استقرار الضفة موضع تساؤل

بقلم: عاموس هارئيل
في الثانية بعد ظهر أمس، وقتما كانوا يدفنون الأسير الأمني ميسرة أبو حمدية الذي توفي هذا الأسبوع جراء السرطان في السجن الإسرائيلي، أجرى الجيش مراسم تبديل القادة في فرقة يهودا والسامرة في موقع النبي صمويل شمالي القدس. في الظروف الراهنة، تعتبر قيادة القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية إحدى المهمات الحساسة في الجيش، ولكنها كانت كذلك أيضا في الماضي. كثيرون في القيادة الأمنية حاليا - وبينهم وزير الدفاع، رئيس الأركان ونائبه وثلاثة من أعضاء هيئة الأركان - خدموا سابقا كقادة للضفة.
وللقائد الجديد للضفة، العميد تامير يدعي، خبرة عملياتية ضئيلة نسبيا في القاطع الذي تولى أمس قيادته. فقد قضى معظم خدمته على جانبي الحدود اللبنانية، بينها قيادته للواء جولاني في حرب لبنان الثانية، حيث خدم أيضا الضابط الذي حل مكانه أمس، العميد حاجاي مردخاي، كقائد للواء المظليين. ومردخاي ينهي خدمته بشعور أنه نجح في تسليم العصى في وضع معقول نسبيا: في ولايته لم تنشب انتفاضة جديدة في المناطق.
والإنجاز الجوهري الذي حققه الجيش والشاباك لحكومات إسرائيل المتعاقبة ـ قمع هجمات الإرهاب في الانتفاضة الثانية حوالي 2005 - لم يتبدد. منذ العام 2007 وحتى الآن يسود واقع أمني وسياسي مريح جدا من ناحية إسرائيل: توقفت العمليات الانتحارية، تقلص العنف في الضفة الغربية ذاتها وأجهزة الأمن التابعة لسلطة عباس - فياض في رام الله تقيم تنسيقا أمنيا وثيقا مع نظيرتها الإسرائيلية.
ولكن كلما مر الوقت، يصعب تجاهل الإشارات الميدانية التي تشهد على أن الواقع قد يتغير وأن منظومات الأمن الإسرائيلية وتلك التابعة للسلطة الفلسطينية سيتعذر عليها المحافظة على مستوى التنسيق العالي على مر الزمان. وهناك منذ تشرين الثاني الفائت تظاهرات أكثر في الضفة، وحوادث رشق حجارة وزجاجات حارقة على وسائط النقل الإسرائيلية، كما أن أعدادا أكبر من المدنيين الإسرائيليين أصيبوا بجروح، وكذلك حوادث أكثر تندرج في خانة الإرهاب الشعبي وفق تصنيف جهاز الشاباك (أي عمليات بمبادرات فردية، وليست تنظيمية، في الغالب لا تترافق مع استخدام أسلحة نارية) والأهم من كل ذلك هو سقوط المزيد من الفلسطينيين غير المسلحين قتلى. ومنذ مطلع العام تم إحصاء ثمانية: أربعة في شهر كانون الثاني، واحد في شهر شباط، واحد في آذار وشابان قتلا أمس الأول (يوم الأربعاء) ليلا في شرقي طولكرم من نيران الجنود.
ويقولون في قيادة الجبهة الوسطى، بالحذر المطلوب، ان نتائج التحقيقات الأولية لذلك الحادث الليلي، بين بلدة عنبتا ومستوطنة عيناب لا تشير إلى خروج جوهري عن تعليمات فتح النار. فالشابان تسللا تحت ستار العتمة وسط مجموعة شبان اقتربوا من موقع عسكري محروس وبحوزتهم سبع زجاجات حارقة. ويصعب الجدال مع شعور الخطر الذي يشعر به الجنود في ظروف كهذه ـ ومع ذلك، تبرز كالعادة أسئلة بشأن جودة تقدير القائد الصغير على الأرض (في هذه الحالة، تقدير قائد خلية من كتيبة الناحال الحريدي) وبشأن التناقض البنيوي بين تعليم القادة على السعي للمواجهة في كل الظروف، وبين رغبة الجيش الإسرائيلي في تجنب إحداث الموت لمواطنين غير مسلحين في الميدان. وحاليا يبدو أن هذا من نوع الأحداث التي لا تنتهي لا بوسام ولا بتقديم للمحاكمة ـ فالنتيجة إشكالية، لكنها ليست غير مفهومة في هذه الظروف.
لقد تحدث يدعي أمس في مراسم التسلم والتسليم عن الهزة التاريخية التي تمر بالمنطقة، والتي «لا يعرف أحد إلى ما ستؤول إليه». وأضاف أنه بات من قدرنا أن نعيش في ضباب. ومنطقي الافتراض أنه أيضا يشتبه أنه عندما يحين دوره لتسليم القيادة بعد عامين، سيتعذر عليه أن يترك لخليفته وضعا أمنيا أفضل من ذاك الذي تركه له سلفه مردخاي، والذي في فترة ولايته لم يلق أي إسرائيلي مصرعه نتيجة أعمال إرهابية في الضفة الغربية. وبينما كان يدعي يتكلم، واصلت التقارير التدفق مشيرة إلى تظاهرات وحوادث في أرجاء الضفة، من جنين إلى الخليل.
ومع ذلك، ثمة انطباعات لا تزال شائعة في صفوف الجيش بأن قيادة السلطة الفلسطينية تتنقل بين القطرات: فهي تستغل غضب الجمهور على مقتل الأسير أبو حمدية لأغراضها، فيما هي تأمل أن لا تنزلق الضفة إلى تصعيد طويل المدى. فرئيس السلطة محمود عباس (أبو مازن) غارق حاليا أساسا في المسار السياسي ويخشى من أن العنف الشديد قد يشوش مساره. ويصدق عباس الوعود الأميركية بتحريك العملية السياسية من جديد. كما أن زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في الشهر الفائت، رغم التأييد الرسمي الأميركي الظاهر لإسرائيل، مرت بشكل أفضل مما قدر سابقا من ناحية الفلسطينيين. فالسلطة حققت عدة مكاسب مباشرة من الزيارة.
لقد تعهد رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، بالعودة لتسليم السلطة أموال الضرائب الفلسطينية بشكل منتظم كما وعد الأميركيون بدفع 500 مليون دولار دعما للسلطة. ولوحظ هذا التغيير ابتداء من هذا الشهر، حيث تسلم موظفو السلطة الفلسطينية رواتبهم هذا الشهر في الموعد المقرر للمرة الأولى منذ ثمانية شهور.
إن التصريحات بإدانة إسرائيل، جراء وفاة أبو حمدية من السرطان في السجن، تعبر عن تجاوب السلطة مع تطلعات الرأي العام الفلسطيني (رغم أن السلطة سبق وتجاهلت حالات وفاة مماثلة في السجون الإسرائيلية قبل خمس سنوات)، لكن إلى جانب ذلك هناك هدف سياسي. فهذه فرصة جيدة للفلسطينيين لممارسة الضغط على إسرائيل، آملين أن يساعدهم ذلك في الإفراج هن 123 أسيرا قديما معتقلين في إسرائيل منذ ما قبل اتفاقيات أوسلو العام 1993، والذين تأمل السلطة تحريرهم منذ زمن طويل.
والمناطق، حتى مساء يوم أمس، لم تصل إلى نقطة الغليان العامة. ولكن صار من المستحيل تجاهل اشارة الاستفهام الكبيرة التي تحوم حول الاستقرار القائم في مدن الضفة. فقد غاب عن مراسم التسلم والتسليم في النبي صمويل يوم أمس عدد من قادة قيادة الجبهة الوسطى، الذين كانوا مشغولين بمعالجة الأحداث المحلية في القطاعات تحت مسئوليتهم. وبعد بضع ساعات، في بئر السبع، تم أيضا تبديل قائد الجبهة الوسطى الجنرال طال روسو الذي حل مكانه جنرال جديد هو سامي ترجمان. وفي الحالتين، ورغم التوتر هذا الأسبوع في الضفة والقطاع، تقرر في هيئة الأركان عدم تأجيل المراسم. في الأسبوع المقبل لن يكون الهدوء أشد بالضرورة.
جنة المجانين
غزة والضفة هما وجهان للعملة نفسها، في واقع له أوجه شبه مشتركة أيضا مع الواقع في هضبة الجولان وسيناء. وذلك، رغم أن أسباب التوتر على الحدود مع مصر وسوريا أقل ارتباطا بما يجري في المناطق ,أكثر ارتباطا بالهزة الإقليمية التي تحدث عنها يدعي. في كل هذه القطاعات، تجابه إسرائيل حوادث شدتها لا تزال متدنية جدا، ولكن وتائرها تتعاظم. فقط في الـ 72 ساعة الأخيرة سجلت عدة حوادث إطلاق نار على الحدود مع سوريا، وقتلى فلسطينيين في الضفة، وإطلاق نار استثنائي لصواريخ من غزة (بعد الهدوء المتواصل جدا الذي حققته عملية «عمود السحاب») ونشر بطارية اعتراض من طراز القبة الحديدية للدفاع عن إيلات، على خلفية تقدير بتزايد احتمالات إطلاق صواريخ عليها من سيناء.
وحتى الآن لا يؤثر كل هذا بشكل جوهري في جودة الحياة لمعظم الإسرائيليين، ولا على إحساسهم بالأمان. ونتنياهو، في أحاديثه الشخصية، ألمح مؤخرا إلى أن المواطنين هنا يعيشون حياة تجاهل، تقريبا كما في جنة مجانين وأن الاضطرابات التي تحدث منذ عامين في العالم العربي ستصل في نهاية المطاف الى بابنا بأكثر الصور جدية. ومع ذلك، فإن انعدام الهدوء يترك أثره في هذه الأثناء أساسا على المناطق الحدودية، في الجولان وحدود غزة. أما سكان وسط إسرائيل، عدا انفجارات محدودة كإطلاق حماس صواريخ على تل أبيب والقدس إبان عملية عمود السحاب، لا يشعرون تقريبا بالنتائج حتى الآن. ولا يزال بالوسع الحديث عن جدول أعمال مدني والبحث في تقليصات (اضطرارية بذاتها) في ميزانية الدفاع في ضوء الانخفاض في التهديد العسكري التقليدي من جانب الدول العربية.
وعندما يذكر أحد ما، مثل قائد الجبهة الخلفية الجنرال أيال آيزنبرغ في مقابلة مع «هآرتس» في الأسبوع الفائت، الوجه البائس للحرب المقبلة على الجبهة الداخلية، إذا نشبت، يتم فورا اتهامه بالتآمر لاستلاب المزيد من التمويل من جهازي التعليم والصحة. وعمليا، الواقع أشد تعقيدا، ولذلك يصعب أكثر شرحه للمواطنين. وباختصار، الأمر يتبدى في تقديرات الاستخبارات المتجددة، والتي يكمل شطراها أحدهما الآخر رغم ما يبدو من تناقض بيمهما: فأرجحية الحرب المبادر إليها من جانب أي دولة عربية متدنية. ولكن خطر اشتعال الوضع بشكل غير مخطط له، بسبب التصعيد المتواصل في أي من الجبهات الكثيرة، يتعاظم تحديدا. في الجبهة الأمنية، إسرائيل ستواصل مجابهة سحب قاتمة، لأسباب مختلفة في قطاعات مختلفة. والحكمة هي أن تحفظ هذه النزاعات على نار هادئة ـ وربما، في سيناريو متفائل على وجه الخصوص، التجاوب أيضا مع مبادرة أميركية وتحقيق تقدم ما في المسار السياسي مع الفلسطينيين.
ومساء أمس، في جامعة تل أبيب، أقيم يوم دراسي حول كتاب جديد أصدره البروفيسور (والجنرال احتياط) اسحق بن إسرائيل، بعنوان «نظرية الأمن الإسرائيلية». وفيما كانت القيادة الأمنية تتحدث عن تحديات المرحلة بوصفها استثنائية وأشد تعقيدا مما كانت في الماضي، ذكر بن إسرائيل أن الكثير من المصطلحات في هذا النقاش ليست جديدة. فالمبادئ الأساسية التي قررها بن غوريون في مطلع الخمسينيات سارية وصالحة، حتى مع تغير الظروف.
وقال بن إسرائيل، «عندما تجتمع هيئة الأركان للبحث في عملية عسكرية ما، فإن ثمانين في المئة من البحث يدور حول مسألة الردع». وأضاف ان إسرائيل لا يمكنها هزيمة أعدائها طوال الوقت. بل ان الانتصار الأكبر في حرب الأيام الستة لم يحقق سوى نصف عام من الهدوء قبل أن يحدث التدهور الذي أسمي لاحقا بحرب الاستنزاف.
«إن أقصى ما يمكن لنا توقعه هو هزيمة القوة العسكرية للعدو. في نظرية الأمن الإسرائيلية، الحروب هي مجرد جولات من العنف في حرب طويلة. وعندما تبدأ جولة كهذه، نعرف نحن أنها ستنتهي بعد أسابيع إلى شهر، تليها هدنة وفي النهاية نصل إلى الجولة التالية». وحسب بن إسرائيل، فإن مغزى النصر في هذه الظروف هو «التسبب بين جولة واخرى في تقليص شهوة العدو للعودة إلى مواجهة أخرى. وأكثر من ذلك لا نستطيع أن نحقق. هذا هو الحد الأقصى». هذا تصور متشائم جدا، لكنه كما يبدو ليس غير واقعي.
هآرتس