نهاية ست سنوات العمى

بقلم: يوسي بيلين

عشية عيد العرش عام 1973 كأنه لم يكن أبدا – كان مجرد استمرار واضح ليوم الغفران. ولكن في ذلك اليوم كان واضحا أننا لا نقف أمام انتصار سريع. وأن الأسرى ليسوا فقط من ذلك الجانب. ومن الكابوس نفيق فقط على واقع كابوس أشد. ولأننا كنا نظن أن هذا لا يمكن أن يحدث لنا، فإنه حدث. وهناك في مقر القيادة كانت صورة الكابوس واضحة وشاملة. كان ضابط برتبة عميد يمر على الغرف مهنئا بـ«عيد عرش سعيد». الأمر بدا كنكتة غبية.

فالسماء سقطت على رأسي قبل خمسة أيام من ذلك، مثلما سقطت على رؤوسنا جميعا، في الثانية بعد الظهر. كل ذلك اليوم قضيته في الكنيس. وعندما انتهت صلاة المضاف، وأعلن الحاخام عن توقف لساعة، عدت إلى بيتي، والتقيت زوجتي وابني الذي كان عمره عاما واحدا. وحينها سمعنا صافرات الإنذار. وأحاول استعادة وتذكر ما فكرنا به في الطابق الرابع، في بناية لم تكن تحوي مصعدا.

بدا الأمر وكأنه مناورة، ولكن من هو المجنون الذي سيجري مناورة في يوم الغفران؟ أبواب الجيران فتحت، وجميعنا نزلنا إلى المدخل الصغير للعمارة. ولم يكن لدينا ملجأ. في الطريق سقط جراب من قدم طفلي. ولم ننتبه، لكنه انتبه وأشار إلينا باصبعه الصغير فعدنا واستعدنا الجراب. وساعة كان الجميع ينزل كنا نصعد لجلب الجراب. هذا بقي في الذاكرة.

وبعد ذلك وصل دعاة الخدمة الاحتياطية. صعدت إلى البيت، ارتديت لباسي العسكري، سافرت إلى نتانيا لتجنيد خلية الاحتياط التي كنت مسؤولا عنها، وعدت إلى وحدتي العسكرية. وفي الطريق كانت الأنباء الأولية قد وصلت عبر أجهزة الراديو. وكان واضحا أن هذا هجوم مصري على قواتنا في قناة السويس، كما كان واضحا تماما أنه خلال وقت قصير ستتم معالجة الأمر على يد سلاح الجو.

وكنت تقريبا قد دخلت إلى حرب الأيام الستة مباشرة من المدرسة الثانوية. حينها تم ضمي للواء الثامن ووجدت نفسي في طريق سيناء وفي طريق هضبة الجولان. ورأيت عددا غير قليل من المصابين في صفوفنا وأعدادا لا تحصى من القتلى المصريين والسوريين – وكان النصر مذهلا وعاصفا، كما في الكتب: رغم كل المصاعب، نحن دوما ننتصر.

وكان الوضع مختلفا يوم الغفران. كنت رب عائلة، عضو هيئة تحرير صحيفة «دافار»، وطالب دكتوراه في جامعة تل أبيب ومتدربا في دائرة العلوم السياسية. كان موشيه ديان بطلي، وبدا لي إسرائيل جليلي شديد الحكمة، وكان يجئال ألون أميرا، وأرييل شارون الإسرائيلي المثالي، وبدت غولدا مئير لي رئيسة الحكومة التي تعرف ما تقول.

وكنت مشغولا جدا ببناء خط تحصيناتي، كما كنت جزءا من حالة العمى الجماعي في السنوات بين 1967 و1973. وسوية مع ديان كنت بانتظار أن يرن الهاتف من الملك حسين، وظننت أن كل شيء على ما يرام. وأن العرب سيأتون في نهاية المطاف يطلبون منا الموافقة على تسوية إقليمية، وأننا سنوافق، بسبب المسألة الديموغرافية، لكننا لن نرجوهم.

كابوس تحقق

وقد تغير كل ذلك حينما وجدت نفسي في قدس الأقداس. عندما رأيت الوجه الشاحب لرئيس الأركان الجنرال دافيد العازار، دادو، ووجه ديان، واليأس البادي من عيون الجنرالات الذين وصلوا إلى مقر هيئة الأركان لحضور اجتماعات طارئة، وفي الأساس ما كان يجري في شبكات الاتصال – والذي انكشفت بعض أجزائه للجمهور على مر السنين - وكان لا يصدق.

ليس فقط لأنه في لحظة ما سقطت كل قواعد الحوار في الشبكات، وليس فقط لسماع الأصوات اليائسة لمن كانوا على وشك الاستسلام، وإنما في الأساس لسماع حوارات القادة. وكان يكفي الإصغاء للسجال بين غونين وشارون لنفهم إلى أي درك تدهورنا.

فجأة تصرف الناس كما لو أن كل الرتب والمراتب سقطت، كأنه ليس هناك غد – كأنهم لن يضطروا للعمل ثانية كفريق بعد اليوم. فالمؤتمرون شتموا آمريهم، ورفضوا تنفيذ الأوامر، وفجأة غدت كل تلك الثقة الهائلة بأنفسنا، والتي بنيت خلال ست سنوات العمى، هيستيريا كبيرة. وصارت كابوسا يتحقق. صارت وضعا لا مجال للإمساك فيه بشيء، ولا يجرؤ أحد أن يقول لك – كما جرت العادة ــ أن كل شيء سيكون على ما يرام. ان بالوسع الركون. لم يكن بالوسع الانقطاع عن الشبكات حتى بعد نهاية نوبتي. هناك تبدت الحقيقة الفظيعة، لحظة بعد لحظة.

وهناك تبدى كم كان جنونا الظن أن المستوطنات في سيناء ستحمي قلب إسرائيل. هناك فهمت كم كان مجنونا تصديق أن رياض الأطفال في الجولان ستحمي رياض الأطفال في الجليل: فقد انسحبنا بسرعة من الهضبة، ووصل الجيش السوري إلى كيبوتس جدوت، وما أعاق انسحابنا كانت المستوطنات والحاجة إلى حماية المدنيين والأطفال. وغدت المستوطنات عقبة أمنية، وما كان «حزاما أمنيا» تباهت به الحكومات، من دون أن تغير النظرة الأمنية، ومن منطلق التفكير بأن ما كان صالحا في حرب 48، يبقى صالح أيضا في السبعينيات.

في حرب الأيام الستة تصرفنا من دون رؤية الصورة الكاملة. حينما كان جهاز الترانزستور ينجح في الالتقاط كنا نسمع عن احتلال هنا واحتلال هناك، ولكن عندما هرعنا إلى وسط سيناء لم نكن نعلم ما يجري في غزة، وحينما صعدنا للهضبة، لم نكن نعرف عدد الجنود الذين قتلوا في الحرب. ولكن في قدس الأقداس، بعد ست سنوات، كان بوسعي رؤية الصورة. الإصابات. وبشكل ما فإن ما جرى في المقر الشديد الحماية، كان أشد فظاعة من الجثث التي رأيتها للمرة الأولى في حياتي في حرب الأيام الستة.

بعد هزة أرضية

بقيت في الخدمة الاحتياطية حوالي نصف عام لكني أفلحت في العودة للحياة العادية بين النوبات، وفي الصفوف ذهلت لرؤية النقص في عدد الطلاب. بعضهم لقي مصرعه وأكثرهم أصيبوا بجروح. وفي الصحيفة رأيت، بين أمور عدة، عائلات المفقودين. آباء لا يعلمون شيئا عن أبنائهم، آباء يبحثون يائسين، يمعنون النظر في الصور التي ينشرها الجيش، يريدون رؤية أبنائهم في الصور المشوشة التي توفرت من معسكرات الأسرى الإسرائيليين. خشيت الحديث مع كثير من معارفي، لأنني لم أكن أعرف مصير أولادهم في الحرب. عشنا كأننا بعد هزة أرضية.

لقد تغيرت حياتنا في تشرين الأول 1973. غضبت جدا على الزعامات خفيفة الرأي، لكني غضبت أكثر على نفسي، لأنني كنت جزءا من قطيع. غضبت لأنني كرست وقتا طويلا من حياتي للعبادات الدينية، وقد شفيت من ذلك. غضبت لأنني وثقت بالناس الذين يتحدثون بثقة مطلقة عن الأمن والسياسة والاقتصاد والمجتمع.

وعدت نفسي بأن لا أقبل أبدا كلامهم على أنه حقيقة مطلقة. وأن أفحص دائما، وأبذل كل جهد لأن أفهم بنفسي، وأن أحث ما أؤمن به، ولكن أن أقول لأنصاري: حقيقة أني أؤمن بشيء من أعماق قلبي لا تعني بالضرورة أنني أيضا على حق. عندما تجدون زعيما، لا تسمحوا للتيار التلقائي بأن يقودكم.

حرره: 
م . ع