لحظة الحقيقة لبشار الاسد

بقلم: البروفيسور ايال زيسر

تكانت الاشهر الاخيرة رؤوفة ببشار الاسد ونظامه، فقد نجح الجيش السوري في صد ووقف زخم الثوار، ونجح جنوده، بمساعدة مقاتلي حزب الله، في أن يأخذوا لانفسهم المبادرة في ميدان القتال، بل ان يحظوا بسلسلة من الانجازات التكتيكية ذات المعنى الرمزي، في المعركة الدائرة على سورية منذ اكثر من سنتين ونصف السنة.

وكان احد الانجازات احتلال بلدة القصير في محافظة حمص. وكانت أهمية القصير، التي سقطت في ايدي الثوار في صيف 2012 تكمن في كونها مفتاحا للسيطرة على الطريق الذي يربط بين’ ‘الداخل السوري’، محور دمشق ـ حلب، والشاطئ السوري وقاطع العلويين، وكذا في كونها نقطة تسيطر على المسار من لبنان الى حمص وعبرها الى شمال سورية.

عبر هذا المسار كان ينقل الى الثوار السلاح والمساعدات، وكذا المتطوعون الذين تدفقوا اليهم من المناطق السنية في لبنان المجاورة للحدود، وكذا من مدينة طرابلس. في بداية حزيران/يونيو 2013 نجح مقاتلو حزب الله في استعادة السيطرة على البلدة وتسليمها الى النظام السوري.

انجاز آخر للنظام كان نجاحه في اعادة تثبيت سيطرته في مدينة حمص وفي ضواحي دمشق، ناهيك عن أن الثوار لا يزالون يسيطرون على أجزاء واسعة من المناطق الريفية التي تحيط المدينة من الشرق ومن الغرب، بل ويسيطرون على بعض من الاحياء الشرقية من المدينة. اما الثوار من جهتهم فشددوا ضغطهم في حلب، المدينة الثانية من حيث الحجم والاهمية في الدولة، دحروا النظام في شرق المدينة، في منطقة الجزيرة، بل وبادروا الى هجوم في جنوب الشاطئ السوري، قلب النظام السوري، الذي أغلبية سكانه من العلويين. ومع ذلك، فحقيقة هي انه باستثناء مدينة الرقة في الشرق، لم يتمكن الثوار من السيطرة على أي من المدن السورية الكبرى، او على منطقة او محافظة باكملها. كل ما حققوه هو السيطرة في المناطق الريفية لقسم من محافظات الدولة.

بشار الاسد لا يزال بعيدا عن النصر، ولكن الثوار بعيدون عن النصر اكثر، وفي غياب التدخل الخارجي في صالحهم، ومن دون استمرار الدعم المالي والسلاح المتدفق اليهم من الدول الداعمة لهم من خارج سورية، مشكوك أن يتمكنوا من ترجيح الكفة لصالحهم. ولا يزال معسكر الثوار منقسما بشدة ولا ينجح رغم أنه مر أكثر من سنتين ونصف السنة منذ اندلاع الثورة في أن يخرج من داخله قيادة سياسية وعسكرية تقود الثوار الى النصر. وفي الاشهر الاخيرة اندلعت نزاعات بين جماعات الثوار المختلفة، وبالاساس بين الفصائل الاسلامية المتطرفة ومجموعات الثوار الاخرى. واليوم يقتل العديد من الثوار على ايدي رفاقهم في حروب داخلية، وليس بالذات في المعارك مع قوات النظام.

وهكذا مثلا وقع انشقاق بين رجال القاعدة الذين أسسوا في كانون الثاني/يناير 2012 فرع سورية باسم جبهة النصرة، وفي نيسان/ابريل 2013 وقع شرخ بين الجناح السوري وبين الحركة الام في العراق وهذه الاخيرة بدأت تعمل باسم (الدولة الاسلامية للعراق والشام) كحركة منافسة لجبهة النصرة. والى جانب هذين الفصيلين من القاعدة تعمل في الدولة جبهتان اسلاميتان اخريان: الجبهة الاسلامية السورية، المتماثلة مع السعودية ومدعومة منها، وجبهة التحرير الاسلامية السورية، المتماثلة مع الاخوان المسلمين السوريين ومدعومة أغلب الظن من قطر.

ويضاف الى هذه جيش التحرير السوري، الذي لا يزال يشكل المنظمة العليا لمئات المجموعات العاملة داخل الدولة على اساس مستقل ومحلي، في ظل التعاون الهزيل بينها، ولا سيما لغرض صد هجمات النظام عن المناطق التي تحت سيطرتها. والى هذه العقدة ينبغي أن يضاف الخلاف الذي نشب بين السكان الاكراد في شمال سورية وشرقها، الممزقين هم ايضا بين احزاب ومعسكرات متخاصمة، وبين السكان العرب الذين يميلون في معظمهم الى جانب الثوار.

في هذه المناطق تدور رحى معارك لا تتوقف بين مقاتلين أكراد ومجموعات من الثوار، في الغالب للسيطرة على مخزونات المؤن وعلى حقول النفط في هذه المناطق.

على خلفية هذا الواقع يطرح بالطبع السؤال، أي حاجة وجدها بشار الاسد لاستخدام السلاح الكيميائي ضد معارضيه في منطقة الغوطة الشرقية، التي تقع في المجال الريفي شرق دمشق. الجواب على ذلك هو أنه منذ نحو نصف سنة وربما أكثر يستخدم النظام السوري المرة تلو الاخرى السلاح الكيميائي استخداما موضعيا محدودا، الى جانب استخدام المدفعية، الصواريخ، والقصف من الجو كي يحظى بمعارك حسم، في الغالب محلية وموضعية، ومع ذلك ذات اهمية في مناطق مختلفة من الدولة. هكذا في خان العسل التي تشرف على المداخل الشمالية من حلب وتسمح للثوار بتزويد قواتهم المقاتلة في المدينة بالمؤن. وهكذا ايضا هذه المرة، في منطقة الغوطة الشرقية، التي تشكل نقطة عبور تسمح للثوار بالوصول الى مواقعهم داخل دمشق وتهديد المطار الدولي الواقع على مقربة من المكان.

يبدو أنه رغم أن بشار يفهم الخطر الذي في الرد الدولي الحازم على استخدام السلاح الكيميائي، يجد صعوبة في أن يفهم الحساسية الخاصة في المجتمع الغربي لاستخدام مثل هذا السلاح، الذي يعود مصدره الى التاريخ الاوروبي. ويمكن الافتراض بانه بالنسبة له لا يوجد فرق حقيقي بين قصف مكثف من الجو، قصف مدفعية مركز، او اطلاق صواريخ ارض ارض فتاكة، وبين استخدام مركز وموضعي لسلاح كيميائي. ومع أن الرئيس اوباما حذر قبل نحو سنة من أن استخدام السلاح الكيميائي من قبل بشار الاسد سيشكل اجتيازا لخط احمر، ولكنه عمليا امتنع حتى الان عن اي رد فعل على مثل هذا الاستخدام. وهكذا فقد أشار الى النظام السوري بان بوسعه أن يواصل هجماته على أعدائه. وهذه هي إذن خلفية الحدث في الواحد والعشرين من آب/اغسطس 2013. فرغم أن الصورة لا تزال جزئية، من المعقول جدا أن يكون الاسد المغرور، او اي من ضباطه، بناء على إذن مبدئي منحه اياه الرئيس، شعر بانه حر في أن يرفع المستوى وأن يستخدم كمية أكبر من المعتاد من السلاح الكيميائي. كما يمكن أيضا أن يكون هذا خطأ او خلل عملياتي أو صدفة وجد فيها عدد كبير من السكان المدنيين في منطقة الهجوم الكيميائي، الامر الذي أحدث اصابة شديدة بالمواطنين، بمن فيهم الكثير من الاطفال.

الحرب في سورية هي جملة من المعارك الموضعية والتكتيكية التي تجري في كل أرجاء الدولة بين مجموعات صغيرة، مئات او الاف قليلة، من الثوار، وبين قوات من الجيش السوري التي تقاتل ضدهم. لا يدور الحديث إذن عن حرب تحسم في معركة واحدة، بل عن حرب استنزاف ستحسم في النقاط التي يراكمها الطرفان معركة تلو معركة، وجولة إثر جولة. ورغم ذلك فلا يمكن الا يأخذ المرء الانطباع بانه يحتمل الا يكون عن وعي وعن قصد، بل نتيجة لوحشية الحرب، تتحول المعركة التي يديرها الجيش السوري ضد اعدائه الى حرب إبادة هدفها إبادة أو طرد الثوار والسكان الداعمين لهم. واذا لم يكن هكذا، فمن الصعب أن نشرح الاستخدام المكثف للسلاح الفتاك ضد مناطق مدنية تدعم الثوار او توجد تحت سيطرتهم.

بين أربعة وستة ملايين سوري أصبحوا لاجئين، بعضهم خارج بلادهم. ويدور الحديث عن نحو 20 حتى 30 في المئة من عموم السكان، معظمهم من أوساط السُنة من مناطق المحيط المؤيدين للثوار. وبشار كفيل بالتالي بان يفوز في المعركة على سورية بطريق ابادة الثوار ومؤيديهم. غير أنه في الطريق الى النصر، علق في الصدام مع الولايات المتحدة بقيادة اوباما، المصممة، كما يبدو على ضربه. الولايات المتحدة لا تريد التدخل المباشر في ما يجري في سورية، وبالتأكيد لا تريد ان تجد نفسها غارقة في مستنقع يشبه المستنقع العراقي أو الافغاني، اللذين نجت منهما بصعوبة، بثمن اقتصادي هائل وبالعديد من الخسائر. وعليه، فقد وقفت المؤسسة الامنية في واشنطن في الاشهر الاخيرة على ساقيها كي تمنع تدخلا كهذا، لان كل عمل موضعي من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة الى حرب شاملة في نهايتها ستجد قوات امريكية نفسها تعمل على اراضي سورية. واضافة الى ذلك، ففي البنتاغون يوضحون بان الثوار السوريين هم جملة من العصابات غير القادرة حقا على الحلول محل الاسد. وبالتالي، فان اسقاط النظام السوري سيخلق فوضى واضطرابا يسمح بسيطرة مجموعات مؤيدة للقاعدة على المناطق السورية، وفي نهاية اليوم ستجتذب الولايات المتحدة الى تدخل أليم وباهظ في هذه الدولة ايضا.

ولكن تحت ضغط النخبة الاعلامية والثقافية وربما ايضا السياسية التي تحيطه، وجد اوباما نفسه يضطر الى العمل. ومعضلته الاساسية هي كيف يقوم بعمل موضعي وبالحد الادنى، يترك انطباعا لدى الرأي العام في العالم، ولكن لا يورط الولايات المتحدة في حرب غير معنية بها على الاطلاق. الحل الذي يلوح في الافق هو ضربة موضعية وأليمة ضد اهداف عسكرية مختارة في سورية.

من الصعب أن نعرف ماذا سيفعل بشار في مثل هذه الحالة. في حالات مشابهة في الماضي امتنع عن أي رد فعل. وهكذا، فعندما دمرت اسرائيل في ايلول/سبتمبر 2007 المفاعل الذري الذي سعى الى انشائه، وكذا ايضا بعد أن هاجمت، حسب منشورات أجنبية، اهدافا عسكرية في عمق الاراضي السورية في يناير، وفي ايار/مايو وفي تموز/يوليو 2013. يخوض بشار حربا للحياة أو الموت ضد الثوار على نظامه. وهو يؤمن بان له فرصة طيبة في أن يفوز بالنصر في هذه الحرب، وان كان انتصاره الان ليس في متناول اليد. في مثل هذا الوضع، فان التورط في مواجهة مع الولايات المتحدة، او مع اسرائيل، مثلها كمثل الانتحار. وبالتالي تفترض اوساط اسرائيل والعالم بان الاسد سيسعى الى احتواء الحدث، الانتقال الى جدول الاعمال والتركيز على الامر الاساس الصراع ضد الثوار. وبالاجمال، فان عدد الجنود السوريين الذين يقتلون كل يوم في المعارك في الدولة، والضرر الذي يلحق بالبنى التحتية فيها اكبر بكثير من الضرر الذي قد يلحقه هجوم امريكي محدود.

يجدر بنا أن نتذكر بان روسيا، ايران وحزب الله مستعدون لمساعدة بشار في حربه على البقاء. فالمساعدة المالية والسلاح الذي تقدمه روسيا، وكذا الاسناد الدبلوماسي الذي توفره هي والصين له، مفتاح مهم في بقائه حتى اليوم. وألقت ايران بحزب الله الى المعركة داخل سورية، ولكن من الصعب الافتراض بان كل هؤلاء اللاعبين سيكونون مستعدين للتورط من أجل بشار في مواجهة مع الولايات المتحدة، وفي حالة حزب الله في مواجهة مع اسرائيل.

المشكلة هي أن عملية موضعية بالنسبة لقوة عظمى كبرى كالولايات المتحدة قد تتبين كضربة تخل بالميزان الحساس بين النظام والثوار وتهدد حكم بشار. فتصفية ‘موضعية’ لسلاح جوي، اصابة ‘موضعية’ لمراكز القيادة والتحكم لجيشه، وفوق كل ذلك رسالة معنوية لدعم الثوار، من شأنها أن تتبين كضربة واحدة اكثر مما ينبغي، ضربة كفيلة بان تحدث هزة أرضية. هزة تشبه ما حصل في دمشق في 18 يوليو 2012، في اعقاب تصفية القيادة الامنية السورية. لقد تمكن النظام في حينه من اجتياز الصدمة، ولكن الاصداء الفرعية لها أدت الى سيطرة الثوار على أجزاء واسعة من حلب ومن دمشق.

ماذا يفعل زعيم ظهره الى الحائط؟ صدام حسين اختار مثلا الهرب من قصره ومحاولة انقاذ حياته. السؤال هو أيضا ماذا يفعل جنود وضباط مثل هذا الزعيم؟ هل يواصلون اطاعة الاوامر أو التعليمات التي تلقوها في الماضي أم سيحاولون هم ايضا النجاة بحياتهم؟ وفضلا عن ذلك، فان القدرات السورية اليوم محدودة وضيقة اكثر بكثير مما في الماضي، حيث أن قسما مهما من ترسانة الصواريخ السورية اطلقت على اي حال ضد الثوار في السنوات الاخيرة. وقدرات المناورة لدى الجيش محدودة في ضوء الحرب الجارية في كل أرجاء سورية. مهما يكن من أمر، فان الكرة لا توجد اليوم في دمشق بل في واشنطن، ومستقبل الشرق الاوسط وكذا مستقبل المعركة في سورية، سيقررها باراك اوباما وليس بشار الاسد.

حرره: 
م . ع