محمود درويش قصيدة الحبّ والنداء الملحميّ

بقلم: صبحي حديدي

في سنة 1999 صدرت مجموعة محمود درويش 'سرير الغريبة'، المكرّسة بأكملها لموضوعة قصيدة الحبّ، والمنتمية بقوّة إلى مرحلة التفات درويش إلى شؤون نفسه كشاعر وإنسان، وإلى شؤون الفلسطيني بعد أن غادر مرحلة 'البطولة'، أياً كانت مضامينها الفعلية أو المجازية، الملموسة أو الرمزية، الواقعية أو المتخيَّلة، المحلية أو العربية أو الكونية... وانتقل، ببساطة، إلى مرحلة اليوميّ والعاديّ، في ظلّ الاحتلال والمؤسسة الوطنية، سواء بسواء.
ولقد كان طبيعياً أن تثير تلك المجموعة سلسلة من الأسئلة، الطارئة أو القديمة المتجددة، في ضوء مغزى استقرار درويش على قصيدة الحبّ، في ذلكالطور من تجربته الشعرية المحتدمة بالتجدّد الدائب.فهل كان من حقّ دريش (وهو 'شاعر المقاومة' و'شاعر القضية' و'ضمير فلسطين' و'مجنون التراب' و'عاشق الأرض' كما تقول العناوين الكبرى التي دأب النقد العربي على تمثيله فيها واختزاله إليها، وحدها، حصراً في معظم الأحيان)، أن يصدر مجموعة شعرية مكرّسة، بأسرها، لقصيدة الحبّ؟ هكذا... قصيدة عشق طليقة، منسرحة، متخففة إلا من أثقال القلب، لا تنتصب فيها بندقية بين ريتا وعيونه(1)، ولا يكون فيها عاشقاً لحبيبة واحدة وحيدة هي الأرض؟ وهل يطيق رويش قول الكلمة الطبيعية: 'أحبّكِ'، دون أن يردف بعدها مباشرة:

على الماء وجهكِ،
ظلّ المساء
يخاصم ظلّي
وتمنعني من محاذاة هذا المساء
نوافذ أهلي.
متى يذبل الورد في الذاكرة؟
متى يفرح الغرباء؟
لكي أصف اللحظة العائمة
على الماء ــ
أسطورة أو سماء..(2)

إجابة أولى طبيعية يمكن أن تقول: نعم! باردة جازمة مطلقة، دونما وقبل الحاجة إلى تأتأة أو أدلجة أو تفلسف حول حقوق وواجبات هذه الـ'نعم'. فمن البديهي أن يعشق درويش كما يعشق أبناء آدم وحوّاء، وأن يكتب قصيدة حبّ خالصة لامرأة من بنات آدم وحوّاء، وأن تكون حبيبته هذه من لحم ودمّ وليست مجازاً عن فلسطين أو الأرض أو القضية. بيد أن هذه الـ'نعم' الطبيعية ليست بسيطة أو قابلة لنوع من التبسيط الذي يقترن عادة بتثبيت بداهة جليّة، يسهل التسليم بها لأنها في الأساس مشبَعة بمنطقها الطبيعي الخاصّ الذي لا يحتاج إلى مرجعية منطقية.
المسألة، في الواقع، أكثر تعقيداً من هذا التمرين الأوّلي في إحكام البداهة حول حقوق شاعر يحظى بالكثير من الإجماع على البداهة. ذلك لأنّها لاتدور حول الموقف من هذا 'الغرض' الشعري مقابل ذاك، أو حول واجب الشاعر هنا وحقّه هناك، بل حول الغرض بوصفه انتقاصاً من 'واجب' الشاعر إذا صحّت العبارة، وحول 'حقّالجماهير في المطالبة بالأغراض الأثيرة لديها، وربما واجبها (!) في الدفاع عن موقع فريد منحته لدرويش، وشغله ويشغله في الوجدان العربي العريض. إنه صوت فلسطين (فردوس العرب الضائع)، وعاشق أرضها (المقدّسة، وطنياً ودينياً)، والمقاوِم الفلسطيني(بوصفه نقيض المهزوم العربي)، والرمز المتحرّك أنّى كان وأنّى يكون (في يافا، في القاهرة، في بيروت، في باريس، أو في رام الله). وإنه قيثارة فلسطين التي تداوي حتى حين تجرح، وتشجي حتى حين تدمي، وتشحذ قوّة الروح حتى حين تقف على اندحار الروح، وتبدو واضحة حتى حين تَغْمُض، ومتفائلة حتى حين تتشاءم، ورامزة إلى الجماعة حتى حين تصرّح عن الفرد...
بيد أنّ درويش هو الشاعر في ذلك كلّه: المعلّم، الماهر، المحبوب، المنتظَر، المعشوق... وهو، في الآن ذاته، الشاعر الممنوع من أن يكون شاعراً أوّلاً، الشاعر tout court كما يعبّر الفرنسيون، الذي قد يحلو له أن يغادر أدوار 'شاعر المقاومة' و'شاعر القضية' و'ضمير فلسطين' و'مجنون التراب' و'عاشق الأرض' لهذا السبب الذاتي أو لذاك السبب الموضوعي، أو'لحصيلة معقدة من الأسباب التي ليست بالذاتية ولا بالموضوعية، أو دونما أسباب على الإطلاق. إنه شاعر كبير معلّم، ولكنه كان ملزَماً بأن يكون أكثر بكثير من شاعر كبير معلّم. إنه، من جانب أوّل، الشاعر الذي رأى ونبّه وجمع ووحّد (حين كان آخرون في صمت، أو خدر، أو فُرقة)؛ وهو، من جانب ثانٍ، الشاعر الذي كتب قصيدة تحفظ كرامة الشعر (في مقابل نكوص معظم الشعر، واعتلال علاقته بالناس). إنه،'ببساطة، ذاك الذي كان ممنوعاً من الإنفكاك عن نفوذه المعنوي (الأدبي والسياسي والجمالي)، وممنوعاً من الإعتذار عن ممارسة هذا النفوذ أيضاً!
ومرّة أخرى نتذكّر أنّ نفوذ هذا الموقع الفريد هو من طينة ذلك النفوذ الخاص الذي تمتّع به كبار الشعراء في الأطوار السحيقة من ازدهار الشعر، حين كان الشاعر أشبه بنبيّ الأمّة، والناطق المعبّر عن كيانها، وعرّافها الذي يستبصر أقدارها الماضية والحاضرة، وتلك'الكامنة في مجهول لا يرى معلومه سواه، في السموّ والإنتصار كما في الإنكسار والهزيمة. وفي ثقافات الأمم تكررت على الدوام تلك البرهة الاستثنائية التي تُلقى فيها على عاتق شاعر واحد مهمّة رؤيوية كبرى مثل التقاط الوجدان الجَمْعي للأمّة، وتحويل الشعر إلى قوّة وطنية وثقافية، روحية ومادية، جمالية ومعرفية.
ولقد توفّرت لدرويش أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لبلوغ هذا الموقع، وحدث أحياناً أنّ التفاعل بين هذين النوعين من الأسباب كان في صالح مشروعهالشعري، كما حدث في أحيان أخرى أنّ ضغط الشروط الموضوعية ألزم الشاعر بدفع برنامجه الجمالي إلى الصفّ الثاني، والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصفّ الأوْل. ولكنه في الحالتين أثبت حساسية فائقة (وعناداً استحقّ التصفيق الحارّ، والتضامن!) تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، خصوصاً في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية حين استقرّت كثيراً معادلاتٌ أشدّ هدوءاً للعلاقة التبادلية بين تطوير جمالياته الشعرية وتطوّر نفوذه الأخلاقي والثقافي في الوجدان العربي.
ومنذ الأشهر الأولى بعد خروجه من الأرض المحتلة إلى العالم العربي، حين أخذت سلطته الأدبية تتعاظم وتترسخ، تنبّه درويش إلى إشكالية موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمّة، وأدرك أن سبيله الأفضل للسير في هذه العلاقة الوعرة مع جمهوره ليس أيّ خيار آخر سوى الإنشقاق عنأعراف العلاقة ذاتها كلما توجّب الأمر، بل ومغادرة أرضها كلما ضاقت وضيّقت فضاء مشروعه الشعري. وكان ذلك يقتضي، أوّلاً، تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر، وأن لا تنقلب العلاقة إلى تعاقد سكوني نصف إيديولوجي/ نصف شعبوي، بين الشاعر الذي تمّت ترقيته إلى مصاف الرائد الرائي، والوجدان الجمعي الذي أسلم للشاعر قسطاً كبيراً من الحقّ في تكييف الميول وردود الأفعال.
ولم تكن تلك 'الحرب' الصامتة سهلة أبداً!
وكما هو معروف، حدث مراراً أن الجمهور كان يطالب درويش بقراءة قصيدة 'بطاقة هوية'(3)، التي كتبها داخل الأرض المحتلة وظلت طيلة عقد كامل أشبه بالتعويذة السحرية التي تشعل الحماس والفخار الوطني. ولكنه بدل الاستجابة إلى هذا الإلحاح (الذي يظلّ شرعياً في الواقع)، كان درويش يتعمد قراءة قصائده الجديدة، التي كانت تبدو للوهلة الأولى مستجدة على صورة الشاعر النبيّ، وصادمة بمعنى غرابتها عن صورته في أذهان جمهوره. وكانت في معظم الأحيان تلوح صعبة على الذائقة الراهنة، لأنّ قارىء درويش كان مدمناً على النصّ الدرويشي الذي بين يديه، مؤمناً به ومستمتعاً وسعيداً، إلى درجة الخشية من الانتقال إلى سواه من النصوص الجديدة. والمفارقة أنّ درويش (إلى جانب موهبته الرفيعة، وطاقته الهائلة على التجدّد، وذكاء إدراكه لطبيعة دوره في المشهد الشعري العربي، وحيوية ممارسته لهذا الدور، وعناده الشخصي، وإصراره على تطوير برنامجه الجمالي...)، حظيبمساعدة كريمة من القارىء ذاته، لسبب مدهش هو أنّ ذلك القارىء كان في الآن ذاته رفيع الاستجابة، متأهبّاً على حذر، لا يتردد طويلاً قبل أن ينخرط في الطور الجديد من مسار درويش الشعري.
ولقد تبدّى هذا الوضع في القصائد الملحمية الطويلة بصفة خاصة، حيث كانت هذه تكتسب بُعداً أيقونياً يسري على القصيدة التي بين يديّ القارىء،والقصيدة (ذاتها) وهي تمهّد لخيارات شعرية قادمة، تبشّر بها قصيدة جديدة. فعلى سبيل المثال، اكتسبت قصيدة 'سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا' (1972) وظيفتها الأيقونية في شخص سرحان بشارة سرحان قاتل روبرت كنيدي، واستقرّت هكذا في الذائقة. وحين كتب درويش قصيدة 'أحمد الزعتر' (1977)، ظلّت هذه تتماهى في وعي القارىء مع 'سرحان...'، قبل أن تكتسب وظيفتها بدورها، وتتحوّل إلى أيقونة بالنسبة إلى 'مديح الظل العالي' (1983)، وهذه بالنسبة إلى 'قصيدة بيروت' (1983)، وهكذا... وصولاً إلى 'أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي' (1992)، التي استكملت فصلاً جديداً ودراماتيكياً في مسار الشاعر النبي لأنها ـ ببساطة صاعقة ـ تنبأت بالمنعطف الأخطر ربما في التاريخ الفلسطيني المعاصر، أي اتفاقية أوسلو.
القصائد الأخرى، حيث لا تضغط البرهة الوطنية على البرهة الجمالية في مشروع الشاعر، توفّرت على الدوام، وأكثر بكثير من القصائد الأيقونية: 'مزامير' و'تقاسيم على الماء' (1972)، معظم قصائد مجموعة 'محاولة رقم 7'(1973)، 'تلك صورتها وهذا انتحار العاشق'(1975)، 'كان ما سوفيكون'، 'قصيدة الأرض'(1977)، 'سنة أخرى... فقط' (1983)... بعد ذلك أخذت المجموعات المستقلّة تلعب الأدوار التي كانت تلعبها القصائد المستقلّة في تطوير البرنامج الجمالي، عبر نقلات نوعيّة أسلوبية وموضوعاتية بين مجموعة وأخرى هذه المرّة، وليس عبر تغليب البرنامج الجمالي بين قصيدة أيقونية وسواها من القصائد. هكذا كان حال مجموعات 'هي أغنية، هي أغنية'(1986)، 'ورد أقلّ'(1986)، 'أرى ما أريد'(1990)، 'أحد عشر كوكباً'، و'لماذا تركت الحصان وحيداً' (1995). وهذه الأخيرة دشّنت طوراً جديداً تماماً في مشروع درويش الشعري، لأنه هذه المرّة كرّس مجموعة بأسرها لموضوع محوري واحد هو كتابة السيرة، ولأنه أعطى فسحة سخيّة تماماً (لعلّها غير مسبوقة في شعرهلصعود الـ 'أنا'، 'أنا' الفرد الشاعر في فسيفساء علاقتها بالذات والتاريخ والمكان والزمان، ووقوفها على قدم المساواة مع ــ أو تفوّقها أحياناً على ــ التمثيل الإنساني والوطني للذات الجَمْعية.
كان من حقّه أن يفعل.
وكان قد آن له أن يفعل!

II
روى الأصفهاني، صاحب 'الأغاني'، الحكاية التالية: 'قلت لرجل من بني عامر: أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئاً؟ قال: أوقَدْ فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين! إنهم لكثير! فقلت: ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق. فقال: هيهات! بنو عامر أغلظ أكباداً من ذلك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها... فأمّا نزار فلا'!
الفلسطينيون ليسوا أغلظ أكباداً بالطبع، ودرويش'لم يكن كذلك حتماً. لكن قصائد الحبّ في 'سرير الغريبة'(4) ليست من النوع الذي يتبادر سريعاً إلى الذهن عند الحديث عن قصيدة 'غزل' أو 'نسيب' أو 'تشبيب' أو 'حبّ'، ولا صلة تجمعها بتراث شعري عربيّ اختصر قدامة بن جعفر صفاته هكذا: 'ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقّة أكثر مما يكون من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلّة أكثر مما يكون فيه من الإباء والعزّ، وأن يكون جماع الأمر فيه ما ضادّ التحافظ والعزيمة، ووافق الإنحلال والرخاوة'. ليس في قصائد 'سرير الغريبة' صبابة أو وجد أو لوعة أو خشوع أو انحلال أو رخاوة، ولكن ليس فيها عكس هذه الصفات أيضاً: خشونة أو جلادة أو إباء أو عزّ أو تحافظ أو عزيمة. ولعلّ من الإنصاف القول إنّ معظم قصائد الحبّ التي كتبها درويش كانت مختلفة دائماً، ليس فقط لأنّ جمالياته ظلّت تواصل حال الاختلاف والتبدّل (وهذا هو السبب الفنّي والجوهري)؛ بل أيضاً لأنّ موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمّة ظلّ يمارس ضغوطات هائلة على أيّ وجميع القصائد التي لم تنضوِ مباشرة في الموضوعات الوطنية (وهذا هو السبب السوسيولوجي).
وباستثناء حفنة من قصائد الحب في مجموعة 'عاشق من فلسطين' (1966)، حيث الحبيبة 'فلسطينية العينين والوشمِفلسطينية الإسمِ/ فلسطينية الأحلام والهمّ/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسمِفلسطينية الكلمات والصمتِ/ فلسطينية الصوتِ/ فلسطينية الميلاد والموتِ'، فإنّ القصائد سارت عكس أعراف الغزل العربي، فكان السبق فيها لوطأة التاريخ قبل وطأة الوجدان، وكان فيها من النفي والغربة والغرباء أكثر مما فيها من الاستيطان والفَيءِ واللقاء. وليس بغير دلالة خاصّة أنّ درويش افتتح مجموعته الثانية 'أوراق الزيتون' (1964)، وهي الأولى في ترتيب أعماله الشعرية الكاملة لأنه حذف مجموعة 'عصافير بلا أجنحة' الصادرة في عكا سنة 1960، باعتذار من القارىء يقول: 'بايعتُ أحزاني../ وصافحت التشرّد والسغب/ غضب يدي../ غضب فمي../ ودماء أوردتي عصير من غضب!/ يا قارئي!/ لا ترجُ منّي الهمس!/ لا ترجُ الطرب'. كذلك فإنّ أولى قصائد درويش في موضوعة 'الغزل'، وهي التي يبدو فيها متأثّراً بالشاعر الراحل نزار قبّاني، قصيدة بعنوان 'الموعد الأوّل'، تصف موعداً غرامياً لم يكتمل! ومبكّراً منذ هذه المجموعة،وتحديداً في القصيدة التي تحمل اسم 'أجمل حبّ' وتبدأ بالسطور الشهيرة: 'كما ينبت العشب بين مفاصل صخره/ وُجدنا غريبين يوماً...'؛ تطلّ موضوعة الغريب والغريبة، وسوف تهيمن على تسعة أعشار قصائد الحبّ في نتاج درويش اللاحق.
آنذاك كانت قصيدة الحبّ تتطوّر ضمن المنطق الداخلي العريض لتطوّر مشروع'درويش الشعري، وكانت تساهم في صناعة الخصائص العريضة التي ستميّز شعره عن أقرانه (سميح القاسم، توفيق زيّاد، سالم جبران) صانعي 'شعر المقاومة': غزارة إنتاجه (أصدر في الداخل الفلسطيني خمس مجموعاتشعرية بين 1960 و1971)، والأفق الإنساني الأرحب لموضوعات قصائده، وحُسْن توظيفه للأسطورة والرموز الحضارية، وبراعته في أسطَرة الحدث اليومي والإرتقاء به إلى مستوى ملحمي في الآن ذاته، ورهافة ترميزه للمرأة بالأرض، ومزجه بين الرومانسية الغنائية والتبشير الثوري، وسلاسة خياراته الموسيقية والإيقاعية، وحرارة قاموسه اللغوي، وميله إجمالاً إلى الصورة الحسية بدل الذهنية.
آنذاك أيضاً كانت قصيدة الحبّ أكثر من مجرّد 'غرض' شعري، لأنها في الواقع حملت عبء تمثيل الجانب الذاتيّ شبه الوحيد من المحتوى الإنساني لفعل المقاومة. وأمّا بعد خروج درويش من الأرض المحتلة فقد واصلت قصيدة الحبّ أداء هذا الدور التمثيلي، ولكنها من جانب ثانٍ وفّرت للشاعرهامشاً ثميناً لممارسة نوع آخر من المقاومة: المقاومة الجمالية في حروب الشدّ والجذب بينه وبين قارئه، بحيث تحوّلت قصيدة الحب إلى أوالية دفاع عن البرنامج الجمالي بين قصيدة أيقونية وأخرى. وليس بغير دلالة هامّة، هنا أيضاً، أنّ اسم أوّل مجموعة شعرية كتبها درويش خارج الأرض المحتلة كان 'أحبّك، أو لا أحبّك' (1972)، وأنّ هذه العبارة تفتتح قصيدة 'مزامير'، وهي أوّل (وظلّت، عملياً: آخِر!) قصيدة جرّب فيها درويش المراوحة بين التفعيلة وقصيدة النثر، وأنّ القصيدة الأيقونية 'سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا' هي التي تختتم المجموعة.
هذه الأوالية الدفاعية تشمل عشرات قصائد الحبّ التي كتبها درويش بعدئذ: 'كأنّي أحبك'، 'النهر غريب وأنت حبيبي'، 'بين حلمي وبين اسمه كان موتي بطيئاً'، 'موت آخر.. وأحبك' (من مجموعة 'محاولة رقم 7')؛ مروراً بالقصيدة الطويلة 'تلك صورتها وهذا انتحار العاشق' (1975)؛ وانتهاء بقصيدة 'هيلين، يا له من مطر' في مجموعة 'لماذا تركتَ الحصان وحيداً'، التي خرجت عن عادات درويش الشعرية في أنّ قصائدها كُرّست لموضوعة واحدة هيكتابة السيرة. و'سرير الغريبة' كانت المناسبة الثانية لخروج درويش عن عاداته، في أنّ قصائدها تناولت موضوعة واحدة هي قصيدة الحب.
لماذا هذا 'الغرض' الشعر