حنة أرندت في نقد أصول الدولة التسلطية الشمولية

haitham-300x284

أوضح بروفيسور ميثم الجنابي أن حنة أرندت، تناولت ظاهرة الدولة الشمولية بصورة محترفة وموسعة منذ وقت مبكر، أو بصورة أدق بعد بروز أغلب معالمها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية والفاشية. ففي كتابها (أسس التوتاليتارية) الصادر عام 1951 يمكننا رؤية ملامح النازية الألمانية بوصفها النموذج "الأرقى للدولة" الشمولية. وكتابها لا يتسم بمنهجية عميقة ومتجانسة، لكنه يحتوي على تصوير دقيق وموسع لمظاهر الشمولية الألمانية وتقديمها على أنها نموذج شامل.

ولا يخلو هذا التحليل والنقد من ردود الفعل النفسية والأخلاقية على ما في النازية من إفراط في إرساء أسس المنظومة التي "تفقد الإنسان إنسانيته" وتجعله عنصرا فعالا في "جمهور" أو "رعاع" مبتهج ومتحمس فيما تقوم به الدولة من جرائم تجاهه وتجاه المجتمع.

وأضاف الجنابي في حوار مع (مشروع اضاءات في كتاب): خصوصية الدولة الشمولية (الكليانية) تقوم في سيادة نوع خاص من الايديولوجية المتجوهرة في الوقت نفسه في صلب بنية الدولة وأجهزتها. إضافة إلى قابليتها واستعدادها وقدرتها على قبول كل الوسائل والأساليب من أجل تثبيت وتوسيع نظام الواحدية الصارم على جميع المستويات وفي جميع الميادين.* كما تقول الفيلسوفة حنة أرندت: نشأت (الشمولية) او الكليانية في تاريخ أوروبا كفلسفة بنائية، إذ تكونت من مصادر متعددة فكرية وسياسية واجتماعية وتداخلت عناصر متناثرة غير متسقة لتأخذ شكلها النهائي. ما هي أصول الفلسفة الكليانية؟

– من الصعب الحديث عن "أصول فلسفية" مستقلة للكليانية. بمعنى أنه من الصعب الحديث عن "فلسفة كليانية" مستقلة قائمة بذاتها. بما في ذلك عن تلك الفلسفات التي اقترنت بها النظم السياسية الشمولية كالشيوعية (الماركسية واللينينية والستالينية وغيرها) والفاشية والاشتراكية القومية (النازية). فالشمولية ايديولوجية وحالة ومنظومة فريدة وحديثة لحد ما من التحكم بالدولة والفرد والمجتمع والروح والجسد.

إذن الدولة الشمولية تضخم رؤيتها لنفسها وغاياتها. ومن هنا أيضا حبها للضخامة والتضخيم في كل شيء. بحيث يمكن رؤيته في تسييرها للمظاهرات المنظمة الكبرى واستنفاد طاقة الضمير والوقت على أمور تافهة، وحب البنايات الضخمة والمشاريع "الكبرى" والتماثيل واللوحات والجداريات الضخمة. ولم يكن ذلك معزولا عن هشاشتها الداخلية وضعفها الذاتي، الذي يمكن العثور عليه في التهامها الفج لقشور القيم والشعارات الرنانة. كما نراه بجلاء على نماذج الستالينية والموسولينية والهتلرية. فهي جميعها تفتقد إلى إدراك ومعرفة التراث الفلسفي. (الكليانية) هي منظومة التوليف الخربة للعناصر المتناثرة في المنظومات الايديولوجية من قيم نفسية وأوهام سياسية وخيال شعبي محكوم بأزمات للقادة والجماهير في مراحل الانعطاف العاصفة للدولة والأمة والثقافة بوصفهما وجهين للأزمة البنيوية الشاملة للدولة والأمة والثقافة من جهة، وللصدفة القاتلة للعقل والضمير التاريخي السليم من جهة أخرى. وليس مصادفة أن تلتقي في خصائص تفكيرها الأسطوري، وغاياتها الكونية الكبرى، وأساليبها العملية رغم تباين شعاراتها الايديولوجية (القومية والأممية وغيرها). ومن هنا أيضا إمكانية توظيف بعض الأفكار الفلسفية لهيغل ونيتشه في الكليانية الألمانية الهتلرية، وكذلك الانتقاء المتحزب للتراث الفلسفي والتاريخ العالمي ككل في الكليانية السوفييتية. طبعا أن ذلك لا يعني تطابقهما بهذا الصدد، إذ تبقى الخلافات بينهما كبيرة أيضا.

* طرحت الفيلسوفه حنة ارندت في كتابها (أسس التوتاليتارية) أن النازية والفاشية والستالينية تمثل الشكل الذي ولد من انهيار البنية السياسية والاجتماعية التقليدية بعد الحرب العالمية الأولى. ما هذا الشكل الجديد للهيمنة داخل المجال الأوروبي المتمثل بالظاهرة الكليانية ؟

– من الأدق ترجمت كتابها بعبارة (أصول) أو (منشأ) أو (مصادر) التوتاليتارية، الصادر عام 1951. في البداية أود القول، بان كتاب حنة ارندت من بين الكتب القيمة بهذا الصدد. وتكمن قيمته الأساسية في تتبع وتحليل مختلف مظاهر التوتاليتارية وأساليبها في تنظيم القمع و"نزع إنسانية الإنسان". بمعنى انه يتسم بصفة التقرير والإشارة والتصوير، إضافة إلى امتلائه بالتلوين البلاغي، الذي لا يخلو من تأثير أصول المؤلفة والتجربة المريرة التي تعرض لها يهود ألمانيا آنذاك. ما طبع الكتاب في كثير من جوانبه بنزعة نقدية وجدانية عارمة للتوتاليتارية وتعرية أساليبها الهمجية في سحق الشخصية الإنسانية. وما عدا ذلك، فإن مستوى التأسيس النظري الفلسفي فيه يبقى ضعيفا. وقد تكون فكرة أن التوتاليتارية الشيوعية الستالينية والنازية والفاشية هي نتاج لانهيار البنية السياسية التقليدية بعد الحرب العالمية الأولى أحد نماذجها. فمما لا شك فيه، أن التطور الرأسمالي كان يجري في جميع البلدان ضمن مسار كسر وتحطيم وتدمير وتذليل البنية التقليدية. لكنه لا يحتوي بحد ذاته على إمكانية الصعود التوتاليتاري. على العكس! ان الصعود التوتاليتاري هو نكوص إلى تقليدية "متسامية"، أي محكومة بطوباوية الايديولوجية العملية (السياسية) وفي هذا يكمن تناقض النزعة التوتاليتارية. بمعنى، أنها تنتقد الواقع من أجل الاستيلاء على الماضي والحاضر والمستقبل، أي مصادرة الواقع والآفاق. فالتوتاليتارية "فكرة مستقبلية". من هنا احتقارها للماضي. إنها لا تحتوي على أي نقد تاريخي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ما يجعل من الماضي والحاضر والمستقبل زمنا لا قيمة له مقارنة بما في نياتها وإرادتها وغايتها! فالشيوعية والنازية والفاشية، أي القوى المتربية بتقاليد الايديولوجيات الكونية الكبرى وبدائلها الشمولية هي قوى راديكالية. وفي هذا يكمن سرّ عنفوانها زمن الأزمات و"مراحل الانتقال" العاصفة. لكنها خلافا للقوى الأخرى الفاعلة زمن انكسار القيم والمفاهيم والمؤسسات عادة ما يرتبط نقدها للواقع بمحاولة تجاوزه إلى "الأفضل" و"الأسمى". لكنه تجاوز يعادل في حقيقته الرجوع إلى نفسية وذهنية القطيع البدائي. وفي هذا يكمن سرّ وطبيعة "الشكل الجديد للهيمنة"، باختصار ليست هذه الأشكال الجديدة للسيطرة والاستحكام والهيمنة سوى مظاهر متنوعة لفعل الآلة التكنوقراطية الشكلانية الصارمة في "توحيد" الطبيعة وما وراء الطبيعة في بنية أو تشكيلة تتناسب مع الغاية الكبرى للايديولوجية وشعاراتها المعلنة: اجتماعية طبقية أو قومية عرقية.

ذلك يعني أن صعود هذه الأنماط التوتاليتارية ونماذجها في "الهيمنة" داخل "المجال الأوربي "يعكس أولا وقبل كل شيء، كما هو الحال بالنسبة لكل التوتاليتاريات الأخرى، خصوصية الأزمة البنيوية الشاملة والحادة في مراحل الانعطاف الحاسمة وكيفية تنظيم الردود عليها في منظومات نظرية (ايديولوجية) وعملية (سياسية) تستقطب وتستنسخ بصورة مشوهة خليط القيم النفسية والأوهام السياسية والخيال الشعبي بحيث يجعل منهما كتلة لا عقلانية ترفع هيجانها إلى مصاف "القدر المحتوم". وليس مصادفة أن يكون صعود التوتاليتارية واستحكام سيطرتها في ثالوث القوة "الروحية" الكبرى لأوربا (روسيا وألمانيا وايطاليا). فقد كانت روسيا عند بداية القرن العشرين تحتوي على قدر هائل من الصعود "العالمي"، وإنتاج روحي فكري ثقافي علمي غزير وضعها في أولية "الطليعة الأدبية" العالمية، بينما كانت ألمانيا مصدر الإشعاع الفلسفي العالمي ومنظومات "المطلق" العقلي والروحي والأخلاقي، أما ايطاليا فهي أس "الأنا الأوربية" المادية والروحية، بمعنى جمعها بين تقاليد روما السياسية الحقوقية ومرحلة النهضة التي أسست لبنية الوحدة الثقافية الأوربية ومن ثم "مركزيتها الكونية". إننا نلاحظ ظهور التوتاليتارية في "أقوى" البلدان وأضعفها، أي أقواها من حيث الاحتمال والإمكانية، وأضعفها من حيث الفعل والواقع.

* دعنا نتساءل عن ماهية التعريف العلمي للدولة الكليانية، الأصول السياسية للمنظومة السلطوية وفق أطروحات الفيلسوفة حنة أرندت؟

– تفترض الإجابة على هذا السؤال الانطلاق من تحديد ماهية الكليانية وخصائصها وسماتها وتفحص مقدماتها وأصولها لكي يكون بإمكاننا رؤية الحصيلة النظرية بهذا الصدد. فمن حيث المصطلح ليست (الشمولية) سوى الصيغة المعربة للكلمة اللاتينية totalitas، أي الكلّ أو الامتلاء. أول من استعمله في ميدان العلاقات السياسية موسوليني. فقد استعمل هذا المصطلح الذي بلوره المفكر السياسي الايطالي جوفاني جينتيلي، الذي انطلق من الفكرة القائلة، بأنه لا حدود ولا أماكن لا يحق للدولة التدخل فيها. وأن الدولة الكليانية هي تجسيد للروح الأخلاقي للشعب، مع ما يلازم ذلك ويفترض بدوره ذوبان الفرد في البنية العامة للدولة وحركاتها السياسية.

وقد يكون التيار الروسي النقدي في موقفه من الكليانية الأكثر قربا من فكرة التحليل المنهجي السياسي والثقافي لتلك الظاهرة بوصفها ظاهرة ثقافية – سياسية، كما نلمحها في مواقف وآراء كل من بيردياييف، وبولغاكوف، ونوفوغورودسيف، وستروفه، وفيودوروف، وفرانك وغيرهم. إذ أجمعوا بصورة عامة على ربط ظهور التوتاليتارية بطبيعة الأزمة العامة للحضارة الأوروبية الغربية وكيفية انكسارها في الواقع الروسي. إذ وجدوا في الماركسية تعبيرا عن هذه الأزمة وتمثلا لها. كما أن روسيا أصبحت حقلا تجريبيا لهذه الأزمة المزدوجة (الأوربية الغربية والروسية في ميدان الثقافة والسياسة). إذ جرى تجريب فلسفة الأزمة (الماركسية) في واقع روسيا المتأزمة، عبر النظر إليها على أنها "الحلقة الأضعف" في سلسلة الأزمات الأوروبية بداية القرن العشرين. فقد أدت الأزمة الاجتماعية الثقافية الروسية إلى انتصار الدكتاتورية البلشفية المتلبسة بهيئة دكتاتورية بروليتارية. فهي الفكرة التي قال بها بيردياييف ثم أيّدها في وقت لاحق كل من فيودوروف وستروفه. إذ أكد فيودوروف على أن طبيعة هذه الأزمة في ظروف روسيا هي نتاج لديناميكية الغربنة الأوروبية وانحلال العلاقات التقليدية مع ما ترتب عليه من تشّوه في الوعي الاجتماعي وتشّوش في الرؤية السياسية والاجتماعية والثقافية.

أما حنة أرندت، فإنها تناولت الظاهرة الكليانية بصورة محترفة وموسعة منذ وقت مبكر، أو بصورة أدق بعد بروز أغلب معالمها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية والفاشية. ففي كتابها (أصول التوتاليتارية) الصادر عام 1951 يمكننا رؤية ملامح النازية الألمانية بوصفها النموذج "الأرقى" للتوتاليتارية. وكتابها كما أشرت لا يتسم بمنهجية عميقة ومتجانسة، لكنه يحتوي على تصوير دقيق وموسع لمظاهر التوتاليتارية الألمانية وتقديمها على أنها نموذج شامل. ولا يخلو هذا التحليل والنقد من ردود الفعل النفسية والأخلاقية على ما في النازية من إفراط في إرساء أسس المنظومة التي "تفقد الإنسان إنسانيته" وتجعله عنصرا فعالا في "جمهور" أو "رعاع" مبتهج ومتحمس فيما تقوم به الدولة من جرائم تجاهه وتجاه الجميع. من هنا فكرتها عما تدعوه بالطابع المجرم للنظام الكلياني وقدرته في الوقت نفسه على حصول تأييد الجماهير. لكن الدراسات والأبحاث تجمع في ما يتعلق بتحديد سمات التوتاليتارية باعتبارها ظاهرة مميزة للقرن العشرين. وفيما لو أجملنا نتائج مختلف الدراسات والأبحاث المحترفة بهذا الصدد، فمن الممكن إجمالها بست سمات كبرى وهي:

1.نظام وسيادة الحزب السياسي الواحد.

2.النظام الدكتاتوري.

3.التحكم العام والصارم للدولة في كل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية والروحية.

4.استعمال العنف المنظم والشامل (العنف الجماعي والسياسي).

5.والأيديولوجية الواحدة الشاملة (الحكومية) المتحكمة في كل شيء.

6.وأخيرا الزعامة المطلقة المعصومة للقائد الفرد الفذ.

إننا نستطيع الحديث عن "كليانية أوروبية" غير أن لكلّ منها خصوصيتها القومية والايديولوجية والاجتماعية، التي تجعلها أحيانا مختلفة ومتعارضة بل ومتضادة. لكن ذلك لا يتعارض مع التقائها الجوهري.

* تبين الفيلسوفه حنة أرندت ان الدولة الكليانية ظاهرة من ظواهر القرن العشرين. وتمثل الطور المكتمل للدولة البيروقراطية الحديثة، التي استطاعت اختراق المجتمع واحتكار السلطة. ما هي الأزمات التاريخية التي تعرضت لها هذه المجتمعات الأوروبية وأدت إلى ظهور هذا الشكل من الدولة الشمولية (الكليانية)؟

– إن الدولة الكليانية هي إحدى الثمار المرّة للقرن العشرين. ومرارتها تكمن في عدم قدرتها على تذوق الحياة بمعايير الحياة نفسها. وذلك لأن معيارها الوحيد هو القيم الايديولوجية. بمعنى أنها محكومة في أذواقها بالأهواء الخاصة. وإذا كانت الأهواء هي النتيجة العرضية الملازمة لتطور الأمم والثقافات الكبرى، فإن سيادتها في القرن العشرين جعل من الممكن انتقال الهامشية والراديكالية من الأطراف إلى المركز، ومن ثم جعل الزمن حاكما على التاريخ. بمعنى انقلاب القيم والمفاهيم والمبادئ. وضمن هذا السياق تكلمت عن "مرارة" الكليانية. أما في الواقع، فإن الكليانية ليست خطأ في الذوق فحسب، بل وخطيئة تاريخية كبرى. لكنها شأن كل "خطيئة تاريخية كبرى" هي نتاج "خطأ كبير" في المسار التاريخي للأمم والدول والثقافة، أي خطأ الخروج على "منطق" التاريخ.

أما ارتباطها بالقرن العشرين، فبسبب كونه القرن الذي جعل من فكرة "الحتمية" فلسفة سياسية تاريخية. وإذا كان ارتباطها الظاهري بالشيوعية الماركسية، فإن جذورها النفسية والايديولوجية تكمن في فكرة الحتمية القائمة في السيطرة "الفرحة" للمركزية الأوروبية وقيمها وسهولة انتشارها وهيمنتها العالمية. لقد أنتج ذلك بوعي ودون وعي سهولة "البدائل الكبرى". لقد أصبح من السهل لكل برنامج ورؤية أوروبية ادعاء العالمية. وهي نفسية وذهنية كانت أوروبا ميدانها الأول. من هنا كانت الفكرة الكليانية الوجه الآخر والمقلوب للنزوع الكوني الأوربي.

* تقول حنة ارندت: النظام الكلياني ليس أحادي البنية قط، بل هو نظام قائم عن سابق وعي وتصميم على وظائف تتقاطع أو تتوازى وتتضاعف. وأن بقاء هذه البنية محكوم بأذرعه الرئيسية وهي الجهاز البوليسي وليس الحزب أو الايديولوجية. إذ تتحول هذه الأجهزة البوليسية المتعددة إلى جهاز عصبي يربط جميع مؤسسات السلطة وتنظيماتها (التشريعية والتنفيذية والقضائية). إذن ما هي وظيفة الايديولوجية الخاصة في هذا الفضاء التوتاليتاري؟ ألم تكن الايديولوجية تمثل المادة الاسمنتية التي تضبط حركة الأفراد والجماعات؟

– ليس هناك من تناقض بين أحادية البنية السياسية للنظام التوتاليتاري وتعدد الوظائف وتقاطعها. إن النظام التوتاليتاري متناقض بحد ذاته ومن حيث إمكانياته الداخلية. ولعل أحد أهم تناقضاته بهذا الصدد تقوم في قدرته على استعمال كل الوسائل والأدوات والقيم والمفاهيم والمبادئ من أجل صنع واحدي. أما النتيجة فهي تهشيم وتدمير فكرة الواحد. وذلك لأن مضمون الواحدية الكليانية محكوم بشعارات ايديولوجية "متسامية" لكنها بدائية في نفعيتها المباشرة وغير المباشرة. بعبارة أخرى، إن النظام الكلياني أحادي البنية وليس كما تقول ارندت. انه محكوم بفكرة الواحد والوحدانية والواحدية في كل شيء، لكنها واحدية ايديولوجية وليست ثقافية. من هنا عدم تعارضها مع تنوع الوسائل والوظائف، وذلك لأن مهمتها تقوم في "تنسيق هذه الوحدة" وتوسيع مداها وعمقها بحيث تشمل كل شيء وميدان، بما في ذلك عقل الإنسان وروحه، أي ليس عالمه الخارجي بل والباطني أيضا. الأمر الذي يجعل من الممكن تطابق وتمازج وتناسق الحزب والجهاز البوليسي، وشعار الطبقة وإلغاؤها، والأممية والعرقية، والإنسانية والهمجية.

ومن الممكن الإقرار الجزئي بعبارة أن "الجهاز البوليسي هو الجهاز العصبي الذي يربط ويفصل السلطات" (التشريعية والتنفيذية والقضائية). رغم عدم دقتها العلمية والفعلية. والسبب يقوم في أن الكليانية لا تعترف بفكرة ومبدأ وفلسفة فصل السلطات. فالكليانية واحدية المبدأ والغاية. الأمر الذي حدد ويحدد فيها وحدة الشرعية المقدسة للعقيدة والحزب، ومن ثم "حكمة" القائد "المعصوم" وقدرته على جمع السلطات كلها في يد قوية واحدة. وليس مصادفة أن تنتشر كلمة "القبضة الضاربة" و"الأيادي القوية" وصورها المتنوعة في الرسم والنحت والرمز في ظل التوتاليتاري.

* تتميز التجارب الفاشية والنازية والسوفييتية (الشيوعية) كلها بنزعة (الاشتراكية الوطنية). ما هو سرّ العلاقة بين النسق الكلياني والنزعة الاشتراكية الوطنية؟ ورأسمالية الدولة؟

– من الأدق القول، بأن التجارب السوفييتية والفاشية والنازية تشترك بنزوعها الاشتراكي. بمعنى أنها جميعا تنحدر من أصل واحد ألا وهو تزاوج الفكرة الاشتراكية الأوروبية والحركة العمالية. أما "الاشتراكية الوطنية" أو القومية، فإنها اسم للحركة النازية (الألمانية) ومرتبط بها من حيث الأصل والشهرة. أما الفاشية فاسم مرتبط بالحركة الاشتراكية العمالية الإيطالية التي قادها موسوليني. والشيء نفسه يمكن قوله عن السوفييتية، باعتباره الاسم الذي جسّد النزوع العمالي للاشتراكية الديمقراطية الروسية (البلاشفة، أو الماركسية اللينينية) عندما جرى ابتداع فكرة المجالس الشعبية العمالية (السوفيتية).

* الدولة الشمولية (الكليانية) تقوم على تفكيك بنية المجتمع عبر إعادته إلى مكوناته التقليدية (العرقية والدينية والطائفية) مع تفكيك يعزلها بعضها عن بعض. كما تستخدم في سلوكها أيضا قاعدة "فرّق تسد" في جميع ميادين الحياة. كيف تستطيع هذه الدولة الشمولية (الكليانية) تشكيل هذه الهوية الغامضة للجماعات المكونة للأمة وتختزل المجتمع في الوقت نفسه إلى هذا الرهط البدائي؟

– تستند الفكرة الشمولية (الكليانية) إلى ايديولوجية الوحدة الواحدية، أي تلك التي لا تقرّ بالانفتاح والتعدد والاحتمال. من هنا سيادة وهيمنة اليقين والمقدس وما شابه ذلك من مفاهيم وقيم ايديولوجية بحتة. بمعنى أن همومها الظاهرية والباطنية محددة من ألفها إلى يائها بنفسية القطيع. فالواحدية الكليانية هي واحدية القطيع، أو الكلّ المبعثر! وفي هذا يكمن تناقضها الذاتي.

* تقوم الدولة الشمولية (الكليانية) على أركان ثلاثة وهي: الأيديولوجية، والعنف، والإعلام. وعادة ما تتصف الايديولوجية بالتطرف والعصمة واحتكار الحقيقة والانغلاق على النفس وتحويل الجماهير إلى قطيع. فما هي الأطر المعرفية للأيديولوجية الكليانية؟

– فيما لو طرحت جانبا تدقيق الفكرة القائلة، بأن الأيديولوجية والإعلام والعنف هي الأركان الثلاثة للدولة الكليانية ، كما هو شائع في الكتب والدراسات والأبحاث المتعلقة بهذا الصدد، فإن الشيء الأهم فيها يعود للايديولوجية. فوسائل الإعلام ليست أقل أهمية في أكثر الأنظمة ديمقراطية وشرعية، كما أن الدولة التي تمارس العنف، بما في ذلك أشد أنواعه وأشكاله قسوة، ليست كليانية بالضرورة. والشيء نفسه ينطبق على الدولة التي تستعين برؤية ايديولوجية قوية ومنظمة وواسعة الانتشار دون أن يلازم ذلك سيادة العنف والنظام الكلياني.

إن خصوصية الدولة الشمولية تقوم في سيادة نوع خاص من الأيديولوجية المتجوهرة في الوقت نفسه في صلب بنية الدولة وأجهزتها. إضافة إلى قابليتها واستعدادها وقدرتها على قبول كل الوسائل والأساليب من أجل تثبيت وتوسيع نظام الواحدية الصارم على جميع المستويات وفي جميع الميادين.