المفاوضات للفشل

أفنير عنبر' وأساف شارون

بدأ النزاع الاسرائيلي الفلسطيني يبعث محلليه على التثاؤب. فالمراوحة بين الأمل وخيبة الأمل، ومؤخرا بين خيبة الأمل واليأس تؤثر في البحث. وهكذا فهناك محاولات اقتراح طرق للحل تحل محل طريقة ‘بعدنا الطوفان’. مقال ايان لوستيك ‘وهم الدولتين’ (‘هآرتس′ 4/10) هو محاولة اخرى لشطب حل الدولتين، لاخلاء المكان لرؤى جديدة بعضها طوباوية وبعضها أخروية.

هذا اليأس الذي يعود أصله الى الطرف اليساري من الخريطة السياسية، التقى غير مرة مع خطط وأماني اليمين. وهكذا جاء الى العالم التحالف الفكري الغريب، الذي يخلط معا طرفين سياسيين يجتهدان لاقناع الجمهور، هنا وخلف البحر، بانه لن يكون ممكنا اقامة دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل. غير أنه رغم كل شيء، فان فكرة تقسيم البلاد لم تكف ابدا عن أن تكون الحل الوحيد في متناول اليد، وانها خرجت فقط عن الموضة.

‘لوستيك لا يدعي ان حل الدولتين لم يعد ممكنا، لان الوضع على الارض أي التوسع الاستيطاني تجاوز نقطة اللاعودة. هذا الادعاء الشعبي بشأن ‘عدم التراجع′ للاحتلال يتفكك في اللحظة التي يفهم فيها عمق تعلق المستوطنات بالتمويل الحكومي الاسرائيلي، ومن هنا قدرة اسرائيل على اخلائها بسهولة. ثانيا، لوستيك لا يدعي انه يوجد بديل عملي لتقسيم البلاد في شكل حل دولة واحدة. ومع أنه من المريح التسلي بالرؤى عن الآخرة، فان احدا لم يفلح حتى الان في أن يرسم صيغة مؤسساتية جدية لدولة ديمقراطية ثنائية القومية بين النهر والبحر.

الادعاء الاساس للوستيك هو ان ثلاثة عقود من المحاولات الفاشلة لتحقيق الحل تدل على ضعف الحل نفسه. هذا تشويش خطير بين الوسيلة والغاية. فالفشل في تحقيق الغاية لا يدل على أنها غير قابلة للتحقق، بل ان الوسائل التي اتبعت لهذا الغرض لم تكن مناسبة منذ البداية. فشل المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية كان يمكنه أن يدل على أن حل الدولتين غير عملي فقط لو كانت المسيرة صحيحة تماما. غير أن هذه المسيرة بعيدة عن أن تكون كاملة. عمليا، كان في المسيرة خلل بشكل جد جذري لدرجة أن تعليق الذنب على الحل بالذات ليس سوى تحرير اسرائيل من المسؤولية عن عنادها، وتحرير الفلسطينيين من المسؤولية عن اخطائهم، وتحرير الامريكيين من مسؤوليتهم عن الادارة الفاشلة للمسيرة على مدى السنين.

لا يمكن أن نحصي هنا كل الاخطاء والاخفاقات التي ميزت جولات المفاوضات، ولكن الكثير منها ينبع من خطأ أساسي، يواصل توجيه الفهم السائد في أوساط اصحاب القرار والمحللين: التفكير بان المفاوضات الثنائية المباشرة هي جزء لا يتجزأ من الحل الذي يفترض أن تقود اليه. في موضوع المسيرة السلمية تجذر الفهم الذي يقول ان السبيل مهم بقدر لا يقل عن النتيجة. تسيبي ليفني، مثلا، تعود لتدعي ان ‘السبيل الوحيد لحل سياسي يمر عبر المفاوضات المباشرة بين الطرفين’. كما أن الامريكيين والاوروبيين يعودون ويعلنون عن أهمية المفاوضات المباشرة بصفتها الالية الحصرية لتحقيق الاتفاق. فقد أعلن جون كيري ان هدف جولة المحادثات الحالية هو ‘دولتان تعيشان الواحدة الى جانب الاخرى بسلام وأمن، تحققتا بواسطة مفاوضات مباشرة بين الطرفين’.

وهذا العناد غريب ليس فقط لان هذه الالية فشلت المرة تلو الاخرى، بل لان فشلها متوقع، بل وربما محتم. فالفشل ينبع بشكل بنيوي من وضع لا يكون فيه الطرف القوي في المحادثات يريد أن يصل الى الهدف. فالدافع المركزي الذي دفع اسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو للدخول الى المسيرة هو صد الضغط الامريكي. ولكن هذا الهدف يتحقق بمجرد الدخول الى غرفة المفاوضات. وهذا هو السبب الذي يجعل ليفني تتحدث عن الدخول ‘الى الغرفة’، وليس عما في نيتها تحقيقه في داخلها. والدليل الافضل على عدم جدوى المفاوضات المباشرة هو الحماسة التي يكرر فيها نتنياهو الدعوة لاجرائها. فعندما يقرر نتنياهو ان ‘السبيل لتحقيق السلام هو من خلال المفاوضات المباشرة’، يكون واضحا للجميع بانه مستعد لذلك لانه لن يتحقق فيها شيء. ولما كان الفشل معروفا مسبقا، فان الغاية الاساسية للطرفين هي توجيه المحادثات، بحيث يلقى الذنب على الطرف الاخر. بمعنى انه حتى المحادثات نفسها ليست موجهة نحو الغاية.

ورغم ذلك فان كل الاطراف تواصل ربط انهاء الاحتلال واقامة دولة فلسطينية بالمفاوضات الثنائية المباشرة هذان موضوعان العلاقة بينهما مصادفة. وفقط عندما لا تعود قيادة اسرائيل قادرة على أن تحقق غايتها من خلال مفاوضات خالدة، تكف المفاوضات عن أن تكون خالدة. وبدون حوافز واضحة، فان عشر سنوات أيضا داخل ‘الغرفة’، من غير المتوقع أن تعطي نتائج، مثلما اثبتت الجولات السابقة. والالتصاق العنيد بصيغة الثنائية المباشرة من دون تغيير الظروف ليس سوى تحويل الوسيلة الى غاية. هذه هي عبثية المفاوضات.

ان اليأس الذي يحرك المنتقدين الجدد لتقسيم البلاد يجب أن يستبدل بجهد متجدد لايجاد بديل. ليس بديلا عن حل الدولتين، الذي يبقى الحل الوحيد القابل للتطبيق، والطريق اليه لا يمر عبر حرب الجميع ضد الجميع، بل انه البديل العملي لعبثية المفاوضات. ومثل هذا البديل يمكن أن يدمج اعمالا احادية الجانب (مثل التوجه الفلسطيني الى الامم المتحدة)، او متعدد الجوانب (مثلا على اساس مبادرة السلام العربية)، في ظل استخدام حوافز ايجابية وسلبية (مثل تعليمات الاتحاد الاوروبي بالنسبة للمستوطنات). عندما يكون الحل معروفا للجميع، فالجمود المتواصل بالنسبة لوسائل تحقيقه تجعل نبوءات الغضب بشأن موت حل الدولتين نبوءات تحقق نفسها.

مدير عام مركز التجدد الديمقراطي

” مدير اكاديمية المركز ومحاضر في دائرة الفلسفة في جامعة تل أبيب

هآرتس