التباس الحوار بين محمود درويش وقصيدة النثر

بقلم: سليمان جبران

لا أظنّني مغاليا إذا قلت إنّ محمود درويش (1941 2008) هو أكثر الشعراء العرب، بعد الحرب العالمية الثانية، شهرة وانتشارًا. عوامل كثيرة ومتنوّعة تضافرت في تشكيل هذه المكانة المتميزة للشاعر وشعره، في حياته وبعد وفاته أيضا.

هناك أوّلا موهبة شعرية فذّة تجلّتْ بوضوح حتى في 'أشعار الصبا' التي بدأ درويش كتابتها ونشرها، وهو ما يزال على مقاعد المدرسة الثانوية، في أواخر الخمسينات من القرن الماضي. هذه الموهبة، أو 'السليقة'، كما يسمّيها هو، كفلت للقصيدة الدرويشية، في مراحلها كلّها، انسيابها في طواعية ويسر، مهما كانت القصيدة راقية ومركّبة: 'في البداية، على الشاعر أن يقرأ الكثير من الشعر كي يسلس له الإيقاع، وتسلس له اللغة، ويربّي السليقة لديْه، فالسليقة إذا صُقلت تساعد الشاعر على التخلّص من النكد الشعري. فالشعر، مهما كان يحمل من أفكار وأبعاد فلسفية، يجب أن يبدو كأنه عفوي، وهذا يعود إلى فعل السليقة المهذّبة'.

العامل الثاني أن درويش، بشعره وحياته، غدا 'شاعر فلسطين'، أو 'شاعر القضية'، أو 'شاعر المقاومة'؛ يذكّر بفلسطين وتذكّر به دائمًا، سواء رغب الشاعر في هذه 'الألقاب' أو رفضها. درويش نفسه شكا غير مرة من تناول شعره 'فلسطينيا'، دونما التفات إلى الجانب الجمالي فيه؛ كأنما القضيه الوطنية هي رافعة هذا الشعر ومدعاة رقيّه وانتشاره . بل إن الشاعر، في أحيان كثيرة، كان 'يشاكس' جمهوره رافضا إلقاء قصائده السياسية المباشرة، تلبية لإلحاح هذا الجمهور، عادة، في الأمسيات الشعرية الحاشدة التي شارك فيها . إلا أن ذلك كلّه لا ينفي طبعا قيام الإيديولوجيا عاملا آخر من عوامل تقييم هذا الشعر و انتشاره.

العامل الأخير، والأهمّ في رأينا، في انتشار هذا الشعر، وفي بلوغه مستوى فنّيًا راقيًا، في الأساس، أنّ درويش

واصل خلال نصف قرن وأكثر كتابة الشعر دون انقطاع، وفي خطّ صاعد في مجمله. بل يمكن القول إنه كرّس حياته، فعلا لا مجازا، للقراءة المتواصلة المتنوّعة، ولكتابة الشعر، والانطلاق به إلى مناطق جديدة على الدوام. كأنما ظلّ، على امتداد هذه المسيرة الشعرية الحافلة، يطرح على نفسه السؤال/ الطلب ذاته: ماذا بعد؟ فهو لم يقنع يومًا بالجماهيرية الواسعة التي حقّقها شعره الخطابي المباشر، حتى في المرحلة الأولى من نتاجه، قبل مغادرته إسرائيل سنة 1970، ولا بالمديح يُغدق عليه من قرّائه وناقديه في البلاد وفي العالم العربي، بل واصل دائمًا البحث عن الجديد غير قانع بما أنجز: 'هناك شيء واضح بالنسبة إليّ، وهو أني لن أبلغ منطقة الرضا. أنا شديد التطلّب وملول من المنجز. وأشعر، صادقًا، بأني لم أصلْ إلى حدود ما يسمّى الشعر الصافي. الشعر الصافي مستحيل، لكن علينا أن نغذّي أنفسنا بوهم وجوده. الشعر الصافي متحرّر من تاريخيّته ومن ضغط الراهن، أي أنّه يعاند الزمن. لكنّنا ما زلنا نقرأ، بكامل المتعة، الكثير من الشعر العظيم الذي كُتب في لحظة زمنية عن واقع معيّن. التاريخ والواقع ليسا، على ما أظنّ، عبئًا على صفاء الشعرالذي يأتي من طين الحياة، لا من أزهار الفلّ. الشعر الجيّد يعيش خارج شروطه الزمنية. حين نقرأ هوميروس، هل نقرأه في حرب طروادة وفي زمن محدّد؟ '.

في أواسط الثمانينات، بعد احتلال إسرائيل بيروت، وخروج منظّمة التحريرالفلسطينية من لبنان، 'استقرّ'

الشاعر أخيرا في باريس، حيث توفّرت له ظروف الهدوء، بعيدًا عن مسرح الأحداث، والقراءة المكثّفة، وطرح الأسئلة الكبرى، ومساءلة الذات، شاعرًا وإنسانًا. في باريس أيضًا بدأت متاعب القلب ومخاوف التقدّم في السنّ ، والمرض، والموت. هذه العوامل، مجتمعة، أرهصت لمرحلة جديدة في رؤية العالم وفي القصيدة الدرويشية تبعًا لذلك: 'لم يعد البطل شبقًا لأن يبقى بطلا، ولا يريد أن يتمتّع بمكانة الضحيّة، يريد أن يتحوّل إلى إنسان عاديّ [... ] ولأنّ الشاعر أصبح يعي أنّه ليس منقذًا وليس مخلّصًا وليس مسيحًا وليس نبيّا، فهذه كانت صفات الشاعر الرومانسي، فإن الشاعر الآن هو الفرد الذي يتمتّع بعزلته وبكونه معزولا لكي تتاح له فرصة أن يعيد النظر في فرديّته وفي ذاته، دون أن يكون على حساب قطيعة مع المجتمع. ولكنّ طريقة التعبير عن علاقة الشعر بالواقع، تمرّ عبر التأمّل، بالتالي، فإن البحث عن تحوّلات البطل في نتاجنا كلّه، تقتضي تحوّلات في اللغة، والتخفيف من النطق باسم الجماعة إلى التكلّم باسم الذات الحاملة للجماعة، وهذا يقتضي طبعًا قصيدة متواضعة أو متقشّفة، تمجّد إنسانيّة الإنسان التي لا تُختزل بقدرته على التضحية، وتمجّد حبّه للحياة وليس حبّه للموت، تمجّد الإنسانية فيه، وهذا جزء من مشروع بحث الفلسطينيّ عن إنسانيّته'.

التجديد في هذه المرحلة الأخيرة من حياة درويش وشعره، شأن كلّ تجديد حقيقي، لم يقتصر طبعًا على رؤية العالم، بل طال القصيدة بكلّ مقوّماتها الفنية: مبناها، قاموسها، صورها، وإيقاعها أيضًا؛ موضوعة هذه المقالة. بدأ درويش كتابة الشعر في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وقد أخذ الشكل التفعيلي، أو ما تسمّيه نازك الملائكة الشعر الحرّ ، يهيمن على القصيدة الحديثة، وسرعان ما انحاز درويش إلى هذا الشكل الإيقاعي الجديد حتّى طغى على نتاجه تمامًا. ننظر في مجموعته الأولى، أوراق الزيتون ، متجاهلين كما أراد درويش نفسه مجموعة 'عصافير بلا أجنحة' المبكّرة، فنجد أن الشكل الإيقاعي التقليدي يقتصر على أربع قصائد هامشية قصيرة، لا تتعدّى عشرة بالمئة من هذه المجموعة. وفي مجموعاته اللاحقة واصل درويش انحيازه الواضح إلى المبنى التفعيلي، بينما انزوى الشكل التقليدي في قصائد هامشية معدودة هنا وهناك، بحيث يمكن اعتبار درويش أبرز وأكثر من تبنّى الإيقاع التفعيلي في مسيرته الشعرية الطويلة. إلا أنّ مرحلة التجديد الشاملة التي أطلقها في أواخر الثمانينات تطلّبت التجديد في الإيقاع أيضا، بعد سنوات طويلة ونتاج متواصل من القصيدة التفعيلية أدّت بهذا الشكل إلى النمطية والرتابة، بعد أن كان في بداية الطريق ثورة على الشكلين العمودي والمقطوعي وكسرًا لكليهما. لم يكن أمام درويش من شكل إيقاعي جديد يوافق مشروعه التجديدي في المرحلة المذكورة سوى قصيدة النثر. إلا أنه تجنّب الأخذ بهذا الشكل الإيقاعي الجديد، عامدًا، رغم إدراكه العميق لميزاته وطاقاته: 'بين ما يعطي شرعيّة لقصيدة النثر أنها تقترح كسر نمطية إيقاعية وتسعى إلى إنشاء إيقاع آخر، ليس بديلا لكنّه فعّال، فضلا عن أنه يؤسّس لحسّاسية جديدة. اقتراح قصيدة النثر هذا هو أهمّ العوامل التي جعلتني أشعر بقدرة الوزن على أن يكون نمطيا. هناك بيني وبين قصيدة النثر بالتالي حوار ضمني أو مبطّن. لكنّي أجد حلولي داخل الوزن. والوزن ليس واحدا، ولو كانت له العروض نفسها'.

إذا كانت قصيدة النثر حقّقت مشروعيّتها، بكسر النمطيّة الإيقاعية السائدة، والتأسيس لحساسية جديدة، كما صرّح في المقتبَس أعلاه، فلماذا لم يأخذ بهذا الشكل الإيقاعي الحديث، مؤْثرا البحث عن الحلول في نطاق الوزن بالذات؟ لماذا لم يكتب قصيدة النثر وهو مَن صرّح، في مرحلة مبكّرة سنة 1973، أن الحداثة تتطلّب التنازل عن الشكل التفعيلي: 'كنتُ شديد الحماس إلى عدم التنازل عن التفعيلة، ولكنّ إيماننا بالحداثة وقبولنا التنازل عن القافية ووحدة السطر قد يجرّنا إلى التنازل عن التفعيلة أيضًا'. هذا هو التباس الحوار بين درويش وقصيدة النثر، أو الازدواجية في موقف الشاعر من قصيدة النثر.

في الحوارات الكثيرة مع درويش، وبعض المحاورين كانوا من شعراء قصيدة النثر البارزين، أقرّ الشاعر أن قصيدة النثر هي 'الظاهرة الأبرز في الشعر العربي، وخلال العقدين الأخيرين بصورة خاصّة'، إلا أنه لم يكتبها 'لأنه لم يشعر بأن الوزن يقيّده ويحجب عنه حرّيته في المغامرة' . من ناحية أخرى، يوافق درويش محاورَه صراحة، في أسبوعيّة 'أخبار الأدب' القاهرية، أن قصيدة النثر ليست شعرا، لكنّه لا يصرّح بذلك خوفًا من 'ميليشيات وأحزاب تدافع عن هذه الكتابة'، ويضيف أن شروط تطوّر الشعر العربي يجب أن تنبع من تاريخيّته حفاظًا على ثروته الإيقاعيّة: 'لا أقول هذا [بأنّ قصيدة النثر ليست شعرًا] لأنني في الحقيقة أخافهم، ولكنني أعبّر عن رفضي لقصيدة النثر بشيء واحد، أنّها ليست خياري، وإن كنت أقبلها كخيار لآخر، فإذا ادّعينا أن الشعر يُقرأ فكيف نتذوّق الموسيقى؟ إن الأذن موجودة كإحدى الحواسّ الأساسيّة لاستقبال الجمال. وإذا كان الصمّ لا يستمتعون بالموسيقى فإن استبعاد الأذن يعني شيئا كهذا ويعني استبعاد الطقس الإنشادي[... ] بالتأكيد هناك الكثير ممّا يجب الثورة عليه، لكنّني لا أرى كلّ التراث عيبًا، وشروط تطوّر الشعر العربي يجب أن تنبع من تاريخيّته وعلاقة هذه التاريجيّة بالشعر العالمي. ليس بالضرورة أن يكون نظام الإيقاع صارمًا كما في السابق، ولكن لا أفهم لماذا نفرّط بثروتنا الإيقاعيّة تمامًا'.

حيال هذه المراوغة في الردّ على أسئلة المحاورين، بصدد امتناعه عن كتابة قصيدة النثر، وموقفه الازدواجي في

في تقييم هذا الشكل الإيقاعي الجديد، نرانا مضطرّين إلى البحث عن الأسباب الحقيقيّة في نهجه هذا. لا أحد ينكر موهبة درويش الإيقاعيّة ومهارته المدهشة في تطويع الشكل التفعيلي، وذلك ما سنعرض له بالتفصيل لاحقا، بحيث 'وجد حلوله ' في الوزن، كما صرّح غير مرّة. لا نستغرب أيضا أن الشاعر مولع بالإيقاع بحيث غدا هذا الإيقاع / الوزن، وقد اعتاده زمنا طويلا وفي قصائد كثيرة جدّا، عاملا منظِّما في بناء شعره . مع ذلك كلّه، لا بدّ من السؤال: إذا كان الشاعر وجد الحلول في الشكل التفعيلي المحكوم بوزن دقيق صارم، ألم يكنْ في وسعه إيجاد هذه الحلول في قصيدة النثر أيضا وهي أكثر طواعية ويسرًا، ما في ذلك شكّ ؟ ما السرّ في تمسّكه بالشكل التفعيلي رغم اعترافه بأنّ قصيدة النثر 'تؤسّس لحسّاسية جديدة' وقد أثبتت 'شرعيّتها الإبداعيّة والثقافيّة'؟ باختصار: لماذا عمل الشاعر جاهدا على تبنّي السمات الأسلوبيّة لقصيدة النثر، أو معظمها، في قصيدته التفعيليّة، ولم يكتب قصيدة النثر ذاتها مباشرة ؟

يبدو لنا، من المراجعة الدقيقة لإجابات درويش في الحوارات الكثيرة معه وما تتضمّنه من تحفّظات واستدراكات غير قليلة، أن الشاعر امتنع عن كتابة قصيدة النثر لأسباب غير موضوعيّة؛ أسباب لا تكمن في قصيدة النثر ذاتها بكلّ مقوّماتها الفنيّة. صحيح أن كثيرين من الموهوبين اتّخذوا هذا الشكل الإيقاعيّ الجديد أداة وحيدة في إبداعهم الشعري، مثبتين شرعيّتهم وشرعيّتها في ساحة الإبداع الشعري. إلا أن قصيدة النثر منذ منشئها، في مجلة 'شعر' في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، يوم كان 'الالتزام' مهيمنا على الساحة الأدبية، اتّسمتْ في نظر غالبية القرّاء والنقّاد، بحقّ أو بغير حقّ، بتأثرها المباشر بالشعر الغربي، وانكفائها على الذات، وانشغالها الاستحواذي بهموم الأنا المضخّمة، وإيغالها في الأسلوب السوريالي المبهم، بعيدا عن قضايا الشعب القوميّة واليومية على حدّ سواء . هذا في رأينا هو ما يلمّح إليه درويش في كلمته التي ألقاها في حفل التوقيع على مجموعته الشعرية 'كزهر اللوز أو أبعد' في رام الله: ' أعلم أنّني سأُتهم، مرّة أخرى، بمعاداة شعر الحداثة العربية التي يعرّفها العُصابيّون بمعيارين: الأوّل: انغلاق الأنا على محتوياتها الذاتية دون السماح للداخل بالانفتاح على الخارج. والثاني: إقصاء الشعر الموزون عن جنّة الحداثة... فلا حداثة خارج قصيدة النثر. وتلك مقولة تحوّلت عقيدة يكفَّر كل من يقترب من حدودها متسائلا. وكلّ من يسائل الحداثة الشعرية عمّا وصلتْ إليه يُتهم، تلقائيا، بمعاداة قصيدة النثر!' . إذا كانت هذه هي صورة الحداثة وقصيدة النثر؛ 'انغلاق الأنا على محتوياتها الداخلية'، فما الداعي إلى مجازفة الشاعر برصيده الوطني والشعري بكتابة قصيدة نثر؟ كيف يسمح 'شاعر فلسطين' لنفسه بالتخلّي عن أعرض جماهيرية عرفها شاعر عربي معاصر في سبيل انغلاق الأنا على محتوياتها الذاتية؟ يخطئ من يظنّ أن درويش لم يكنْ حريصا أشدّ الحرص على صلته بجماهيره، حتى إذا لم يرضخ دائما لرغبة هذه الجماهير في تكرار الصورة النمطية التي رسمها شعره الأول: 'يشرّفني أن يُنظر إلى صوتي الشخصي كأنّه أكثر من صوت، أو أن ' أناي' الشعرية لا تمثّل ذاتي فقط وإنّما الذات الجماعية أيضا. كلّ شاعر يتمنّى أن يصل شعره إلى مدى أوسع. وأنا لا أصدّق الشعراء الذين يحدّدون القيمة الشعرية من منظور عزلتهم عن القرّاء. أنا لا أقيس الشعر بمدى انتشاره ولا بمدى انعزاله' .

ثمّ إن قصيدة النثر، باستبعادها الوزن الخليلي، جعلت 'الشعر' مطيّة ذلولا للمبدعين وغير المبدعين. يكفي من لا يقوى على كتابة موضوعة إنشائية جيّدة أن يرتّب 'نتاجه' في أسطر متفاوتة الطول، زاعما أنه يكتب شعرًا، ثمّ يبعث به إلى الصحيفة ليُنشر في 'الملحق الأدبي' دونما مراقبة أو مراجعة! وأنى للقارئ العادي أن يميّز السمين بين هذا الكم الهائل من الغثّ؟ هذه الفوضى أضرّت، دونما شكّ، بالقيمة الريادية في قصيدة النثر، فلماذا يزجّ بنفسه في هذا الحشد الهائل من متسلّقي قصيدة النثر شاعر بنى رصيده وجماهيريته بالموهبة الفذّة والعمل الدؤوب سنين طويلة؟ هذا في رأينا هو سبب آخر، غير موضوعي أيضا، في امتناع درويش عن كتابة قصيدة النثر: 'إذا أردنا أن نحاكم حالتنا الشعرية نجد أنّ في شعر الشباب، وخاصّة لأنّ قصيدة النثر هوّنت عليهم الإحساس بالمسؤولية، نقصا في المعرفة اللغوية، هناك الكثير من القصائد أضعف من مقال متين. المفروض أن يكون النصّ الشعري أرقى الأشكال اللغوية. المفروض أن يكون هو ما يحمي اللغة ويجدّدها'.

يبدو أن إصرار درويش المذكور على تبرئة نفسه من 'وزر' قصيدة النثر، جعله أيضا ينفي كتابته هذا الشكل مرّة، ويُقرّ به أخرى، في الحوارات الكثيرة التي أُجريت معه. ففي الحوار الطويل معه في مجلّة 'مشارف' سأله مُحاوره إذا كان جرّب مرّة كتابة قصيدة النثر، فكان ردّه: 'كتبت مزامير، والكثير من نثري أقرب إلى قصيدة نثر'. وفي حوار آخر مع عبّاس بيضون صرّح أنّه لم يكتب قصيدة النثر، لأنّه لم يتدرّب على مثل هذه الكتابة: 'فأنا لم أعرف أن أكتب قصيدة نثريّة لأنّي لا أعرف أن أجد إيقاعا نثريا، لستُ متدرّبا عليه، قد يكون في نثري الذي أعتبره نثرا لا قصيدة شعر شعريّة أكثر وإيقاع أعلى، لكنّي لا أعرف أن أكتب قصيدة خارج الإيقاع والوزن'. ثمّ يُسأل مرّة ثالثة عن كتابته قصيدة النثر في قصيدة 'مزامير' ، أولى قصائد مجموعته 'أحبّك أو لا أحبّك'، فيبرّر ذلك بالتحاور مع الأسلوب في المزامير التوراتية: 'هذه التجربة التي تتكلّم عنها جزء من مجموعة 'مزامير'، حاولت أن أستحضر فيها أبعاد التراث المزموري، وأّقدّم حنينًا فلسطينياً في حواره مع حنين توراتي، وهذا يقتضي أن تتحاور مع نصوص موجودة هي المزامير [ ... ] وبعد أن مرّت سنوات على هذه التجربة، لم أجد أنها نجحت ، فكانت عبارة عن خواطر سُجّلت نثرًا '.

هنا أيضا 'يتهرّب' الشاعر من كتابته قصيدة النثر في 'مزامير'، كأنّما هي تهمة ظالمة، فيسمّي ما كتبه هناك من قصيدة النثر 'خواطر سُجّلت نثرًا'. القصيدة المذكورة هي قصيدة طويلة، تتألف من 17 مقطعًا، وتتضمّن تشكيلة كبيرة من الأوزان: المتقارب- 3 صفحات، المتدارك- 5، الكامل- 2، الرمل- 3، وقصيدة النثر- 22. وإذا كانت المقاطع من قصيدة النثر تتحاور مع الأسلوب المزموري، كما رأى درويش، فإن الأوزان الأربعة الأخرى في القصيدة ذاتها لا تتّصل بالأسلوب التوراتي من قريب أو بعيد. ولا ندري لماذا حكم الشاعر على التجربة بالفشل، وما الفرق بين مقاطع قصيدة النثر ومقاطع الأوزان الأخرى في هذه القصيدة.

بعد قرابة عشرين سنة على تجربة 'مزامير' التي سمّاها الشاعر 'خواطر سُجّلت نثرا'، أصدر درويش كتابين/ مجموعتين يحار القارئ، والناقد أيضا، في تصنيفهما الجانري. الكتاب الأوّل أسماه 'في حضرة الغياب' وأضاف تحت اسمه 'نصّ '، تاركا للقارئ الحكم في جنسه الأدبي. يتصدّر الكتاب أيضا بيت من قصيدة مالك بن الريب الشهيرة في رثاء نفسه، 'يقولون لا تبعدْ وهم يدفنونني/ وأين مكان البعد إلا مكانيا'، ليشكّل هذا الشعار/ الموتو ، عنوانا موازيا، بشكل أو بآخر، لاسم الكتاب في حضرة الغياب. الكتاب 181 صفحة، في عشرين 'فصلا'، ويقوم كما يشي عنوانه على حوار، بضمير المتكلّم، بين اثنين في واحد هو الشاعر ذاته: 'ولنذهبنّ معًا أنا وأنت في مسارين: أنتَ، إلى حياة ثانية، وعدتكَ بها اللغة [ ... ] وأنا، إلى موعد أرجأته أكثر من مرّة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد'. باختصار، يمكن القول إنّ الكتاب هو مرثية ذاتية، كما هي قصيدة مالك بن الريب، تقوم على حوار داخلي بأسلوب درويشي مبتكر، يحفل بالمجاز والتناصّ مع شعر درويش نفسه ومع مصادر أخرى كثيرة، ويتناول مسألة الحياة والموت، شغل درويش الشاغل في الفترة الأخيرة من حياته، متّكئا إلى حدّ بعيد على شذرات من السيرة الذاتية، يمتزج فيها الواقع بالمتخيّل، ويغلب عليها السرد القصصي.

ما يهمّنا هنا، في هذه المجموعة، أن درويش يمزج فيها، عامدا، بين الشعر والنثر أيضا. وإذا كان أسماه 'نصّا' فهو في رأينا نصّ شعري، يراوح بين شعر بالوزن التفعيلي وشعر في النثر، أو لنقل من قصيدة النثر. اللغة هي نفس اللغة، في المقاطع الموزونة والمقاطع من النثر، والمراوحة بين الواقعي والتجريدي تجدها هنا وتجدها هناك، فلا يعرف القارئ، إلا إذا كان يتعرّف الإيقاع التفعيلي سماعا، أين ينتهي النصّ النثري وأين يبدأ النصّ الموزون. بل إنّ النصّ، إمعانا في التعمية، ينتقل من النثر إلى الوزن، في خواتم بعض الفصول غالبا وفي ثناياها أحيانا، من أسطر ممتلئة إلى أسطر متفاوتة الطول حينا ، للدلالة ربّما على بداية الوزن التفعيلي، أو إلى أسطر ممتلئة تتخلّلها الخطوط المائلة كما يُكتب الشعر التفعيلي أحيانا . في خاتمة الفصل الأوّل، مثلا، يتحوّل النصّ من شعر في النثر إلى شعر تفعيلي، من المتقارب، دونما إشعار بذلك، رغبة في محو الحدود الفاصلة بين الموزون والنثري :

وأخرجوك من الحقل. أما ظلّك، فلم يتبعك ولم

يخدعك، فقد تسمّر هناك وتحجَّر، ثمّ اخضرّ كنَبتة

سُمسم خضراء في النهار، زرقاء في الليل. ثمّ نما وسما

كصفصافة في النهار خضراء، وفي الليل زرقاءُ/

 

مهما نأيتَ ستدنو/ ومهما قُتلتَ ستحيا / فلا تظننَّ أنك