خليل رعد: أول مصوّر فوتوغرافي عربي في فلسطين

 

القدس:لمناسبة مرور خمسين عاماً على "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، أقيم في مؤسسة رفعت النمر معرض فوتوغرافي مميز يُعرّف بإنتاج خليل رعد، "أول مصوّرٍ فوتوغرافي عربي في فلسطين، والأبرز في الشرق الأوسط".

 يأتي هذا المعرض تحت عنوان "فلسطين قبل 1948 ليست مجرد ذاكرة "، ويستمر حتى 14 نيسان.

برز اسم خليل رعد في العقود الأخيرة من خلال كتب عدة تلقي الضوء على التاريخ الفلسطيني قبل النكبة. عام 1984، أصدر وليد الخالدي كتابه "قبل الشتات: التاريخ المصوّر للشعب الفلسطيني، 1876-1948"، الذي ضمّ مجموعة كبيرة من الصور التقطها خليل رعد في مسيرته التى تواصلت على مدى أكثر من خمسة عقود من الزمن. نُشر الكتاب أولاً بالإنكليزية، ثمّ صدر بالعربية في مطلع عام 2000، واعتُبر مرجعاً وسجلاً يوثّق لحياة الشعب الفلسطيني وكفاحه طوال سبعين عاماً من تاريخه الحديث قبل الشتات. جعل المؤلّف كتابه في خمسة أبواب تناولت تباعاً المرحلة الأخيرة من العهد العثماني، الحكم البريطاني، التمرّد الفلسطيني، الثورة الكبرى، فتقسيم فلسطين. ضمّ كلُّ قسم من هذه الأقسام العديد من اللقطات الفوتوغرافية، وتميزت صور خليل رعد بتصويرها المواقع الجغرافية ووجوه الحياة العامة بتقنية رفيعة تشهد لمهنية صاحبها وبراعته في هذا الحقل.

بعد وليد الخالدي، أصدر الياس صنبر بالفرسية عام 2004 كتاب "الفلسطينيون: الصور الفوتوغرافية لأرض وشعبها منذ 1839 حتى الآن"، ونشر عصام نصار في العالم التالي "لقطات مغايرة: التصوير المحلي المبكر في فلسطين، 1850-1948"، وحوى الكتابان مجموعة قيّمة من صور خليل رعد. قبل صدور هذين الكتابين، نشر بدر الحاج في ربيع 2001 مقالة خاصة بـ"خليل رعد مصوّر القدس"، وفيها رسم الخطوط العريضة لمسيرة أول مصوّر عربي يعمل في فلسطين. بعدها، وضعت الباحثة الإسرائيلية رونا سبلع أول كتاب خاص بأعمال هذا المصوّر الرائد. صدر هذا الكتاب في عام 2010، وحمل عنوان ""خليل رعد، صور فوتوغرافية (1891- 1948)"، وترافق صدوره مع إقامة أوّل معرض شخصي للمصوّر الراحل، في متحف غوتمان للفنون في تل أبيب. في رصدها لهذا المعرض، نوّهت صحيفة "الاتحاد" الفلسطينية بعمل رونا سبلع، وقالت إنها "شغلت منصب مديرة متحف حيفا، وقامت بإعداد العديد من المعارض والمؤلفات حول النكبة وتاريخ البلاد، لكن بسبب أعمالها هذه وعدم انصياعها لإملاءات إدراة بلدية حيفا بإقامة معارض تعكس الوجه الصهيوني وتدافع عن روايته، تمّ فصلها من عملها". كما نُقِلَ عن الباحثة قولها: "ان هذا المعرض الشخصي الأول للفنان خليل رعد، نجح بتوثيق نمط الحياة الفلسطيني بكامل أوجهه، في الريف والمدينة والطبيعة وفي البيت وبين افراد العائلة، وبذلك نجح في دحض الادعاءات الاستعمارية والصهيونية بعدم وجود حياة متطورة في هذه البلاد، وسيتم من خلال المعرض عرض جزء كبير من أرشيفه الشخصي ووصفه للصور التي التقطها". وأضافت: "ان هذا المعرض سيعيد الى الأذهان الصورة التاريخية للبلاد. الفنان خليل رعد كان شخصاً نموذجياً وهذا المعرض سيعيده الى واجهة الفن الفوتوغرافي الذي صاغ بداياته في هذه البلاد".

من بحمدون إلى القدس

في آذار 2011، افتتح رئيس بلدية الناصرة المهندس رامز جرايسي معرضاً خاصاً بأعمال خليل رعد في "قاعة محمود درويش"، واليوم، يحل رائد التصوير الفلسطيني في معرض شخصي جديد يكرّس مكانته في الذاكرة الفلسطينية المعاصرة. خرج هذا المصوّر إلى الضوء من طريق الدراسات التي تعنى بتاريخ فلسطين قبل النكبة، ونجح الباحثون والمختصون في كتابة سيرته الشخصية والفنية. كان أوّل مصوّر عربي في فلسطين لبنانياً. وُلد في بحمدون عام 1854، وانتقل مبكرا مع والدته وأخته إلى القدس حيث نشأ وترعرع. تعلّم مهنة التصوير على يد المصوّر الأرمني الفلسطيني غرابيد كريكوريان، ثمّ استقلّ عن معلّمه، ونافسه في الحقل عندما أنشأ في عام 1890 ستوديو خاصاً به في شارع يافا، خارج أسوار مدينة القدس القديمة. هدأت المنافسة بين كريكوريان ورعد بعد المصاهرة بين العائلتين في 1913. تزوجت ابنة اخت خليل رعد من نجل غرابيد كريكوريان، وتقاسم المصوّران ميدان العمل، فتخصص رعد بتصوير الحياة اليومية العامة، والتزم كريكوريان حقل الوجوه الشخصية، أي البورتريه. قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، سافر خليل رعد لدراسة التقنيات الجديدة، وقصد المصوّر السويسري الشهير كيلر، وتزوّج هناك من مساعدة كيلر في عام 1919، ثم عاد إلى فلسطين، واستقرّ مع زوجته في حي الطالبية جنوب غرب القدس، مواصلاً عمله في محترفه الكائن في شارع يافا.

لمع اسم رعد في العهد العثماني الأخير، واتخذته السلطة التركية مصوّراً رسمياً لها، وشكّل إنتاجه في تلك الحقبة سجلاً استثنائياً حفظ وجوه الكثيرين من رجال الحكم وملامحهم. انتهت الحرب العالمية الأولى، وخسرت الدولة العثمانية مجمل أراضيها في البلاد العربية لصالح بريطانيا وفرنسا في عام 1917. خضعت فلسطين للانتداب البريطاني، وأضحت القدس عاصمة الانتداب، واستقرّ فيها الحاكم الانكليزي ومؤسسات حكومته. فتحت السلطة البريطانية باب الهجرة أمام اليهود الراغبين في إقامة "بيت وطني" في فلسطين، وأدّت هذه السياسة إلى تدفّق الوافدين الجدد من سائر أنحاء العالم. خضعت فلسطين في مرحلة أولى للإدارة المدنية البريطانية، وتولّى أول مندوب سامٍ بريطاني هربرت صمويل إدارة البلاد، وشرع في تحقيق "وعد بلفور"، وأقرّ اعتماد اللغة العبرية لغة رسمية إضافة إلى اللغتين الإنكليزية والعربية.

 في مطلع تشرين الأول 1923، أعلنت عصبة الأمم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني الذي سعى بسرعة إلى إسباغ صفة جغرافية دينية خاصة بهذه البلاد. ظهرت ملامح تهويد فلسطين بشكل واضح في تلك الفترة، وأشعلت الصراع بين الفلسطينيين والصهاينة الوافدين في العشرينات، فكانت انتفاضة "موسم النبي موسى" في القدس في نيسان 1920، وتبعتها انتفاضة يافا يوم عيد العمال في العام التالي، ثم معارك "البراق" حول الحائط المعروف بهذا الإسم. احتدمت هذه المواجهات بشكل كبير في الثلاثينات، فكانت ثورة تشرين 1933، ثم الثورة الكبرى التي تواصلت فصولها بين 1936 و1939. توقفت هذه المواجهات خلال الحرب العالمية الثانية، واستؤنفت بحدة من بعدها. أعلنت بريطانيا نهاية الانتداب، ودعت الأمم المتحدة إلى تقسيم فلسطين في تشرين الثاني 1947. وُلدت دولة إسرائيل رسمياً في 14 أيار 1948، وتوجهت خمسة جيوش عربية لمساعدة الفلسطينيين في حربهم على هذه الدولة الطارئة، وكانت النكبة التي انتهت بسيطرة الكيان الصهيوني على ثمانية وسبعين في المئة من أرض فلسطين.

شهد خليل رعد هذه الأحداث، وسجّل أبرزها بعدسته، وبقي القسم الكبير من هذا السجل حيّاً لحسن الحظ. خسر المصوّر منزله ومحترفه في أحداث النكبة، غير أنه نجح في تهريب أرشيفه، وعاد إلى بحمدون لبضع سنوات، ثم رجع إلى القدس بدعوة من بطريركية الروم الأرثوذكس، وأقام مع زوجته في مجمّع البطريركية في البلدة القديمة حتى وفاته 1957. دخل رائد التصوير الفلسطيني في النسيان قبل أن يحييه مؤرّخو فلسطين، وبات اسمه مرادفاً لهذا التاريخ. تعكس صوره المعروضة اليوم في بيروت، الوجوه المتعددة لإنتاجه الغزير، وتنقل صورة عن العالم الفلسطيني المتخيّل، كما تسجّل وتوثّق لوقائعه المادية المحسوسة. يبرز العالم المتخيّل في صور تستعيد أحداث الإنجيل، وهي صور سياحية تحاكي الرسوم التي روّجها المرسلون، وتصوّر مريم العذراء والطفل يسوع وملوك المجوس في ثياب محلية عربية معاصرة. من جهة أخرى، يحضر التاريخ بتقلباته وتحولاته في صور تسجّل التاريخ العثماني، منها صور شخصية لأبرز قادة المنطقة من عسكريين عثمانيين، في مقدمهم الحاكم العسكري لسوريا وفلسطين أحمد جمال باشا، وقائد فيلق الجيش الثامن المدافع عن غزة جمال باشا المرسيني. تحوي هذه المجموعة العثمانية صوراً استثنائية تنقل بعض الوقائع المؤلمة، أبرزها صورة تمثّل شنق جنود متّهمين بالتعاون مع البريطانيين عند باب العمود اواسط 1915، قبل إعدامات شهداء الإستقلال في دمشق وبيروت. وصورة تمثل طوابير العمالة العثمانية في بناء عسكري في بئر السبع، أيّام "سفر برلك".

من العهد العثماني ننتقل إلى العهد البريطاني وبداية تهويد فلسطين.

نرى الجنرال اللنبي يدخل القدس في أواخر 1917، ونشهد التظاهرات المعادية لوعد بلفور في تشرين الثاني 1929، والاضطرابات التي تتالت في يافا والقدس عند اندلاع ثورة 1936. تحضر فلسطين بمدنها وسهولها ومعالمها الثابتة في مجموعة أخرى من الصور، ومعها يعود إلى الخاطر صوت عبد الوهاب وهو ينشد: "وا فلسطين على كل فم/ يلتقيها في المدى رجع الصدى/ ويؤديها لأفق أعظم".

حرره: 
ع.ن