أسرار الساعات "الملتهبة" قُبيل توقيع "أوسلو"

بقلم: ايتان هابر *
غطت الستائر الثقيلة من كل جهة الجناح الفخم الرحب في أعلى فندق "ماي فلاور" في جادة كونتيكت في واشنطن. وكانت ثمة رائحة ثقيلة لدخان السجائر في فضاء الغرفة حينما فتح الحارسان الاسرائيلي والأميركي الباب أمامي. وكان داخل الجناح أكثر الرجال طلباً وأسراً في العالم في ذلك اليوم، وكانت عيون مئات الملايين تتطلع إليه.
أخفاني عنه جدار مدخل منمق. كان يجلس في ركن الطعام وراء الجدار ويقرأ بالانكليزية، بلهجة اسرائيلية ثقيلة وبصوت عالٍ: "نحن، الجنود الذين أُشربت ملابسهم بالدم...". وتأخرت ثانية أو اثنتين وراء الجدار ولم يرني فقد أردت أن أسمع. كان يجلس في ركن الطعام بالقرب من المائدة رئيس وزراء دولة اسرائيل ووزير دفاعها اسحق رابين وكان يراجع وحده استعدادا للخطبة التي سيخطبها بعد ساعة في مرج البيت الابيض وأمام عيون مئات الملايين في أنحاء العالم.
"نحن الجنود، الذين أُشربت ملابسهم بالدم..."، سمعت مرة اخرى. وانبعث صدى صوته الثخين في أنحاء الجناح كله.
"نحن الجنود..."، كرر.
واجتزت جدار المدخل فظهرت له. وكف رابين فورا عن القراءة بصوت عال وكأنني ضبطته متلبساً بأمر قبيح. "استمر يا اسحق"، طلبت. "استمر، ولا تشوش على نفسك". لكنه قام من كرسيه وورقة الخطبة في يده.
تنفست تنفسا عميقا. وأُصبت في تلك اللحظة بتأثر. وحمدت الله العظيم في سري. فقد حدث تاريخ أمام ناظري في ذلك الصباح من يوم الاثنين الثالث عشر من أيلول 1993. وعلمت وآمنت بأنه منذ الآن لن يستطيع أي كتاب تاريخ أن يتجاوز هذه اللحظات إما بملاحظة هامشية وإما بالبسط في صفحات كاملة. وأنا على استعداد لأضمن أن رئيس الوزراء ايضا كان تلفه تأثر عظيم حل محله الشعور بالحرج كما كانت عادته دائما. وحينما كان يشعر بحرج أو يغرق في التفكير كان يميل الى أن يحك ما بين أصابعه، تلك التي كان يمسك بها ورقة الخطبة. ولاحت لناظري من الورقة الكلمات مطبوعة بأكبر أحرف ممكنة.
"كيف؟"، سألت بصوت خافت. أقول للحقيقة إنني توقعت أن يقول لي اسحق رابين بعد عشرات سنوات صداقة وخدمة "شكرا"، ويُربت على ظهري ويصافحني أو يفعل شيئا ما. وظننت أنه ربما يستطيع أن يعبر عن المشاعر حينما نكون نحن الاثنين وحدنا في الغرفة وأن يكون أقل صرامة.
قال: "دالية قرأت".
دالية هي ابنته البكر التي صاحبته الى هذا المقام منقطع النظير. "و..."، حاولت أن أستخلص منه كلمة اخرى أو اثنتين، "و...".
"كانت دموعها تسيل من عينيها"، أنهى الجزء الأكثر انسانية في هذا المقام. وكان ذلك بالنسبة إلي، وأقول هذا بصدق، كان كثيراً.
"اسحق"، هكذا كنت أناديه دائما حينما نكون وحدنا، "أريد فقط أن أقول لك إنني ارجع عن رأيي بشأن الاتفاق، لكنني أعتقد ايضا أننا في مقام تاريخي وفي لحظات تاريخية وسيكون هذا يوما تاريخيا".

رابين يقصي مساعديه
قبل ذلك بوقت ما استدعى رابين أمين السر العسكري، داني يتوم، واستدعاني الى ديوانه. وحدثنا بهمس تقريبا عن التفاوض مع الفلسطينيين في اوسلو وترك، عندي على الأقل، انطباعا بأنه يعتقد "أن لا شيء سينتج عنه". وعبرت في المكان ذاته عن رأيي المتواضع وهو "أنه لا يمكن عقد جسر فوق 100 سنة ارهاب ودم دفعة واحدة"، ورد رابين بقوله "هذه بالضبط هي القضية". وقال: "لهذا ستكون مراحل في تنفيذ الاتفاق مدة سنين". وأضفت أن الحديث في رأيي يدور عن سنوات تربية طويلة للطرفين، فالحديث يدور عن رواسب كراهية ودم يجب إبطالها ونقضها في مدة طويلة ربما في مدة جيل أو اثنين. وشعرت بأن الحديث لا يُريح رئيس الوزراء، فقد كان يحب الأحاديث من هذا النوع حينما يخلو بعضها مع بعض.
وبعد وقت قصير دخل الى غرفتي العقيد عاموس جلعاد، فقد حدثه قبل ذلك مساعد أمين السر العسكري. كان متأثرا مُهتاجا ولم يستطع كعادته أن يكتم رأيه. "ماذا تقول؟".
أبعد اسحق رابين العاملين في ديوانه عن الشأن في اوسلو. كنا في الحقيقة نرى التحركات المتوالية لشمعون بيريس ويوسي بيلين وأوري شافير ويوئيل زنغر وآخرين الى غرفة عمل رئيس الوزراء، لكن باب غرفة العمل كان مغلقا أمامنا. وكان يصعب في الأمتار الخمسة المربعة للديوان إخفاء الاعمال والاقوال، لكن كان من الممكن عند رابين الاخفاء حتى على اسحق رابين نفسه، فلم يوجد حافظ للسر مثله.
سمحت لنفسي في تلك الايام لأول مرة في حياتي أن أخرج في عطلة. وسافرت الى ايطاليا مع ابني ايلان في رحلة قبل التجنيد للجيش الاسرائيلي. وأشعلت التلفاز في الفندق، فرأيت خريطة دولة اسرائيل والدول المجاورة، وسمعت قارئا للنشرة الاخبارية يقول كلمات لم أفهم معناها لكنها بدت معروفة مثل: البحر المتوسط والفلسطينيين واسرائيل ورابين وبيريس والسلام. ومنذ تلك اللحظة انتهت الرحلة الى روما. أصبحت ثائر الأعصاب وأدركت أن الجماعة التي تحيط بوزير الخارجية، شمعون بيريس، تحتفل في وسائل الاعلام وبخاصة الالكترونية، بالإقصاء الذي طبقه اسحق رابين على عاملي ديوانه. وكان المعنى واضحا جدا وهو أن رابين لا يعتمد ولا يثق بالعاملين معه، ونحن، العاملين مع بيريس، قمنا بالعمل كله. وفي يوم السبت بعد الظهر، بعد يوم من عودتي من الخارج، جلست على أريكة في غرفة عمل اسحق رابين وأعلنت قائلا: "أنا ذاهب الى بيتي. أنا مستقيل". وكنت حتى تلك اللحظة أخدم مديرا لديوان رئيس الوزراء. وبيّنت لرابين أنني لا أستقيل بسبب الاتفاق، برغم ملاحظاتي وتنبيهاتي وعدم ثقتي بالقدرة على تنفيذه، بل بسبب الاقصاء. وسألته: "ماذا سيفهم الجميع؟، هل أنك لا تثق بالمساعدين وبأقرب الناس منك؟".
"أنت على حق يا ايتان"، أجاب رئيس الوزراء. "لم أعتقد في البدء أن ينتج عن هذا شيء ما، وحينما أصبح أكثر جدية ودخلنا في الأمر ظننت أن من المتأخر أن أُحدثكم في ذلك. من الممكن جدا أنني أخطأت". وأسر قلبي الصدق الذي فاض عن رابين المحرج في تلك اللحظات. لو وُجد ساسة آخرون لاستلوا ذرائع من هنا وهناك. لكنه قال الحقيقة البسيطة التي يقولون عنها إنها أفضل الكذب.
ونهضت قائما وكنت ما أزال مُهتاجا بسبب عدم الثقة الذي ظهر بيننا. وقدّرت أن اياما عظيمة تنتظره وتنتظرنا في دولة اسرائيل، وتذكرت جيدا أنني وافقت على الانضمام الى فريقه قبل ذلك بسنة بعد أن قلت له فقط "عِد بأن تفعل كل شيء لأجل السلام". ووعد رابين وقد اتجه الآن الى الوفاء بالوعد.
نعود الى جناح الفندق. ولم يدعنا بيري، ضابط ادارة السفارة، وشأننا فقال: "أتريدان التأخر؟" وسدد رابين إليه نظرة غاضبة، ولم يكن ذلك صعبا عليه لأن هذه النظرة كانت نظرته شبه الدائمة.
"أتعلم يا اسحق"، اتجهت إليه سائلا، "أتعلم ما الذي أفكر فيه الآن؟"، وصمت رابين.
هاجمتني ذكريات الحداثة: "أفكر الآن في معلمتي للتاريخ في مدرسة "غيئولا" في تل ابيب، مريام يعقوبوفيتش...". وظهرت في وجه رئيس الوزراء نظرة تعجب.
"كان ذلك هو الموضوع الوحيد الذي أحببت تعلمه والموضوع الوحيد الذي حصلت فيه درجة جيدة، وقد علمتنا عن كل المؤتمرات في العالم. ولم يخطر ببالي قط كم من التفاصيل الصغيرة يشتمل عليها كل مؤتمر، من لون الأصص والأزهار الى موضع كراسي...".
"ما شأنكما"، دعانا ضابط الادارة المصاب بالعصبية، "هيا بربكما".
"لنبتلع حبة مضادة للغثيان ولنذهب"، قال رابين قبل أن أغلق الباب وراء ظهري.
دخول أميركا
وفي الحافلة من الفندق الى البيت الابيض، في سفر عشر دقائق، أغمضت عيني ونمت قليلا. كانت نهاية الاسبوع الاخير مليئة بمكالمات هاتفية تتجاوز المحيط الاطلسي. ولم أكن قد نمت 48 ساعة متصلة على الأقل أو أكثر من ذلك في الحقيقة، ومنذ اللحظة التي أبلغ فيها شمعون بيريس بأمر من رابين وزير الخارجية الأميركي وورن كريستوفر أمر اتفاق المبادئ مع م.ت.ف، لم تكف الولايات المتحدة عن طلب "قطعة اللحم" التي لها. وطلبت الولايات المتحدة، التي عرفت قليلا جدا عن التفاوض الذي تم سرا، أن تتم مراسم التوقيع في البيت الابيض. فقد كان الرئيس بيل كلينتون مُحتاجا في تلك الايام الى انجازات سياسية، ولم يقصد لا هو ولا رجاله ترك هذه الفريسة. أتريدون أن تكون الولايات المتحدة شاهدة وضامنة للتوقيع؟ وأن تمول كل شيء؟ هذا هو الثمن: المراسم في البيت الابيض. ووافق رابين وبيريس على الطلب الأميركي بنفس راغبة بل أرادا ذلك. فما السيئ في أن تقف أميركا العظيمة من ورائنا مرة اخرى؟.

رابين محتاراً...
ومنذ اللحظة التي عُلمت فيها الموافقة الأميركية بدأ رقص أشباح في ديوان رئيس الوزراء ومكتب وزير الخارجية على حدة. وبدت الامور فوق السطح وبدا المتحدثون هادئين: "اسحق العزيز"، و"شمعون"، وكانت تلك مداعبات كلام أخفت توترا كبيرا. كان رابين ما زال يتعذب في ديوان رئيس الوزراء باستقرار رأيه على التوجه الى اجراء سياسي جد حاسم وتاريخي. "أعتقد أنه يجب ألا تسافر الى واشنطن وتشارك في المراسم"، قلت له حينما سألني عن رأيي. "لماذا؟".
لأننا لا نعلم بعد ماذا سيكون حال الاتفاق، ومن السابق لأوانه أن نسجله باسمك في الشهر العقاري".
لم يُحب رابين جدا هذه الدعوى. فقد تحمل المسؤولية منذ كان فلماذا يتهرب منها فجأة؟.
"واذا سافر شمعون وحده ووقع وحده، فسيكون من الممكن دائما أن تكون أنت الذي تضع الختم النهائي آخر الامر. ستكون أنت الاحتفال الأكبر بعد وقت ما"، قلت، ولمست نقطة حساسة في ذاته.
أحب رابين هذه الدعوى أكثر، لكنه لم ينبس حتى ذلك الحين ببنت شفة. "اذا سافر شمعون فستكون المراسم في غرفة صغيرة مع عدد من الضيوف لا غير، ولن يكادوا يتذكرون ما كان. أما اذا سافرت أنت فسيضطرون الى دعوة عرفات ايضا الذي منعت أميركا دخوله أرضها. وستحدث ضجة عظيمة"، أضفت.
احتار رابين في القضية مدة ذلك الاسبوع: فقد ضغط عليه بعضهم ليسافر، وضغط عليه آخرون ليبقى في البيت. وفي يوم الجمعة العاشر من أيلول، قبل التوقيع بيومين دعاني الى غرفته في وزارة الدفاع في تل ابيب. "هاتف السفير الأميركي وأبلغه أنني لن أسافر. أنا لن أحضر".
وبالتوازي تقريبا كان على خط الهاتف آفي غيل، مدير مكتب وزير الخارجية: "ماذا"، سأل غيل أو نبّه بنفاد صبر ظاهر، "أقرر؟".
"لن نسافر"، أجبت ورأيته والمساعدين الآخرين لوزير الخارجية في مخيلتي يرقصون رقص ابتهاج. فقد بقي المسرح الآن لبيريس وحده.
كان يوم الجمعة القصير طويلا في ذلك اليوم، طويلا جدا. وأبلغت ليئا رابين والمدير العام شمعون شيبس وأمين السر العسكري يتوم قرار رئيس الوزراء، وأبلغت بعد ذلك عددا من رجال الحكم. وكان داخلي شك كبير جدا في أن يصمد رابين على قراره: فلم اؤمن لمعرفتي به لسنين بأن يترك المسرح كله لبيريس فقط. فقد قامت بينهما سنين من العداوة الشخصية والسياسية، فهل يُمكّن بيريس من أن يسطع نجمه وحده في واشنطن؟ لكنه كان مُصرا على رأيه.
ووصلت الى بيتي في رمات غان في يوم الجمعة القصير ذاك في ساعة متأخرة مساءً وطاردتني المكالمات الهاتفية. وقال مارتن اينديك، مساعد مستشار الامن القومي، بعد أن سمع حجج رابين: "ما زال الشعب الأميركي غير ناضج ليرى رئيسه يحتضن رئيس المنظمة التي زرعت الارهاب في الشرق الاوسط. بالاضافة الى أن عرفات ما زال في قائمة الارهابيين عندنا". وفرحت، واعتقدت أنني ربما وافقت رأي عظماء في البيت الابيض.
وطلبت الى سفيرنا الممتاز في واشنطن، البروفيسور ايتمار رابينوفيتش، أن يُبين لكل من يجب أن يُبين له في واشنطن حجج رابين لعدم المشاركة في المراسم، وأضفت: "لا يريد رئيس الوزراء أن يحرج رئيس الولايات المتحدة، لأنه اذا جاء الى واشنطن فسيأتي عرفات ايضا الى هناك". وافترضت افتراضا ذا أساس أن خط الهاتف تتنصت عليه السلطات المناسبة وأن الكلام سيصل في أسرع وقت الى الرئيس والى قادة البيت الابيض. "والى ذلك"، قلت لرابينوفيتش ولاينديك في مكالمتين منفصلتين، "أدار بيريس التفاوض من جهتنا وسيوقع هو. وأدار محمود عباس (أبو مازن) التفاوض من الجانب الفلسطيني وسيوقع هو. فما الذي ليس على ما يرام هنا؟ إن كل شيء متماثل".

كلينتون يضغط على رابين
وبعد ليلة كاملة حاولت أن أنام فيها بين رنين الهاتف المتوالي، أبلغني اينديك في الساعة الرابعة فجرا قائلا: "يريد الرئيس كلينتون أن يتحدث الى رئيس الوزراء". وبعد نصف ساعة تقريبا رن الهاتف مرة اخرى وكان على الخط اسحق رابين. قال: "يا ايتان. كن عندي في السابعة والنصف صباحا، وقد دعوت ايضا شيبس ويتوم". وسألت رابين عما قاله له رئيس الولايات المتحدة لكنه اكتفى فقط بقوله: "أُحضر واسمع".
وحضرنا وسمعنا. تحدث رابين عن المكالمة الهاتفية مع كلينتون وقال إن الرئيس ألح عليه أن يحضر المراسم، ووصف الحالة بقوله "شبه ازمة". وطلب الى كل واحد منا أن يراجع حججه، التي تؤيد السفر والتي تعارضه، وراجعنا ذلك.
في الساعة 18:15 صباحاً تقريبا في يوم السبت الحادي عشر من أيلول، أبلغنا رئيس الوزراء في غرفة عمله في تل ابيب قائلا: "استقر رأيي على السفر!".
رغم أنه لم يكن عندي شك في أن هذا سيحدث آخر الامر، فاجأني النبأ. "سأفعل كل ما يجب أن أفعل"، قلت له واتجهت الى العمل فورا، فهاتفت رئيس مكتب وزير الخارجية وأبلغته عن تغيير القرار. وافترضت أن يُبلغ بيريس فورا. وأبلغت بعد ذلك المذياع وافترضت أن يُبث النبأ في نشرة اخبار الساعة التاسعة صباحا، وكان ما زال أمامنا نحو من اربعين دقيقة قُبيل البث وهذا وقت كاف لنقل النبأ. ولم يخطر ببالي أنه في صباح السبت المتعَب ذاك سيذيع "صوت اسرائيل" نشرة أخبار قصيرة في الثامنة والنصف صباحا، وأُذيع النبأ قبل الموعد المنتظر بثلاثين دقيقة. وزعموا حول بيريس ولم يزعم هو نفسه ذاك أنه سمع بذلك لأول مرة من المذياع.

بيريس يستقيل !
أشعل قرار رابين النار عند بيريس. فقد كان في ذروة مقابلة صحافية مع ناحوم برنياع وشمعون شيفر حينما بلغه النبأ الجديد، ومنذ تلك اللحظة انقلب العالم رأسا على عقب. فقد صاح بيريس في بيته غاضبا متأثرا قائلا: "إنه يسرق مني السمعة الطيبة مرة اخرى. إنه يطاردني ويضطهدني منذ سنين". وآنذاك ألقى قنبلته: "أنا مستقيل!".
وكنت أرى باعتباري مدير الرحلة أن بيريس لن يسافر الى واشنطن. وبعد دقائق معدودة أغرق بحر من رنين الهاتف رئيس الوزراء. فقد أراد الجميع أن يقدموا النصائح وأن يتوسطوا وأن يُرضوا وزير الخارجية. وأصبح رابين من جهته محرجا. إنه لم يُدبر أمر الرحلة الى واشنطن لكن يُخيل إلي أنه لم يأسف لطلب كلينتون. ومن الجهة الاخرى فان استقالة بيريس يمكن أن تصرف كل الانتباه الى وزير الخارجية المستقيل.
واشتاط بيريس غضبا وأصر بشدة على نية الاستقالة. وآنذاك هاتف رابين وزير الخارجية الغاضب وعرض عليه أن يأتي الى بيته في القدس. رئيس الوزراء لا يسلك هذا السلوك، لكن رابين تجاوز كرامته. وفي تلك الاثناء هب غيورا عيني وآخرون للتوسط بين الاثنين، وحينما تراضيا هاتفني غيل. "أنا أوليك إمرة الرحلة"، قال، "وأريد فقط أن أقول لك إننا دعونا ثلاث نساء للانضمام إلينا فلا تُلغوا ذلك اذا أمكن". ووعدته بذلك. وقال مفصلا: حنا مارون التي قُطعت رجلها في عملية ارهابية، واليسا بن رفائيل التي قُتل زوجها في عملية "ارهابية" في سفارة اسرائيل في الارجنتين، وداليا يئيري التي قُتل زوجها في عملية مداهمة لاحباط عملية "مخربين" في فندق سافوي في تل ابيب.
وخطر ببالي عقب هذا الحديث أن أستدعي سمدار هيرن ايضا التي فقدت زوجها واثنين من أبنائها في هجوم ارهابي في نهاريا، وإيفي موزيس الذي فقد زوجته وابنه في عملية ارهابية بالقرب من الفيه – منشه، وزئيف راف الذي قُتلت ابنته على يد "مخرب" بجوار بيتهم في بات يام.

شروط العرس العجيب !
وهاتف اينديك وطلب جوابا نهائيا فقلت له: "نعم، سيحضر. لكن".
وشملت "لكن" هذه شروط العرس العجيب وهي: أن يخطب بيريس، وأن يصافح بيريس عرفات، وأن يوقع بيريس على الاتفاق. ووعد اينديك بأن يرد في أسرع وقت، لكن قبل أن ينهي المكالمة الهاتفية قلت له ما لم يقولوه له حتى ذلك الحين: "بلا لباس عسكري وبلا سلاح وبلا قُبل".
وسأل اينديك هل سيصافح رابين عرفات؟ وعلمت أن كل شيء سيسقط اذا اعتمد على المصافحة. وخشيت هذا الاحتمال وخشيت الصدى الاعلامي في الأساس. فقد علمت فورا أن هذه هي الصورة التي ينتظرها بيل كلينتون مع العالم كله. وقلت لاينديك إنه يجب علي في هذه المسألة الحساسة أن اسأل "رب العمل". وسألته وبعد "الويل والثبور" كان جواب رابين النمطي "سأفعل كل ما يجب أن أفعل". ونقلت جوابه وأضفت مني: "كل الشروط السابقة سارية المفعول، واذا أمكن الامتناع عن المصافحة...".
وأجاب اينديك فورا: "هذه ذروة المراسم بالنسبة إليهم، واللحظة التأسيسية والصورة التي ستدخل التاريخ، ولن يتخلوا عن ذلك". وفصل بعد ذلك كل مراحل المراسم دقيقة بعد اخرى، وقال كالمسيح الطيب: "وعشاء".
إن العشاء الرئاسي في واشنطن هو ذروة كل المراسم. ويحضره نحو 120 من أهم رجال الولايات المتحدة واعضاء المجلس الوزاري المصغر ومجلس الشيوخ، والقضاة الأعلون والأدباء ونجوم هوليوود ورؤساء التجارة والاقتصاد. ويكرم الرئيس بهذه الوجبة دائما مؤيديه الذين يرون أن الدعوة الى البيت الابيض هي أسمى لحظة في حياتهم.
"عشاء رئاسي؟"، صرخت في الهاتف.
كان ذلك من وجهة نظري صورة لا تحتمل، فهناك كؤوس بلورية، وأثواب نفيسة وربطات عنق على هيئة فراشة، فاذا أُضيف الى ذلك لباس عرفات العسكري كان في نظري أفظع شيء ممكن.
وصحت باينديك: "غير مأخوذ في الحسبان. غير مأخوذ في الحسبان".
"اذاً"، قال اينديك وكأنه توقع جوابي: "ستضطرون الى مغادرة واشنطن حتى المساء، لأنه لن يكون عندنا تفسير جيد لعدم اقامة العشاء الرئاسي".
"سنغادر أميركا حتى سيرا على الأقدام ولن يوجد عشاء مع ربطات عنق الفراشة"، قلت دون أن اسأل رابين. وقلت له مرة اخرى: "تذكر يا مارتن، بلا عشاء".
"تذكر يا ايتان"، أجاب اينديك، "ستضطرون الى المغادرة حتى المساء".
وعدت الى بيت رابين الذي كان قد استقبل جمهور من يحاولون التوسط بينه وبين بيريس. وكان على خط الهاتف في تلك اللحظات، إن لم أكن مخطئا، الأديب عاموس عوز. وبيّن له رابين ما حدث وكيف. وعرضت على رئيس الحكومة بالتفصيل خطة المراسم وتناولت أدق التفاصيل. كان رابين دائما رجل التفاصيل الصغيرة، وكان كذلك الآن أكثر مما كان دائما. وفصلت ثم فصلت وقلت آخر الامر: "لم يخططوا لعشاء رئاسي".
وكنت أعلم أن ليئا رابين تحب هذه العشاءات الرئاسية أكثر من كل شيء. فهي ترى وربما بحق أن العشاء هو أكبر تكريم يمكن أن يمنحه رئيس أميركي لضيفه، وعلمت وتذكرت باعتبارها مضيفة صورة الضيافة الدقيقة. وعلمت أنها اذا عرفت بأمر العشاء المتوقع فانه تنتظرنا مشكلات. وحدّثت رابين عما قلته لاينديك وتوقعت رده.
قال: "حسنا فعلت".
وآنذاك وبوقاحة كبيرة قلت له إنه يحسن في رأيي ألا تعرف زوجته ليئا بامكانية العشاء والغائه لأن ذلك سيكلفنا ثمنا باهظا.
قال: "أترك هذا لي". وشعرت بالراحة.
بعد ذلك الحديث بوقت قصير كان اينديك على خط الهاتف مرة اخرى. "ماذا عن العشاء؟ يجب أن نصدر دعوات فورا. أنتم تهينون رئيس الولايات المتحدة".
نحن؟ نهين الرئيس؟ وكنت على شفا ذعر. لم ينقصنا إلا ذلك وربما لم ينقصني إلا ذلك، أنا على التخصيص. إن الرئيس الذي يعشق رئيس وزراء اسرائيل ودولة اسرائيل أهل لكل شكر وتقدير، ومن أكون أنا لأُفسد العلاقات بسبب قطعة لحم طرية ورقصات؟
ووجد الحل: فقبل يوم وبعد أن عُلم بأمر الرحلة، اقترح عضو الكنيست رافي إدري اثارة اهتمام الحسن، ملك المغرب، بزيارة أولى الى بلده من المراسم مباشرة. والآن بعد أن اتضح أن رابين سيسافر الى واشنطن، وافق رئيس الوزراء على الاقتراح، لكن: " لن يُنفذ هذا الاجراء دون دعوة رسمية من الملك. ويجب أن يفهم ايضا أن الزيارة ستحظى بنشر واسع في العالم ولا سيما العالم العربي".
ورأيت في مخيلتي ذلك المقام وهو الاول في نوعه منذ 1948: طائرة اسرائيلية، مع شعار سلاح الجو الاسرائيلي تهبط في الرباط عاصمة المغرب، وواحدة من أهم العواصم العربية. سيصنع اسحق رابين تاريخا مرة اخرى.
وشعرت مزودا بهذه المعلومة التي كانت سرية حتى الهبوط في المغرب وتخضع لموافقة الملك في آخر لحظة، بحاجة الى أن أهاتف اينديك مرة اخرى وقلت: "سنغادر الولايات المتحدة في المساء". وبقي الآن أن نحصل على شيء صغير واحد فقط وهو موافقة ملك المغرب على اجرائه واجراء بلده التاريخي وليس ذلك أمرا قليل الأهمية.

خطاب رابين
وقد عملنا فيما بقي من ساعات النهار والليل مع مارتن اينديك ومساعده بوب ستلوف في محاولة تناول أدق التفاصيل، والاحتمالات غير المتوقعة، فكنا نسأل ويُجيبان – من ترتيبات الجلسة الى عدد الدعوات الممنوحة لنا.
ماذا نفعل اذا أصر عرفات على أن يحمل مسدسه الخالد معه؟.
"لا يمكن ألبتة، سننزع سلاحه".
وماذا سيكون مع كل ذلك اذا حضر لابسا البزة العسكرية متزينا بالأوسمة؟ "لكنه وعد".
واذا حاول أن يطبع القبلات على الخدين كعادة أبناء شعبه؟ "سنحذره، وندرب الرئيس على أن يمسك بذراع عرفات القريبة بحيث يُمنع من امكانية التقبيل".
من هم المدعوون الى المراسم؟ "كل سفراء الدول العربية ومنها سورية والسعودية".
كان ينبغي بحسب الخطة أن يبقى رابين وعرفات وحدهما مع كلينتون في آخر دقيقة قبل البدء. وماذا سيفعلان آنذاك؟ "سنهتم بأن يقفا حتى آخر ثانية في ركنين مختلفين في الغرفة".
إنه ما قلته: من وراء كل مقام تاريخي تكمن التفصيلات الصغيرة. وحددنا أن نقلع الى واشنطن في المساء كي نهبط في ساعة مبكرة ولنشارك في المراسم وننصرف من هناك سريعا. وفي خضم ذلك الاختلاط كله دعاني رابين الى غرفته وسألني: "ألا يجب عليّ أن أقول شيئا ما في تلعثم في المراسم؟".
"ويلي"، وضربت على جبيني.
وفي الجلبة التي نشأت إثر الحاجة الى الاقلاع خلال يوم الى الولايات المتحدة نسيت ذلك الشيء الذي يجب أن يدخل في كتب التاريخ، أعني الخطبة التي هي أهم جزء في المراسم.
وهاتفت فورا تقريبا صديق رئيس الوزراء، حاييم حيفر، وسألته نصيحته. وكان هو الذي اقترح استعمال فقرات من سِفر "الجامعة"، تناسب المقام الاحتفالي. وقبلت نصيحته الطيبة لضيق الوقت ايضا. وجلست لأكتب الخطبة التي ربما تكون أهم شيء في حياة رابين، وعلمت أن كل شيء متعلق بالترجمة. إن انجليزيتي غير حسنة. وكتبت لأول مرة في حياتي سطرا نُقل فورا ليترجمه مترجم ممتاز من وزارة الخارجية حينما لم نجد عينَه فريدمان.
وعثرنا آخر الامر على عينَه فريدمان التي هي في رأيي وبحسب تجربتي عظيمة في اللغة الانجليزية. فترجماتها شعر وتحليق في عوالم عليا، وكان مما أفرحني أنها دأبت برغم ضيق الوقت في المهمة التاريخية وأرسلت نصا واصلاحات ايضا.
وجاء الى المطار كثيرون منهم كل وزراء الحكومة لوداع رابين وبيريس اللذين أقلعا الى واشنطن. ولاحظت سمدار هيرن في خضم الجلبة. جاءت دون حقيبة وخمّنت أنها افترضت أن الحديث يدور عن رحلة قصيرة ولهذا لم تحزم أمتعتها. وتذكرت كيف حضرت في وضح النهار قبل الظهر الى بيتها على شاطئ البحر في نهاريا مثل صحافي. امتلأ البيت الموصد بالأباجورات بالصمت، ولم تكن سمدار هناك. واتجهت هي التي فقدت زوجها وابنتيها في عملية "ارهابية" وحشية الى رابين وشكرته على دعوته وقالت له بصوت متأثر: "استقر رأيي على عدم الانضمام. إن هذا يفوق قوتي، ولن أثبت أمام ذلك. لكنني في وقت المراسم سأقف أمام قبور زوجي وابنتي وأدعم جهودكم لأجل السلام وأدعمكم". واتجهت الى ركن القاعة التي امتلأت بالضيوف السعداء وانفجرت باكيا.

تغيُّر رابين
سأل كثيرون قبل التوقيع على الاتفاق وبعده ايضا ما الذي حدث بالضبط لرابين ليغير رأيه تماما وليتحول من عدو معلن للفلسطينيين الى الرجل الذي قاد نحو التسليم بهم وبوجودهم. ولا يوجد جواب واحد متفق عليه وواضح عن هذا السؤال المهم، لكنني أريد من أحاديث هنا وهناك وقطع كلام - على مسؤوليتي وحدي – أن أزعم أنه وجدت عدة اسباب أفضت الى التوقيع على الاتفاق.
أ – اعتقد رابين أن شعبا يقف على أطراف أصابعه منذ أكثر من يوبيل سيتعب آخر الامر. وقد رأى هذا التعب بعينيه من نافذة بيته في حرب الخليج في سنة 1991 حينما هرب نصف مليون اسرائيلي – هرب، هي الكلمة الصحيحة – في كل ظهر من منطقة غوش دان خشية سقوط صواريخ من العراق. وأفضى منظر الشوارع المزدحمة الى شعوره بالكآبة وشكه في المنعة القومية.
ب – لا يوجد ويبدو أنه لن يوجد انتصارات مطلقة للجيش الاسرائيلي في الحروب، ومن المؤكد أنه لن يوجد انتصار كذاك الذي أعده وقاده عندما كان رئيس هيئة الاركان للجيش الاسرائيلي في حرب "الايام الستة". وتدل التجربة التاريخية على أنه كان على حق في هذا التقدير.
ج – يجب على دولة اسرائيل أن تطمس وأن تقلل مقادير العداء لها من الدول العربية التي تحاذيها كمصر وسورية ولبنان والاردن والفلسطينيين. فتقليل العداء من دول المواجهة التي تحاذي اسرائيل سيفضي كما أمل الى تقليل عداء دول الخط الثاني مثل ايران. ورأى رابين أهمية جليلة في احراز سلام ثابت وجرب قوته ولم ينجح مع سورية، ونجح مع الاردن، وخلف الصراع مع الفلسطينيين ينزف حتى هذا اليوم. وقدّر رابين (قبل أكثر من عشرين سنة) أنه ستوجد دول كايران وباكستان تنجح في بناء منشآت ذرية، وآنذاك ستقل كثيرا قوة دولة اسرائيل الردعية.
إن هذه الفصول من تلك الايام تعتمد فقط على ذكريات شخصية لا على وثائق وتجميع شهادات. ولهذا يمكن أن يكون وقع هنا أو هناك أخطاء وعدم تدقيق ستُصلح في المستقبل، وينبغي أن آمل واؤمن بذلك.

حرره: 
م . ع