"بنى تحتية" لشراكة فلسطينية – إسرائيلية جديدة

 

بقلم: ابراهام بورغ*

في الخريف القريب تحل الذكرى العشرون لتوقيع اتفاقات أوسلو. النشوى والامل اللذان رافقا ولادة المسيرة أخليا مكانيهما لسفك الدماء، التهكم، والكثير جداً من اليأس، الغضب، والمخاوف. وصلنا الى المفترق. يمكن أن نواصل هكذا، المزيد من الشر ذاته، على مدى سنوات كثيرة جدا. مزيد من الاهانة والتحقير، مزيد من الثأر والكراهية، انتظار ولادة دوائر من الاشتباه، التعالي، والتجاهل الجديدة، بل أسوأ منها. لقد اعتدنا، ولكن يمكن أيضا أن يكون خلاف ذلك. حتى نتمكن، هذه المرة، من التوجه من المفترق إلى المسار السليم للشعبين يجب العودة الى الوراء، واستيضاح ما الذي تشوش في المحاولة السابقة، بصدق.

من السهل تعليق الذنب على العناصر الخارجية الواضحة للعيان. اغتيال اسحق رابين، القيادة الفلسطينية، ولايات جورج بوش، ارئيل شارون، ايهود باراك، بنيامين نتنياهو، وآثار عمليات البرجين. ولكن الحقيقة توجد أيضا في أماكن اعمق؛ احدها سياسي داخلي، والاخر بعيد يتجاوز السياسي الداخلي.

في الساحة السياسية الداخلية كل واحد منا – الاسرائيليين والفلسطينيين – لم يفعل ما يكفي. فُعل هذا، إذاً، أصلا كي يكبح جماح آليات تدمير السلام البنيوية فينا. فقد وقع الاسرائيليون على اتفاق سلام ولم يوقفوا لحظة مشروع الاحتلال من خلال المستوطنات. ولم تفهم أبدا في اسرائيل الحساسية الفلسطينية تجاه المشروع الاستعماري الكبير للحركة الصهيونية. فقد كان توقع الفلسطينيين ولا يزال أنه مقابل التنازل الأكبر، الذي قدموه عن معظم وطنهم حسب وعيهم له، سيتوقف التآكل والضم الزاحف للقليل المتبقي لهم في الاتفاق. ولم يفهم الفلسطينيون الحساسية الاسرائيلية لمواصلة ثقافة التحريض والعنف التي خرجت من المساجد ووجدت تعبيراً فظيعاً لها في العمليات. الصدام بين المستوطنات والتحريض كان محتماً. وعندما وقع انهار المبنى كله. والنتيجة: "مات أوسلو" منذ سنوات عديدة، وفقط نسوا نعيه للشعوب وللزعامات.

 

القسم الاخر يوجد خلف السياسة الداخلية. فهو يكمن في السياسة النفسية. لا يمكن انهاء نزاع دموي يعود الى مائة سنة فأكثر دون الاعترف بآلام عدو الأمس. وبدلا من الانصات كبتنا وتجاهلنا، كل واحد بطريقته، الصدمات، الجروح، وندوب الآخر. غير أنه أبداً لن يكون ممكناً هجر مسار الصدام المستمر دون احتواء الماضي. نحن، الاسرائيليين، ملزمون بأن نعترف بمسؤوليتنا عن النكبة ونشوء صدمة اللاجئين نتيجة لاقامة دولتنا. أما الفلسطينيون فملزمون بأن يعترفوا بالندوب التي تركها تاريخ العنف، الذي ذروته في الكارثة، في الشعب اليهودي، في روح الفرد والجماعة الاسرائيلية، وان كانوا غير مسؤولين عنها.

لم تولد اتفاقات اوسلو كي تعيش إلى الابد. كانت فقط علة مؤقتة. جاءت لإعادة بناء الواقع: من الاحتلال والسيطرة الى الشراكة بين متساوين. غير أن غياب دولة فلسطينية تجلس الى طاولة المفاوضات، مساويةً لدولة اسرائيل، كان في أساس المسيرة غير المتساوية. الدولة الفلسطينية كانت الجزرة المطلقة التي لم تردها إسرائيل بمخاوفها أبداً، أو في الواقع لا تريد إعطاءها. اما الفلسطينيون فلم يكونوا أبدا مستعدين ليتنازلوا عنها، حقاً.

وفي هذه الاثناء فان الواقع لا ينتظرنا. يجتاح آخرون مكان السياسة السلبية. واقعان جديدان يصطدمان الان. الدولة الفلسطينية أصبحت حقيقة دولية ناجزة. السياسيون الفلسطينيون بتوجههم الى الامم المتحدة أحيوا صيغة الدولتين للشعبين لزمن طويل آخر، بينما بالمقابل تعزز فكرة الدولتين القوى الساعية الى القفز عن مرحلة فصل الجماعتين السكانيتين والانتقال مباشرة إلى دولة واحدة. بعضها قوى ايجابية، تؤمن بأنه يمكن العيش معاً. قوى اخرى من الطرفين، اقوى، سلبية، عنيفة، ومتزمتة، تحلم بدولة واحدة يكون فيها شعب ما سيداً أعلى والاخر تابعاً أدنى. ومن أجل الصعود مرة اخرى الى طريق الحوار، المصالحة، والسلام يجب علينا أن نقف بشجاعة، كل واحد في جماعته السكانية، ضد أولئك الذين يحاولون – في اسرائيل وفي فلسطين – ان يقتلوا داخلنا العطش للسلام بالعنف وبزرع الخوف.

أؤمن أنه حان الوقت لفحص إمكانيات نماذج فكرية جديدة، اخرى، تنقذنا جميعا من الاثمان الرهيبة لجولات اخرى من الاهانات، التعالي، الاحتلال، والعنف.

بمرور عشرين عاما على اتفاقات أوسلو، خمسة وأربعين عاما على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة على ايدي الاسرائيليين، أربعة وستين عاما على قيام دولة اسرائيل وبداية النكبة الفلسطينية، وصلنا الى طريق مسدود ليست فيه حرية للشعب الفلسطيني ولا أمن للإسرائيليين. لم نقترب على الاطلاق من حل عادل ودائم لدولتين للشعبين. كلنا نعيش تحت نظام واحد هو الحكم الاسرائيلي الذي يميز ضد الآخرين. وإضافة الى ذلك، فان الكثيرين منها فقدوا الامل ولم يعودوا قادرين على أن يتصوروا حلاً عادلاً كهذا في المدى المنظور للعيان.

في محاولة لشق طريق جديد لمصالحة تاريخية والتزام سياسي حقيقي بين الشعبين، يجب علينا هجر فكرة الحل الحالي، التي تقوم على أساس الكثير من طبقات الفصل، العزل، والتمييز البنيوي. يجب استبدالها بمبادئ وطرائق مختلفة تماما. وصلنا – الكثير من الرفاق، اسرائيليين وفلسطينيين، بعضنا من هنا وبعضنا من الشتات – الى الاستنتاج بان هذا ممكن وحيوي أيضا. لا تقصد هذه المبادئ اقتراح حلول عملية ومفصلة، بل وضع بنى تحتية اخرى تماما لشراكة اسرائيلية يهودية – فلسطينية نزيهة ودائمة. نقطة منطلقنا يعود أساسها الى الايمان بأن مصير الشعبين مرتبط بعلاقة غير قابلة للانفصال؛ وان اليهود الاسرائيليين والفلسطينيين هم جزء من الشرق الاوسط، ولا يوجد لأي طرف منهما حقوق زائدة أو سيادة حصرية على اي قسم من البلاد التي بين نهر الأردن والبحر المتوسط.

ولهذا الغرض فان:

•كل شخص يسكن (او أنه ذو مكانة مقيم) بين نهر الاردن والبحر المتوسط تضمن له حقوق شخصية، سياسية، اقتصادية واجتماعية متساوية، بما فيها الدفاع والأمن؛ تلقي معاملة متساوية دون أي تمييز بين الجنسين، في العرق، الأصل الاثني، أو المعتقد الديني؛ في حرية الحركة؛ في الملكية وفي حيازة الملك؛ في رفع الدعاوى الى المحاكم؛ في الانتخاب والترشيح.

•الحقوق الجماعية لليهود الاسرائيليين والفلسطينيين، اللغوية، الثقافية، الدينية والسياسية، تضمن في كل اطار سياسي. من المفهوم أنه لن تكون لاي طرف سيادة حصرية على كل المجال الارضي الذي بين نهر الاردن والبحر المتوسط (بما في ذلك الملكية الحصرية على الارض، قدرة الوصول الحصرية الى المقدرات الطبيعية، وما شابه).

•إلغاء كل الحقوق الزائدة الحصرية الممنوحة اليوم لليهود الاسرائيليين وحدهم، بما فيها ملكية الارض، قدرة الوصول الى المقدرات الطبيعية؛ وكل المقدرات – المادية والسياسية – توزع من جديد على اساس مبادئ العدالة في التوزيع.

•الاعتراف بحق العودة للفلسطينيين وارد في قرار الامم المتحدة 194. تطبيق هذا القرار يراعي الواقع القائم عمليا. غياب العدالة الاخلاقية والسياسية في سلب اللاجئين في الماضي لن تُصلح من خلال خلق مظالم غير عادلة جديدة.

•المؤسسات السياسية الجديدة تسن قوانين هجرة ديمقراطية لترتيب المواطنة. ومع ذلك، فاليهود والفلسطينيون الذين يعيشون في الشتات سيحظون بالحصول على حصانة في أوضاع الخطر (حسب قرارات الامم المتحدة). ستكون لهم مكانة خاصة في عملية التوطن، بالمقارنة مع كل مجموعة اثنية أو عرقية اخرى.

مثل الكثيرين أؤمن من كل قلبي بان الاعتراف المتبادل الذي يقوم على أساس هذه المبادئ يمكنه أن يدفع إلى الامام واقعاً سياسياً بديلاً تصبح فيه ذكريات المنفى واللجوء تطبيقاً عاماً للحقوق، المواطنة، والانتماء. يتحول الثكل إلى حياة واليأس الى أمل.

  هآرتس

*رئيس الكنيست الاسبق.