غراب أسود

بقلم: نداف إيال

نشرت «نيويورك تايمز» هذا الأسبوع نصا هو لائحة اتهام خطيرة وثاقبة ضد فكرة حل الدولتين. وبالإجمال، كانت هذه مقالة رأي، لكن الحزم وسعة الأفق حققا الغاية. فقد أثارا الكثير من الاهتمام. وبقدر ما أعلم، فإن المقالة حال طباعتها لم تثر أصداء كافية في إسرائيل. فقد وافق الأسد هذا الأسبوع، ظاهريا، على نزع سلاحه الكيماوي. واقتربت إيران من كسر الجمود التاريخي مع أميركا. غير أن هذه المقالة، في نظري، هي التطور الأهم هذا الأسبوع. فهي الغراب الأسود الصغير في سمائنا، المنذر بالسوء، الواعد بالسوء والراغب بالسوء.

وإيان لوستيك، كاتب المقالة، ليس من عشاق إسرائيل. على الأقل. كما أنه ليس خبيرا حقا بالمزاج هنا، ويحب رسم سيناريوهات غير معقولة لكنها مناسبة لأطروحته، مثلا ائتلاف بين العمال الأجانب، الإسرائيليين من أصول روسية من غير اليهود وفلسطينيين علمانيين. وهو يقدم أخطاء فظة، مثلا الزعم بأن فكرة الدولتين قائمة ومقبولة لدى الجمهور الإسرائيلي لسنوات طويلة – عمليا رئيس الحكومة الإسرائيلي الأول الذي قبل الدولة الفلسطينية، علنا، هو أرييل شارون (خطاب اللطرون). وقسم من تقديراته يقع بين الشاعري والخيالي. وإدخال الشعر إلى مقال سياسي هو بالعموم شارة مقلقة.

ويستهل لوستيك مقالته بهجوم ثاقب، وبعدها يزيد الوتيرة. والعنوان: زعم الدولتين. وهو يقارن موت الفكرة بالاحتضار الطويل للجنرال فرانكو، ويقول كما قالت وسائل الإعلام كل ليلة أن فرانكو لم يمت بعد، وهكذا يمسك ساسة من كل الأطياف بأصداء فكرة أنه مات. وحججه منطقية جزئيا: فاحتمال أن تكون الدولة الفلسطينية أصولية إسلامية أكبر من احتمال دولة علمانية فلسطينية صغيرة، كما يريد العالم والإسرائيليون. ويكتب لوستيك أن «اختفاء إسرائيل كمشروع صهيوني، عبر الحرب، والإنهاك الحضاري أو الانهيار الديموغرافي معقول بالقدر نفسه كإخلاء نصف مليون إسرائيلي يعيشون حاليا وراء الخط الأخضر». وبعد ذلك يتحدث عن «صناعة السلام»، وهو تعبير يبدو لي أنه اختراع من اليمين الإسرائيلي المتطرف، وكل تلك النخب (الفلسطينية، الإسرائيلية والأميركية) التي تواصل التمسك لأسبابها الخاصة بفكرة لم تعد قابلة للحياة.

وحتى الآن، عدا هذه الغمزة الصغيرة عن إبادة دولة إسرائيل، فإن داني دانون، زئيف ألكين وبينت كلنوا سيؤيدون كل كلمة. وحينها يعود لوستيك لمعاداته المزمنة للصهيونية. وهو يكتشف التعبير الأكثر رواجا في السجال الإسرائيلي وهو «إذا فعلنا كذا (أو لم نفعل كذا) فإن الدولة لن تعيش»! صحيح أن مخاوف وجودية ترافق إسرائيل منذ نشأتها، لكنها لا تنبع – كما كتب - من ضعف وجودي، وإنما من أخطار وجودية. وفي كل حال، هذا التعبير ليس «الأكثر رواجا» في السياسة الإسرائيلية. لكن لوستيك يحلم باللحظة التي تنهار فيها إسرائيل: «فمن يفترضون أن إسرائيل ستبقى دائما كمشروع صهيوني ينبغي لهم رؤية كم كان سريعا انهيار السوفيات، سلالة بهلوي في إيران، التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، حكم البعث في العراق والدول اليوغوسلافية، وكم كانت قليلة شارات التحذير التي لاحظها فقط المراقبون شديدو الانتباه». وبعد ذلك ينطلق في سلسلة مقارنات تاريخية مع صلاحية تميز هذه المقارنات – الشحة، الضيق والإشكالية - لإثبات زعمه.

الخلاصة: إن الدبلوماسية التي تحث على الدولتين ليست طريقا للحل، بل هي العقبة، والمفاوضات نفسها مزورة. وهنا يتبدى هدف لوستيك المسبق: دولة واحدة أو كونفدرالية، لأن الموضوع لم يعد أين ترسم الخط وإنما «مساواة الحقوق السياسية». وعبر إزالة الخط الأخضر كخط الفصل بين إسرائيل والفلسطينيين، «تحظى إسرائيل بالشرعية». وهذا هو الهدف الأكبر، ونبوءة وأمل لوستيك ورفاقه في العالم، بمن فيهم قسم كبير من الجمهور الفلسطيني، الذي عبر غياب فكرة الدولتين، تغدو إسرائيل معه كلها منبوذة.

والآن يبدأ السيناريو المثالي في نظر الكاتب. وهذا السيناريو هو الرغبة بأن تسوء الأمور أكثر ليأتي بعدها الخير. سيئ جدا، بالمناسبة. فبعد انهيار السلطة الفلسطينية تغدو إسرائيل الحاكم الحصري في المناطق. و«تغدو الحلبة جاهزة لقمع عديم الرحمة، واضطرابات، وحشية، إرهاب، هجرة يهودية وعربية وموجات متزايدة من الإدانة الدولية لإسرائيل». وينزع من إسرائيل سلاحها النووي، ويتم تقديم تعويض سخي (للفلسطينيين طبعا). وانعدام الفهم الفظ من جانب الكاتب لمسارات المجتمع الإسرائيلي ينافس فقط رغبته في رؤية زوال إسرائيل الحالية: «متحررون من الصهيونية السياسية، في شرق أوسط يتغير بسرعة، يمكن لإسرائيليين جاءت عائلاتهم من دول عربية أن يجدوا مبررات جديدة للتفكير بأنهم ليسوا شرقيين وإنما هم عرب».

وهنا يأتي الشعر: «إن صنع السلام وبناء الدولة الديموقراطية يتطلبان الدم والسحر. والمسألة ليست إن كان المستقبل ينطوي على عنف لإسرائيل - فلسطين. إنه ينطوي على ذلك. المسألة ليست إن كان بالوسع منع انفجار النزاع. هذا مستحيل».

عندما قرأت عن «الدم والسحر» فهمت أن لوستيك يتخيل الحرب تحديدا. ومن نشأ في هذه المنطقة – إسرائيليون وفلسطينيون - يعرفون جيدا أن ليس في الدم سحر. وهذا أمر يصعب فهمه في جامعة بنسلفانيا، حيث يُعَلِّم. والإنجازات التي تحققت هنا لم تتحقق بـ«الدم والسحر» وإنما بالحوار المباشر، الصعب والثاقب، الواقعي والقابل للمساومة. أما رومنطيقيته الألمانية عن السحر والدماء فإنها تبشر بتطلع كارثي، كذلك الموضوع قسرا في مقالته. والكارثة هي نهاية دولتنا – كدولة ديموقراطية ويهودية. ولائحة اتهامه ضد فكرة الدولتين تخفي رغبته الفعلية – انهيار إسرائيل كدولة قومية يهودية.

وقد خصصت «نيويورك تايمز» مكانا محترما لهذه المقالة. وهي محقة تماما في ذلك. فرؤية الكاتب لم تعد في هوامش التفكير السياسي في أميركا، أو عند الفلسطينيين والإسرائيليين.

وأنا أتناول هذه المقالة لأن الغربان السود هي التحذير التقليدي قبيل العواصف الكبيرة. ومن يريد موت فكرة الدولتين هم الأعداء التقليديون للصهيونية العملية، التقليدية والبراغماتية، التي تؤمن بها أغلبية الإسرائيليين. من يريدون موت حل الدولتين يتخيلون في أنفسهم صدعا كبيرا وعنيفا لا يكون في نهاية توصيف قومي للشعب اليهودي، والفكرة الصهيونية الأكثر تلخيصا – أن لا تكون محكوما من الآخرين - تتحول إلى مواجهة مع وضع كانتوني، مركب ومعقد.

ونحن في طرف زمان فكرة الدولتين. بعد لحظة سوف تمر حقا، ولهذا فإن التنبؤ بموتها لا يعني أنها لن تموت. وعندما تموت، سنضطر لأن نبدأ البحث لأنفسنا عن أفكار مفندة كأفكار لوستيك، لأنه لن تبقى لدينا أفكار أخرى. لأننا نكون قد قتلنا بقوة لا مبالاتنا الخيار الأشد معقولية وواقعية. لأن هذا لم يكن على هوانا ولا ملحا بما فيه الكفاية، ولم نضغط على القيادة السياسية للقبول بتسويات، وبسرعة، لتقسيم البلاد. وقبل أن تحشر إسرائيل في زاوية منبوذة، كما يريد لوستيك ورفاقه. ولاحقا، نستطيع أن نروي لأنفسنا أننا كنا مشغولين بالهموم الاستراتيجية مثل السلاح النووي الإيراني، أو بـ«الأخ الكبير» وتملصات تل أبيب الكبرى. ولكن عيوننا أغمضت وآذاننا صمت على واقع حياتنا المتشكل: بين يوغوسلافيا وجنوب أفريقيا، نتخيل أننا كنا سنوافق في حينه على الدولتين ولا نتأخر عن قطار التاريخ.

ليست هناك مشكلة أسخن. فعلا لا توجد. فقط يبدو لنا أنه توجد. لأن هذه مشكلة مركبة ومتعبة. ولكن بعد أن تموت الفكرة، لن يكون بالوسع إعادتها إلى الحياة. وحينها ستطرح أسئلة شديدة جدا. مثلا، ما فائدة وجود يهودي هنا من دون سيادة قومية؟ متى بالضبط فضلنا أرضا أوسع، ومشاكل وعنفا أكثر، وفقدان الأغلبية الديموغرافية، على دولة إسرائيل السيادية والواقعية؟ ومن سيواصل العيش هنا، عدا المتطرفين طبعا؟

والمسألة عدا التشخيصات المخبولة للمجتمع الإسرائيلي، فإن خلاصات لوستيك مشابهة تماما للنقاط التي بحثها مؤخرا اليمين الذي يتمسك بنظريات مجلس المستوطنات، سواء تعلق الأمر بداني دانون أو نفتالي بينت وزئيف ألكين. وهذا اليمين كان سيوقع فرحا على المقالة التي تشير إلى أن حل الدولتين مجرد وهم فقط. فهذا هو الهدف الأسمى لنفتالي بينت، داني دانون ورفاقهما، لإثبات أن الإخلاء مستحيل، وأنه لن يحدث أبدا.

في الماضي، كان هؤلاء لا يتحدثون إلا عن انعدام جدوى الإخلاء. اليوم ينشغل بينت ورفاقه بدأب أكبر في محاولة مبدئية لتشويش حل الدولتين. ليس فقط أن المستوطنات لن تخلى – وهذا قول قديم ــ وإنما لن تقوم لحل الدولتين قائمة. وعمليا، فإن لوستيك يستخدم فعلا حججهم ومعطياتهم: إنه يقول أن هناك نصف مليون إسرائيلي في يهودا والسامرة – وهذا رقم يشيعه مجلس المستوطنات. وقد تقبله فرحا (إذ يعيش في يهودا والسامرة حوالي 350 ألف مواطن إسرائيلي، عدا القدس، حيث لا يتوقع حدوث أي إخلاء). وفي الدوائر المعادية للصهيونية، مثل لوستيك، يفكرون بالضبط مثل بينت حول حل الدولتين. ولكن الأخيرين يتحدثون بالدرجة نفسها وبشكل مثير للاهتمام عن اختفاء الدولة وتدمير «المشروع الصهيوني». فمن يذهب للنوم مع القضاء على حل الدولتين، عليه أن لا يستغرب إذا نهض صباحا مع العداء للصهيونية.

حرره: 
م . ع