور المقاومة ان هذه التطورات تخدمهم، وذلك لانها تضعف محور الدول المعتدلة وتعزز محورهم. وقد فرحوا على نحو خاص بسقوط الرئيس المصري مبارك الذي كان عدوا مريرا لهم. كما أن تعزيز قوة الحركات السياسية الاسلامية في اعقاب سقوط النظامين بدا هو الاخر كعمل يخدمهم. وبالتوازي سعت دول المحور المضاد الى منع ضعفها من خلال تعزيز العناصر المقربة منها في الدول التي سقطت فيها الانظمة، او توشك على السقوط. فقدمت دول الخليج، ولا سيما السعودية وقطر المساعدة، المالية اساسا، الى العناصر القريبة منها، التي بشكل محمل بالمفارقة كانت بالذات الحركات الاسلامية التي فرحت ايران جدا بصعود قوتها. ولاقت المساعدة السعودية ومن شركائها في الخليج تعبيرا متطرفا في تدخلها العسكري الى جانب النظام السني في البحرين، التدخل الذي ساعد في قمع ثورة الاغلبية الشيعية في المكان.

وأكد التوتر المتصاعد بين المعسكرين عقب التطورات في الربيع العربي رؤية المواجهة بين المحورين، كمواجهة دينية بين السنة والشيعة، رغم استياء ايران التي سعت دوما الى طمس هذا البعد في المنافسة بينها وبين قوى اخرى في الشرق الاوسط. وأدت التطورات في البحرين دورا مركزيا في تعزيز هذه الرؤية. فقد رأت دول الخليج العربية، وعلى رأسها السعودية، في الثورة التي اندلعت في البحرين جهدا مقصودا من ايران لاسقاط النظام السني ورفع حكم الاغلبية الشيعية، التي كانت خاضعة لنفوذها، بدلا منه.

تطور آخر له آثار على احتمالات التدخل الخارجي في الدول التي علقت في أزمة داخلية عقب احداث الربيع العربي، هو احتدام المنافسة بين تركيا وايران. فقد تبنت الاولى قبل الربيع العربي سياسة خارجية اساسها علاقات طيبة مع كل جيرانها، وفي هذا الاطار اتخذت خطوات لتحسين علاقاتها مع سورية وايران، العضوين في محور المقاومة. كل هذا، رغم علاقاتها مع الغرب، عضويتها في الناتو وهويتها السنية. ولكن الربيع العربي أجبر تركيا على ان تقرر الى أي معسكر تنتمي. وفضلت تركيا في نهاية المطاف الوقوف في المعسكر المؤيد للثورات الجماهيرية العربية ضد الانظمة الدكتاتورية، ولكنها تتطلع الى أن تمنع عن ايران انجازات جراء ذلك، بل وتتنافس معها. لقد كانت المنافسة بين تركيا وايران على النفوذ في العالم العربي قائمة حتى قبل ذلك، ولكنها الان صعدت الى السطح.

لاعب آخر يقوم بدور غير متوازن مع حجمه هو قطر، هي الاخرى وضعت نفسها، خلافا للماضي، بشكل واضح في المعسكر المعارض لايران وتبدي استعدادا لتدخل فاعل، بل وعسكري الى جانب العناصر التي تدعمها في الصراعات الداخلية في الدول العربية. ويمنحها ثراؤها الوسائل التي تتيح لها هذا التدخل، بما في ذلك ملكيتها لقناة ‘الجزيرة’ التلفزيونية المؤثرة.

كل هذه التطورات تخلق فسيفساء من الاعتبارات الاستراتيجية للاعبين المختلفين القادرين على التأثير على التدخل العسكري في الازمات الداخلية الناشئة عن هزات الربيع العربي.

 

المنظومة الاستراتيجية من خارج الساحة الاقليمية

 

عند الحديث عن تدخل عسكري من دول من خارج الشرق الاوسط في نزاعات داخلية في دول عربية، فعلى نحو طبيعي يكون اللاعبون المركزيون هم الاعضاء الدائمون في مجلس الامن، ولا سيما بسب قدراتهم على منح أو عدم منح الشرعية للتدخل الخارجية في النزاعات بفضل حق الفيتو لديهم في المجلس. وبالتوازي يوجد دور مركزي للولايات المتحدة ودول الناتو، كلاعبين مستعدين وقادرين على المشاركة النشيطة في التدخلات العسكرية. وقد اقترحت التطورات حول الربيع العربي مسألة المكانة المتصدرة للولايات المتحدة في تدخلات من هذا النوع. فالولايات المتحدة، التي لا يزال الجمهور فيها متأثرا بصدمات التدخلات العسكرية في العراق وفي افغانستان، غير متحمسة من امكانية أن تلعب دورا مركزيا عسكريا آخر في الشرق الاوسط. وعلى مستوى الادارة نفسها، يتغذى عدم الحماسة هذا ايضا من الشكوك بشأن نتائج التدخل العسكري الامريكي الى جانب قوى المعارضة التي تقاتل ضد الانظمة، عندما لا يكون واضحا بما يكفي ما هي طبيعتها. وفي الولايات المتحدة يتذكرون جيدا ان نجاح المجاهدين، الذين دعموهم، في حربهم ضد الاحتلال السوفييتي في افغانستان في الثمانينيات من القرن الماضي كان الاساس لتحول العناصر المتطرفة فيهم الى جماعات جهادية من القاعدة وفروعها، التي جعلت الولايات المتحدة والغرب هدفا مركزيا لهجماتها.

وكان الحل الذي وجدته الادارة الامريكية للتوتر بين هذه المخاوف وبين الضغوط للدخول في تدخلات عسكرية، ولا سيما لاعتبارات انسانية، تطوير فهم وجد تعبيره في التدخلات العسكرية الدولية في ليبيا وسمي بـ’القيادة من الخلف’. وحسب هذا الفهم، لا تقف الولايات المتحدة في جبهة التدخل العسكري، وتقلل من استخدام قواتها في قتال مباشر، ولكنها تساعد في قيادة التدخل العسكري وفي توفير غلاف مساعد، يتشكل من جهود لوجستية، حرب الكترونية ووسائل تزويد بالوقود في الجو. وفي حالات خاصة، عندما يكون في اثناء القتال الجوي للولايات المتحدة قدرات ليست لحلفائها، مثل القدرة الخاصة بتعطيل الدفاع الجوي للدولة التي يتم فيها التدخل العسكري، فانها تستخدم ايضا وسائل هجومية مباشرة في بداية المعركة الجوية كي تشق الطريق لحلفائها الاوروبيين والعرب، الذين يكونون هم من ينفذون الجهد الهجومي الاساس. وكان هذا التدخل الهجومي المباشر من جانب الولايات المتحدة بحجم ضيق ولفترة زمنية محدودة.

عنصر مهم في الفهم الامريكي والغربي بشكل عام هو التحفظ الشديد على استخدام القوات البرية في اطار هذه التدخلات. وفي احيان قريبة يطلق تعبير ‘الاقدام على الارض’ في سياق سلبي، كشيء ينبغي الامتناع عنه من أجل عدم الانجراف مرة اخرى نحو ورطة على نمط ايران وافغانستان ويثير هذا النهج نقاشا في مسألة هل يمكن حسم معارك من هذا النوع فقط من خلال استخدام القوة الجوية، ومن دون استخدام القوات البرية. ويضرب المؤيدون للاكتفاء باستخدام القوات الجوية مثال افغانستان، حيث اسقط نظام طالبان على أيدي القوات المحلية بمساعدة جوية من القوات الامريكية وحلفائها، وكذا مثال العراق، حيث حسمت المعركة على حد قولهم بالقوة الجوية وكانت حاجة الى القوة البرية فقط كخطوة نهائية.

اما المشككون بهذا الفهم فيقولون ان اسقاط النظام من خلال استخدام القوة الجوية بمساعدة القوات المحلية هو مجرد المرحلة الاولى من المعركة ولا يعني حسمها، لانه في المرحلة الثانية يتبين في احيان قريبة أنه من أجل منع الفوضى وشطب انجازات اسقاط النظام، تكون حاجة الى ‘الاقدام على الارض’ ما تؤكده بالضبط حالتا افغانستان والعراق.

من السابق لاوانه القول اذا كان مفهوم استخدام القوة الجوية وحدها مع االقيادة من الخلف’، الذي تبنته الولايات المتحدة هو الصيغة الاساس للتدخل الدولي في الدول التي تعصف فيها الهزات، نتيجة للربيع العربي. ويمكن ايجاد سند لهذه الفرضية بان هذه ستكون الصيغة المتكررة للتدخل الامريكي أيضا في التجربة التي تراكمت في الساحة الاسرائيلية ذ العربية في السنوات الاخيرة. ففي هذه الفترة كانت هناك عدة حالات كانت فيها حاجة لاستخدام التدخل الدولي العسكري والامني، لمعالجة مشاكل بين اسرائيل وجيرانها. في كل هذه الاحوال تبنت الولايات المتحدة مفهوم االقيادة من الخلف’، وان كانت لم تسم ذلك بهذا الاسم. في الضغوط التي تتعرض لها الساحة الدولية كي تقرر التدخل العسكري في دول كليبيا وسورية، فان الاعتبارات الانسانية والرغبة في منع الفظائع الجماعية تلعب دورا مركزيا تجاه الخارج، ولكن في قرار كهذا تكون ايضا اعتبارات استراتيجية. أحد الاعتبارات من هذا النوع هو التقدير بان النظام على اي حال سيسقط، وان التدخل العسكري الى جانب الثوار ضده سيضمن للدول المشاركة، ولا سيما العظمى منها، علاقات طيبة مع النظام الجديد ونقله الى دائرة نفوذها او ابقاءه داخل دائرة نفوذها عندما تكون الدولة التي يدرس التدخل فيها توجد أصلا في هذه الدائرة. في الحالات التي تكون فيها الدولة في دائرة نفوذ دولة خصم، أو أن يكون النظام في الدولة معاديا للغرب، سيلعب دورا مهما اعتبار تغيير الميزان الاستراتيجي من خلال اسقاط النظام المعادي.

ليس مفاجئا انه في الجدال السياسي الداخلي في الولايات المتحدة في اثناء حملة الانتخابات للرئاسة، هاجم الجمهوريون الرئيس اوباما على امتناعه عن التدخل العسكري في سورية. وهم لم يفعلوا ذلك لان الفكر الاساس للحزب الجمهوري يعطي وزنا أكبر للاعتبارات الانسانية في السياسة الامريكية الخارجية؛ العكس هو الصحيح. من ناحية تاريخية، كان الديمقراطيون بالذات هم الذين يؤيدون التدخل العسكري لاسباب انسانية. اما دافع الجمهوريين فهو الرغبة في اسقاط نظام الاسد، الذي يعتبره الحزب الجمهوري معاديا، واضعاف المحور الذي تقوده ايران.

وتلعب هذه الاعتبارات دورا مركزيا ايضا لدى الدول الساعية الى منع التدخل الدولي العسكري. فهذه الدول تريد أن تمنع اسقاط انظمة قريبة منها أو تعزيز مكانة قوى عظمى منافسة لها كنتيجة لتغيير النظام. روسيا والصين تحاولان بشكل ثابت منع التدخل العسكري الدولي كي تمنعا امكانية تعزيز مكانة الولايات المتحدة والمس بمكانتهما. اعتبار آخر يلعب دورا في موقفهم وفي موقف العديد من دول العالم الثالث في هذا الشأن، هو معارضتها المبدئية للتدخل الدولي الاجنبي في الصراعات الداخلية كون أغلبها انظمة غير ديمقراطية وخوفها من سوابق يمكنها أن تؤدي الى ضغط باتجاه تدخل عسكري دولي فيها ايضا.

السلاح الاساس الذي تستخدمه هذه الدول في مساعيها لاحباط المبادرات للتدخل العسكري هو سحب الشرعية الدولية من مثل هذا التدخل. وفي الفكر السائد في القانون الدولي حديث العهد، فان مجلس الامن فقط، وفي حالات خاصة الجمعية العمومية للامم المتحدة، بموجب مبدأ ‘الاتحاد من أجل السلام’، يمكنهما أن يعطيا في قراراتهما شرعية لتدخل دولي عسكري. واذا ما نجحت تلك الدول في منع مثل هذه القرارات، فستحرم هذه المبادرات من الشرعية الدولية. وتعد روسيا والصين من الاعضاء الدائمين في مجلس الامن ولديهما قدرة خاصة على منع مثل هذه القرارات في المجلس من خلال استخدام حقها في النقض الفيتو.

في مثل هذه الحالة يمكن للدول المؤيدة للتدخل الدولي ان تتجاوز عدم القدرة على تمرير قرار مناسب في مجلس الامن، من خلال عمل في اطار ما يسمى اتحالف الدول الراغبةب. احد النماذج الاولى على مثل هذا التجاوز كان مرابطة القوة الدولية (MFO) في سيناء، كجزء من تطبيق السلام الاسرائيلي ـ المصري. وفي معاهدة السلام نفسها تقرر مرابطة قوة من الامم المتحدة في سيناء، ولكن مجلس الامن رفض اتخاذ مثل هذا القرار ولهذا فقد شكل القوة اتحالف الدول الراغبةب. وكانت هذه حالة بسيطة وسهلة نسبيا، لان اقامة القوة جاءت بعد اتفاق لانهاء النزاع بين الطرفين ومرابطتها كانت بناء على رأيهما. في الاوضاع التي نشأت في اطار االربيع العربيب الوضع اكثر تعقيدا، لان الحديث يدور عن مواجهة، واستخدام القوة هو بخلاف ارادة النظام الحاكم. وعليه، ففي هذه الاوضاع توجد مشكلة اصعب تتعلق بغياب الشرعية الدولية، والقرار بالعمل في اطار اتحالف الدول الراغبةب يكون اصعب.

 

التدخل في البحرين

 

ليس التدخل في البحرين حالة تنطبق على الحالات الاخرى موضع البحث في سياق الربيع العربي. أولا، كان هذا تدخلا الى جانب النظام، وثانيا، لم تشارك فيه سوى بعض من دول المنطقة، بل وفي واقع الحال في قسم من المنطقة الخليج الفارسي. في البحرين، مثلما في الدول العربية الاخرى، بدأت الثورة كاحتجاج شعبي غير عنيف ضد النظام الملكي، ذي الحكم المطلق. وبسبب من المزايا الخاصة للبحرين، حيث تسيطر أسرة مالكة سنية في دولة أغلبيتها شيعة، فقد اتخذت الثورة منذ البداية صورة ثورة الاغلبية الشيعية على حكم الاقلية السنية، في منطقة الخليج التي يسود فيها توتر شديد بين ايران الشيعية، التي ترتسم كقوة عظمى اقليمية ذات تطلعات توسعية، وبين دول الخليج العربية السنية التي تدافع عن نفسها ضد هذه التطلعات التوسعية. وقد اتهمت ايران، عن حق أو عن غير حق، كمن حرضت الاغلبية الشيعية في البحرين على الثورة، بل ومدتها بالوسائل. فبعثت السعودية، التي تقف في جبهة المواجهة مع ايران وتخشى جدا أن تتلقى عدوى الهياج الجماهيري لدى الاقلية الشيعية في المناطق الشرقية من المملكة، بعثت الى البحرين بقواتها العسكرية، التي انضمت اليها قوات رمزية من دول اخرى اعضاء في مجلس التعاون الخليجي، فساعدت هذه القوات النظام على قمع الثورة بالقوة. وجاء تدخل السعودية هذا استمرارا لتدخلها العسكري ضد الثوار الحوثيين في اليمن، حتى قبل الربيع العربي ولهذا فانه يعكس سياسة سعودية ثابتة. اضافة الى ذلك، فالحديث يدور عن سيناريو خاص بمنطقة الخليج، ومشكوك أن تكون تطورات مشابهة في مناطق اخرى من العالم العربي.

 

ليبيا

 

في أعقاب نجاح الثورة في تونس وفي مصر، بدأت في شباط/فبراير 2011 الثورة في ليبيا. ومنذ’ بداية اذار/مارس فقد النظام السيطرة في مناطق مختلفة، ولا سيما في منطقة كرنيكا في شرق الدولة. وفرار وحدات كاملة من الجيش الليبي ساعد الثوار، ولكن قوات معمر القذافي صدت هجوم الثوار في غرب ليبيا وبدأت بهجوم مضاد حققت فيه النجاحات واقتربت من طول شواطئ البحر المتوسط باتجاه بنغازي المدينة الاكبر في شرق ليبيا ومركز الثوار. وعزز سلوك قوات النظام تجاه السكان المدنيين في المدن الثائرة والتهديدات التي اطلقها القذافي ومحيطه، عزز الخوف من أن يؤدي احتلال قوات النظام لبنغازي الى مذبحة لسكان المدينة. وفرضت الولايات المتحدة، وفي اعقابها استراليا وكندا عقوبات على ليبيا، في محاولة لممارسة الضغط على النظام، ولكن من دون جدوى، بل ان قرار مجلس الامن بتكليف المحكمة الدولية بالتحقيق في جرائم رجال النظام لم يجدِ نفعا هو الاخر. وفي 17 مارس اتخذ مجلس الامن قرار رقم 1973، الذي فرض منطقة حظر جوي، واتخاذ كل الوسائل اللازمة لحماية المدنيين. وطبق القرار حلف الناتو وعمليا ‘تحالف الدول الراغبة’، الذي ضم اعضاء في الناتو ولا سيما فرنسا وبريطانيا، وانضمت اليها طائرات من قطر واتحاد الامارات.

وشاركت في المرحلة الاولى ايضا الولايات المتحدة، التي اطلقت صواريخ ‘تومهوك’ بهدف تعطيل منظومة الدفاع الجوي الليبي، ولكنها لاحقا اكتفت بمساعدة حلفائها الاوروبيين الذين شنوا الهجمات عمليا. وبرزت بين دول الناتو التي لم ترغب في المشاركة في الحملة المانيا. وأتاحت الغارات الجوية لقوات الثوار بالتغلب على قوات القذافي وفي 16 آب/اغسطس سيطرت على العاصمة طرابلس. وهكذا حسم عمليا القتال رغم أن المعارك استمرت حتى تشرين الاول/اكتوبر، حين سيطر الثوار على ليبيا بأسرها.

وتلقت روسيا والصين بشكل صعب التطورات في ليبيا ونهجهما للتدخل فيها يملي بقدر كبير معارضتهما لمبادرات تدخل اخرى. وقد كانتا المتضررتين المركزيتين من سقوط النظام، مما حرمهما من القدرة على مواصلة الصفقات الاقتصادية الواعدة مع ليبيا. كما انهما شعرتا بان الغرب خدعهما، لانهما وافقتا على قرار 1973 من مجلس الامن، الذي أعطى برأيهما تفويضا بعمل ضيق فقط بهدف حماية المدنيين. اما الناتو بالمقابل، فأعطى تفسيرا واسعا لهذا القرار وشرع في هجوم جوي واسع هدفه تغيير النظام، الامر الذي حصل بالفعل.

وأعربت محافل في الغرب، كانت قد عارضت التدخل العسكري في ليبيا عن تخوفها من أن الغرب يساعد الثوار ممن هويتهم واهدافهم ليست معروفة. وأعربت أساسا عن تخوفها من المحافل الاسلامية الجهادية بين الثوار. كما كان هناك تخوف من نشوء وضع فوضى في أعقاب سقوط النظام، جراء الطبيعة القبلية للمجتمع الليبي. اما عمليا فقد تبددت المخاوف، وحتى لو لم ينتهِ الانتقال الى نظام ديمقراطي ولا تزال هناك مشاكل غير قليلة في ليبيا، ولا سيما في ضوء الفشل في حل الميليشيات، فقد استقر الوضع في الدولة، وعادت صناعة النفط الى العمل بشكل كامل وجرت انتخابات حرة لم تفز فيها الاحزاب الاسلامية.

 

سورية

 

مسألة الحاجة الى تدخل دولي عسكري في سورية بقيت حتى نهاية 2012 على جدول أعمال الاسرة الدولية. فالاحتجاجات ضد النظام السوري والمطالبات بالاصلاحات، التي بدأت في 15 مارس 2011، أصبحت في اثناء 2012 حربا اهلية كاملة. وتتميز هذه الحرب باعمال شنيعة بحق المدنيين، يقوم بها النظام، ولكن أيضا تقوم بها محافل المعارضة، وهي تهدد بان تكون أبشع من ذلك بكثير بسبب التركيبة الطائفية للمجتمع السوري، الذي جعل الصراع مع النظام صراعا بين الطوائف. واذا كانت جرت في بداية الثورة محاولة لعرض الاحتجاجات كثورة مدنية تشمل كل الطوائف، فقد تحولت الثورة منذئذ الى مواجهة عنيفة بين طرفين جماعات مسلحة سنية وقوات النظام العلوية. وساهم استخدام النظام للميليشيات العلوية، المسماة ‘شبيحة’ لقمع الاحتجاجات بشكل كبير في الطابع الطائفي للحرب الاهلية، حيث تقاتل المعارضة السنية ضد الاقليات المؤيدة للنظام، ولا سيما العلويين والمسيحيين. والنتيجة هي صعود مستمر في حجم الخسائر بين السكان المدنيين، بسبب المذابح المتبادلة والارتفاع الكبير في عدد اللاجئين الذين فروا الى تركيا والاردن ولبنان.

بضعة أسباب تشير الى امكانية ان تكون المواجهة السورية الداخلية مستمرة والا يسقط النظام بسرعة، هذا اذا سقط على الاطلاق. فالطابع الطائفي للمواجهة يخدم النظام لانه يجبر الاقليات على دعمه، حتى ان كان فيها من يتحفظون من طابعه الدكتاتوري ومن فساده. فهذه الاقليات تخشى آثار حكم الاغلبية السنية عليها وتفهم بانه اذا سقط النظام الحالي، فانها ستسقط معه. وبشكل مشابه يتعزز التكتل والموالاة من أجهزة القوة لدى النظام. فلبنان أجهزة القوة هذه أجهزة الامن والجيش تتشكل اساسا من ابناء الاقليات، وهؤلاء ايضا يفهمون بان سقوط النظام سيؤدي الى سقوطهم وأن الثأر ضدهم سيكون فظيعا. ومع أنه يوجد فرار لرجال جيش سُنه على مستويات مختلفة، وهو يمس بقدرة الجيش السوري العملياتية، ولكن لا توجد مؤشرات على أنه يمس بشكل ذي مغزى بعناصره الاساس الذين يشاركون في قمع الثورة. سبب آخر لصعوبة الوصول الى حسم في الحرب الاهلية في سوريا هي التدخل الخارجي. ومع أنه لا يوجد تدخل عسكري مباشر، ولكن في اثناء السنة الاخيرة كان هناك تدخل خارجي لمساعدة الطرفين بحجم متزايد. فاحتدام الصراع بين محور المقاومة وبين خصمه في العالم العربي عزز مكانة سورية كدولة أساس في هذا الصراع.

خصوم محور المقاومة، وفي المقدمة دول الخليج ولا سيما السعودية وقطر، يرون في الثورة فرصة لاضعاف ايران والمحور الذي تقوده، ولهذا فهم يساعدون الثوار بالمال، السلاح، التدريب واستضافة القيادات. وتلعب تركيا دورا مركزيا في هذه المساعدة. فهي تفضل الا تعرض نفسها وكأنها توجد في صراع مع ايران، بل داعمة للثوار بسبب دعمها لمبادئهم في وجه النظام القمعي، وعمليا تعطيهم وتعطي قياداتهم ملجأ في اراضيها وتسمح بتدفق المساعدات اليهم. وتسهل الحدود الطويلة والسائبة بين الدولتين هذه المساعدات. اما الثوار من جهتهم، فلعلمهم بأهمية العلاقة الاقليمية بالجبهة الداخلية التركية، اعطوا أولوية للسيطرة على المناطق على طول الحدود السورية التركية. جهة ثالثة تساعد الثوار هي الحركات السلفية الجهادية في الدول المجاورة لسورية، ولا سيما في العراق. وهذه الحركات تدفع بالمقاتلين والسلاح الى سورية كي تشارك في القتال ضد ‘العلويين الكفار’ وكذا للتأثير على الطابع الذي ستتخذه سورية بعد سقوط النظام. جهة مساعدة رابعة للثوار هي الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. ومع ان هذه لا تزال تتردد اذا كان سليما دعم المعارضة المسلحة، وذلك بسبب احساسها بان ليس واضحا من هي هذه المعارضة وخوفها من أن يتبين لها في نهاية المطاف انها دعمت جهات ستصبح مشكلة بالنسبة لنا، مثلما حصل في افغانستان. ورغم ذلك، فقد بدأت مساعدات غربية بحجوم محدودة للثوار، ولا سيما بتوريد المعدات المساعدة، اجهزة اتصالات وما شابه.

ومن الجهة الاخرى، فان الشريكين المركزيين في محور المقاومة، ايران وحزب الله، اللذين يفهمان جيدا الاثار السلبية التي ستكون لسقوط نظام الاسد بالنسبة لهما، فيحاولان قدر الامكان مساعدته. والتقارير المختلفة عن مشاركة الايرانيين (من قوة ‘القدس′) ورجال حزب الله في القتال، لم تتأكد بعد، وعمليا صعبة على التأكيد لان الطرفين يستخدمان التضليل الاعلامي بقوة واسعة. ومع ذلك لا ريب في ان ايران وحزب الله يساعدان النظام السوري بالعتاد لقمع الثورة، بوسائل استخبارية هدفها تحسين السيطرة في الساحة الداخلية، بما في ذلك في الشبكات الاجتماعية، وكذا في المشورة والتدريب. احدى نقاط الضعف للنظام هي تدهور الوضع الاقتصادي، الذي يقلص المقدرات التي تحت تصرفه. كما تساعده ايران أيضا في هذا المجال من خلال تجاوز العقوبات الاقتصادية التي فرضت على سورية، ومعقول الافتراض بالمساعدات المالية المباشرة.

وتخلق المساعدات الخارجية التي تمنح للطرفين المتصارعين الواحد ضد الاخر مثابة حالة من التعادل. فقوى الثوار قادرة على السيطرة على مدن ومناطق، ولا سيما في المحيط، وبين الحين والاخر توجيه ضربات اليمة للنظام، بما في ذلك في مراكز ثقله. مثال دراماتيكي على هذه القدرة هو العملية التي صفت قسما كبيرا من القيادة الامنية للنظام. اما الجيش الموالي للاسد من جهته، فقادر على العمل في كل مكان يقرر ذلك وفرض الهزيمة على الثوار في المواجهة المباشرة، ولكن ‘اللحاف اقصر مما ينبغي’، وبالتالي فانه لا يستطيع ان يكون موجودا في كل مكان. ويستغل الثوار ذلك ليعودوا الى الاماكن التي هزموا فيها بعد أن تغادرها وحدات الجيش وتنتقل الى بؤر مواجهة اخرى. ومع ذلك، فان النظام يحرص على الابقاء على السيطرة في المحور المركزي، الذي يتضمن مدن دمشق، حمص وحلب وعلى العلاقة بينها، وكذا في مناطق الشاطئ. هذا الوضع يمكنه أن يستمر لفترة طويلة جدا، في اثنائها يتواصل قتل المدنيين. ويخلق تواصل الوضع ايضا خطرا لانتقال عدم الاستقرار السوري الداخلي الى دول مجاورة، ومؤشرات أولية على ذلك اصبح من الممكن رؤيتها في لبنان وفي الاردن.

الوضع في سورية هو وضعية كلاسيكية لممارسة سياسة ‘المسؤولية للحماية’، كما أنه سبب مركزي للضغط على الدول الغربية للتدخل العسكري في ما يجري هناك. وفي هذا الاطار تبحث مستويات مختلفة من التدخل. احد المستويات هو اقامة منطقة فصل داخل الاراضي السورية على مقربة من الحدود مع تركيا، تستخدم كمنطقة لجوء للاجئين. المستوى الثاني هو تحديد مناطق حظر طيران تمنع النظام من استخدام قوته الجوية ضد المدنيين. مستوى ثالث هو استخدام القوة الجوية لاعطاء مساعدة هجومية للثوار ضد قوات الاسد. ويكاد لا يكون يجري اي بحث في امكانية ارسال قوات برية تدخل الى سورية.

يبدو أنه لا يوجد في هذه الاثناء قرار غربي بالتدخل العسكري والمباشر في القتال في سورية، خلافا لقرار التدخل في ليبيا. خمسة اسباب لذلك:

1.’ لا توجد امكانية لنيل شرعية دولية، أي قرار من مجلس الامن لعمل كهذا بسبب معارضة روسيا والصين. وهاتان تشعران بان الغرب خدعهما في قضية التدخل الدولي في ليبيا، وهما مصممتان على منع تطور مشابه في سورية. المصلحة الخاصة لروسيا في سورية المعقل الوحيد لها في العالم العربي تعزز هذا التصميم.

2.’ طبيعة المعارضة السورية. فهذه منقسمة ومنشقة وفيها عناصر جهادية. الجهود والضغوط الدولية لتوحيد المعارضة لا تجدي نفعا. هذه الحقيقة والطبيعة الفعلية للمجتمع السوري تعززان مخاوف الدول الغربية من أن يؤدي اسقاط النظام الى الفوضى والى حرب الجميع ضد الجميع. مثل هذا الوضع سيجبر الغرب على ارسال قوات برية الى سورية بهدف الفصل بين الاطراف ومنع المذابح، الامر الذي من شأنه ان يؤدي الى ورطات عديدة السنين هناك، مثل الورطة في العراق وفي افغانستان.

3.’ تركيا، التي هي دولة أساس في كل صيغة تدخل عسكري خارجي في سورية تتحفظ في هذه المرحلة من مثل هذا التدخل. هي الاخرى تخشى التورط ولا تريد أن تفاقم مواجهتها مع ايران.

4.’ التخوف من أن تكون الحملات العسكرية في سورية معقدة وتنطوي على خسائر فادحة، بسب قدرات منظومة الدفاع الجوي السوري، التي هي محسنة مقارنة بتلك التي كانت لدى نظام القذافي في ليبيا.

5.’ التخوف من انتقال المواجهة الى خارج سورية وتوسيع نطاقها.

وبسبب عدم القدرة على اتخاذ قرار مناسب في مجلس الامن، فان التدخل العسكري في سورية سيكون ممكنا فقط اذا ما تبلور ائتلاف ‘دول الناتو الراغبة’، التي تتخذ قرارا بالتدخل. وستلعب الولايات المتحدة دورا مركزيا في مثل هذا القرار، لانه ليس للدول الاخرى القدرة التي لها لبذل جهد جوي مستمر في سورية، التي هي كما هو معروف ذات منظومة دفاع جوي متطورة. هذا سيناريو غير سهل، ولكن لا يمكن استبعاد امكانية تحققه، وذلك لان الاستمرار المتوقع للحرب الاهلية في سورية، كثرة حالات القتل الجماعي والارتفاع في عدد اللاجئين، كل هذا سيشدد بالتدريج الضغط في الاسرة الدولية للتدخل العسكرية. تركيا، التي هي لاعب مركزي في هذا السياق، كفيلة بان تغير نهجها، وذلك بسبب التخوف من ان يؤدي استمرار الازمة الى خلق دولة كردية صغيرة في الشمال الشرقي من سورية. من ناحية تركيا، هذا سيناريو رعب لانه سيزيد الضغط عليها لمنح حكم ذاتي للاكراد في اراضيها، ويوفر لمنظمة حزب العمال الكردي الذي يقاتلها قاعدة اخرى للعمل ضدها.

عامل آخر يمكنه ان يؤدي’ بالاسرة الدولية الى التدخل في سورية هو التخوف من سقوط مخزون السلاح الكيميائي الكبير لديها الى ايادٍ غير مسؤولة جماعات جهادية أو حزب الله.

يمكن الافتراض بان اعتبارات استراتيجية ايضا، اي امكانية اسقاط نظام معاد واضعاف المحور بقيادة ايران، تلعب دورا في تفكير الولايات المتحدة ودول اخرى، ولكن يبدو أنها لا تلعب دورا حاسما عندما يدور الحديث عن التدخل العسكري المباشر للدول الغربية في سورية. في نهاية المطاف، الاعتبار الانساني هو الذي سيحسم. اذا كان تدخل كهذا، فان دول الناتو ستلعب فيه الدور الاساس، ولكن بعض الدول العربية، ولا سيما من الخليج، كفيلة بان تشارك فيه ايضا.

تقدير استراتيجي لاسرائيل للعامين 2012 2013، مركز بحوث الامن القومي ـ جامعة تل أبيب ـ شباط/فبراير 2013