جاء ... بلا خارطة طريق

 

بقلم: ناحوم برنياع

لم يأت الرئيس الى مباني الأمة بخطة سياسية ولا بخارطة طريق ايضا تمهّد لصوغ خطة كتلك. بل جاء ليهديء النفوس وليقنع وليأسر.

قال في بساطة عندكم دولة قوية وزاهرة تستطيع ان تعتمد على حلفها مع أقوى دول العالم. والتكاليف المقرونة بانشاء دولة فلسطينية قليلة الشأن اذا قيست بالفائدة التي سينتجها لكم انهاء الاحتلال. هذه هي الصفقة فخذوها ما دامت ممكنة.

غمر الرؤساء الأميركيون اسرائيل طوال السنين بكلام الحب وأسمعوا بين الفينة والاخرى ايضا كلام انتقاد. بل كان عندنا حتى خطبة عاطفية في جمهور كبير من الشباب الاسرائيليين، فقد جاء الرئيس كلينتون الى اسرائيل في ذروة الموجة الارهابية في 1996 وسافر الى تل ابيب وخطب هناك. وكانت غايته مساعدة بيرس في الانتخابات ونجحت الخطبة وفشلت الغاية.

وكان الكثير من الخطب، وبرغم ذلك كانت خطبة اوباما وحيدة متميزة. فقد كان فيها تأليف جيد بين غلاف تاريخي واسع وتصور عام اخلاقي وتجارب شعورية من الميدان ومعلومات وشعور وحرارة ونقد مُركز. وكان الثناء ثناء مُحب، وكانت الجروح جروح عاشق. كان اسرائيليون كثيرون الى أن كانت الزيارة الحالية ينسبون الى اوباما تصورات تُعادي اسرائيل. وكانت الاتهامات داحضة وبرغم ذلك وجدت لها مكانا في جزء من الرأي العام.

وانتهى ذلك الامر، فلم يعد اوباما كارها لاسرائيل. وهو في نظر الاسرائيليين الذين صعب عليهم ان يوافقوا على شيء من كلامه، صديق لكنه ساذج.

بذل اوباما في الخطبة كل قدرته على الخطابة. وقدرته في هذا المجال عظيمة، فقد سُمع ودودا حينما أراد ان يُسمع كذلك ومتحمسا حينما أراد أن يُسمع كذلك، ومتعمقا حينما أراد ان يُسمع كذلك، ومسليا حينما أراد ان يُسمع كذلك. إن كل رئيس أميركي يجعل هدفه أن يأسر قلوب سامعيه وعقولهم وأسر اوباما الجمهور على نحو عاصف.

وعبّر الفصل الفلسطيني في الخطبة تعبيرا جيدا عما يشعر به يهود أميركيون ليبراليون بالنسبة لاستمرار البقاء الاسرائيلي في المناطق. وكان فيه قلق عميق على قيم اسرائيل الاخلاقية وتراثها وقدرتها على حفظ مكانتها دولة يهوديةً وديمقراطية. وكان هناك انتقاد مخصص على استمرار البناء في المستوطنات والتقصيرات في فرض القانون على الارهابيين اليهود. وهذه هي مشاعر اليسار الصهيوني في اسرائيل ايضا وهي مشاعر يجسدها نهج ميرتس السياسي. فتستطيع رئيسة ميرتس زهافا غلئون ان تبارك حظها الطيب لأن اوباما لا ينوي الهجرة الى اسرائيل، فقد كان يمكنه ان يكون منافسا قويا لها.

لكن اذا كانت حلقات من اليسار الاسرائيلي ايضا تأمل ضغطا اميركيا يفرض على حكومة اسرائيل حلا كالذي يشاؤونه فانهم لا يأملون الشخص الصحيح. كان يمكن ان نتوقع أن يُنهي اوباما الفصل الفلسطيني من خطبته باعلان انه يفوض وزير خارجيته الجديد جون كيري ليحقق الآمال التي عبر عنها في خطبته. ولم يصدر اعلان كهذا. سيبدأ كيري في الحقيقة العمل في الاسبوع القادم في تجديد التفاوض لكنه سيفعل ذلك من غير حفز من الرئيس.

اختار اوباما بدل ذلك ان يدعو الشباب الذين دُعوا الى مباني الأمة الى التمرد على الجهاز السياسي فقال: "لن يفعل الساسة ذلك اذا لم تحثوهم". وقال كلاما مشابها لطلبة الجامعات المصريين قبل اربع سنوات في جامعة القاهرة وفي تلك الخطبة بذر اوباما الريح وحصد العاصفة.

 

إن اسرائيل بالطبع مبنية بصورة مختلفة ومن اجل ذلك بالذات يصعب التحمس لتوجه اوباما الى الشارع من فوق رؤوس مؤسسات الدولة الديمقراطية. إنه صديق كبير لكنه في نهاية الامر زعيم اجنبي. وانتقاده لحكومات اسرائيل صحيح ومشروع ومحاولته ان يُحدث حركة شعبية تقاوم السياسة الحاكمة أقل شرعية ومحكوم عليها بالفشل.

إن الموعظة أمر مهم ولا سيما حينما تكون حقاً لكنها حينما تأتي على لسان رئيس الولايات المتحدة لا يمكن ان تبقى بمنزلة موعظة فقط. فيجوز لنا أن نُخمن ان خطبة اوباما لن تبدأ فصلا جديدا في السياسة الأميركية بشأن الصراع بل بالعكس لقد أنهت فصلا. ويعود اوباما اليوم الى الولايات المتحدة ومشكلاتها الداخلية والخارجية. وتركنا مع خطبة رائعة ومع نفس الجمود الذي كان هنا قبل ان يأتي.