في وطنيّة الثقافة الفلسطينيّة

 

بقلم: فيصل دراج

 

ما الفرق بين مصطلحَي: "الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة،" و"ثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة"؟
قد يبدو التمييزُ مصطنعًا. غير أنّ الرجوعَ إلى تاريخ المأساة الفلسطينيّة المديدة، التي احتشدت فيها بطولاتٌ وإخفاقاتٌ ومجازرُ، يفرض مبدأ الاختلاف مبتدأً لكلّ حديثٍ عن الفلسطينيين وثقافتهم.

يوحي مصطلح "الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة" بثقافة شعبٍ لا يختلف عن غيره: له وطنٌ واضحٌ كما للشعوب الأخرى أوطانُها. لكنّ الوطن الواضح، المحدَّدَ الحدودِ، هو ما حُرم منه الفلسطينيّون منذ عام 1948 وأُبعدوا إلى المنافي. وهذه المنافي هي التي أعادت تفسيرَ معنى الوطن، وأعطت الفلسطينيَّ صفاتٍ تميّزه من غيره.

الوطن هو الموقع الواضح المحدّد، الذي يخرج منه الإنسانُ ويعود إليه حين يشاء، ويؤمّن له كرامةً معقولة. بيد أنّ الفلسطينيّين لا يمتلكون شيئًا من هذا ـ لا الذين تحكّم بهم المنفى ولا الذين بقوا في أرضهم. ما يمتلكونه هو "المسألة الفلسطينيّة،" من حيث هي قضيّة وطنيّة إنسانيّة يبحثون عن حلٍّ لها منذ مائة عام، ويمنعهم غيرُهم من ذلك الحلّ منذ مائة عام أيضًا. يبدو "الوطن الفلسطينيّ" وطنًا كان أو سيكون؛ ففلسطين راهنًا ليست وطنًا للفلسطينيين بل لغيرهم. ولهذا تبدأ ثقافةُ الفلسطينيين من ضياع الوطن، تبدأ من الذاكرة، بقدْرِ ما تبدأ من كفاحٍ قديمٍ ـ جديدٍ يدور حول أرضٍ ما زالت مغتصَبة.

تتعرّف الثقافة الفلسطينيّة بتاريخٍ كفاحيّ متراكم، قوامُه استعادةُ الوطن الذي كان، والبرهنةُ على أنّ "ما كان" قابلٌ للاسترداد. ومع أنّ التعريف يمرّ على "الأرض التي أورق فيها الحجر،" كما قال محمود درويش الشابّ، فإنّه يبدأ من "القضيّة" قبل أن يشير إلى المكان المشتهى؛ ذلك أنّ معنى الوطن من معنى الإنسان الذي يدافع عنه، وأنّ القضايا الكبيرة جميعَها تبدأ من الإنسان، لا من الأرض أو الحجر.

يحيل مصطلح "الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة،" إذنْ، على وطنٍ متحقّقٍ في شروطه، لا يختلف عن وضع أوطانٍ أخرى. أما مصطلح "ثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة" فيتعامل مع "مشروع الوطن الآتي،" مؤكّدًا ذلك الاختلاف. وعن هذا الاختلاف صدرتْ تعابيرُ مثل "الوجع الفلسطينيّ، الغضب الفلسطينيّ، اليتم الفلسطينيّ،..." وكلّ ما يضع "اللاجئَ" بين البشر وخارجهم في آن. يأخذ الفلسطينيُّ، من حيث هو إنسان تصوغه المعاناةُ، موقعَ الأولويّة، كما لو كانت فلسطينُ السليبة قائمةً في معيشه قبل أن تكون قائمةً في موقعها التاريخيّ. يتعرّف الفلسطينيّ، والحالُ هذه، بمرجعيْن مترابطيْن: المعيش اليوميّ القلق المغترب الذي يكشف للفلسطينيّ حرمانَه ممّا يتقاسمه البشرُ جميعًا، والممارسة العمليّة التي تردّ على النقص والاغتراب بفعلٍ كفاحيّ متعدّد الأشكال. هكذا يتساوى الفلسطينيُّ بفعله الكفاحيّ من أجل فلسطين محتملة، وبالقيم التي ينتجها وهو ذاهبٌ من مسارٍ إلى آخر.
***
تستدعي هذه المقدّمات التعريفَ المدرسيَّ للإنسان الفلسطينيّ، والثقافة الفلسطينيّة. ففي حدود هذا التعريف يكون الفلسطينيُّ إنسانًا ينتمي إلى جغرافيا فلسطين وتاريخها وثقافتها ولغتها، وإلى دين أهلها إنْ كان ذلك ضروريًّا، وتغدو الثقافة انتماءً تاريخيًّا عربيًّا و"إسلاميًّا." بيْد أنّ هذين التعريفيْن، على صحّةِ ما يقولان به، يخترقهما خللٌ واسعٌ بسبب منظورٍ سكونيّ يساوي شكلانيًّا بين "فلسطين" وبقيّة البلدان العربيّة. وهذا الخلل يُفصح عن غياب مفاهيم أربعة: 1) أنّ فلسطين قضيّة وطنيّة مؤجّلة الحلّ قبل أن تكون اسمًا يربط بين تاريخٍ ومكان؛ 2) وأنّ معناها نابعٌ من الكفاح الذي يبذله الفلسطينيّون من أجل استعادتها؛ 3) وأنّ هذا الكفاح تحرّريٌّ في الشكل والمضمون؛ 4) وأنّ التحرّر حركة تُعيد صياغةَ الفلسطينيّ وتصوّراته، وتنقله من "وعي معطًى" إلى وعيٍ لا يكفّ عن مساءلة ذاته.

تفضي مفاهيمُ القضيّة والكفاح والتحرّر والوعي المتجدّد إلى "وطنيّة الثقافة الفلسطينيّة" التي تستبعد "الفلسطينيّ" في تعريفه المدرسيّ، الذي هو فلسطينيّ بحكم العادة والنسب، لتحاورَ نسقًا من القيم الإنسانيّة المتحرّرة مشتقًّاً من المأساة والاغتراب والردّ عليهما.
***
والآن، ما هي حدود الاتّصال والانفصال بين الثقافة والوطنيّة؟ وما علاقة الطرفين بتلك الجغرافيا ـ الفكرة التي تُدعى فلسطين؟ وهل تمثّل الثقافة والوطنيّة في الشرط الفلسطينيّ عنصرين يتمتّعان باستقلال ذاتيّ نسبيّ، أمْ أنّهما يميلان في التحديد الأخير إلى التطابق والتماهي؟

يتضمّن السؤال إجابته؛ ذلك أنّ "ثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة" تستلزم التضامنَ والتضحيةَ وكلَّ ما ينقض الوجودَ المشوّهَ بمشروعٍ يعيد إلى الفلسطينيّ إنسانيّته ويمدّه بتأهيلٍ كفاحيٍّ يقصِّر المسافةَ بين المنفى والوطن. يأمر الاختلافُ الفلسطينيُّ بتراجع التصوّر التقليديّ الذي يختصر الثقافةَ إلى أجناس الكتابة المتنوّعة، ويختزل المثقّفَ إلى مثقفٍ ـ مرتبةٍ يُحْسن تلك الأجناس. تساوي "وطنيّةُ الثقافة الفلسطينيّة" بين جميع الفلسطينيين الملتزمين بالدفاع عن حقّهم، أكانوا بسطاءَ أقربَ إلى الأمِّيّة أمْ أكاديميين يتقنون أكثرَ من لغة. إنها ليست إلاّ الأشكال العمليّة التي واجه بها الفلسطينيّون الخطرَ الصهيونيّ وأسئلةَ المنفى وأكثر من ستّين عامًا من تجارب الخطأ والصواب التي فرضها كفاحُهم الوطنيّ. يضع معيارُ الممارسات العمليّة، التي تترجم نسقًا من القيم، الثقافةَ الفلسطينيّةَ تحت ضوءٍ جديد، بحيث يمكن القولُ الآتي: إنّ "وطنيّة الثقافة الفلسطينيّة" صدرتْ عن جملة الوقائع العمليّة والنظريّة التي واجه بها الفلسطينيّون المشروعَ الصهيونيّ، تستوي في ذلك معاركُ الفلاّحين عام 1936 ـ 1939، والصحافةُ المعاديةُ للصهيونيّة التي أسّسها نجيب نصّار عام 1909، والمدرسةُ الوطنيّةُ التي دعا إليها خليل السكاكيني قبل وعد بلفور وبعده، وقصائدُ عبد الرحيم محمود الذي استُشهد وهو يدافع عن قريته عام 1948، ورسومُ ناجي العلي الفنّان الذي لا يساوم، وبطولةُ البقاء التي مارسها فلسطينيّو المخيّمات ولا يزالون...

إنْ كانت الممارسة معيارًا للحقيقة، فإنّ حقيقة "وطنيّة الثقافيّة الفلسطينيّة" تأتي من الممارسات المتّسقة التي أنجزها فلسطينيّون حاولوا التحرّرَ، ولا يزالون، بعيدًا عن معايير المراتب والمنافع والحسبان الذاتيّ. يوحّد معيارُ الممارسة العمليّة، المرتبطُ بقضيّةٍ جماعيّةٍ صحيحةٍ لا علاقة لها بالحسبان الفرديّ، بين متظاهرٍ جريحٍ في هبّة البُراق عام 1928، وفلاّحٍ سقط على أطراف قريته، وشاعرٍ ساوى بين القول وممارسته، و"أمّ سعد" المرأةِ الفقيرة الأُمِّيَّة التي أدركت الفرقَ بين الكرامة المقاتلة والركون إلى الهوان. يتكشّف في هذا التصوّر فقرُ المعيار التقليديّ الذي يربط الثقافة بأجناس الكتابة ويقع في الخطأ مرّتين: مرّةً أولى وهو ينسى "الفلسطينيَّ المجهولَ" الذي صنع ثورةَ 1936 وانتفاضةَ 1987 وغيرَهم من المناضلين، ومرّةً ثانيةً حين يعتبر "المبدعَ" إنسانًا نوعيًّا يختلف عن غيره من البشر. وعلى هذا فلا تحرّر إلاّ بالاعتراف بالمساواة بين جميع المقاتلين بأشكالهم المختلفة؛ ولا مساواة إلاّ بالاعتراف بالقيم الكفاحيّة التي تتجاوز الأشخاصَ في مراتبهم المختلفة.

تربط القيمُ الإنسانيّة والوطنيّة، وهي مبادئ ثابتة لا تحتاج إلى الكثير من الاجتهاد، بين الماضي والحاضر الثقافيين الفلسطينيين، وتعْهد إلى الجديد المنجز بقراءة الماضي من وجهة نظر وطنيّة تنطلق من محصّلة عمليّة طويلة تُدعى "أخلاق التحرّر" جمعتْ، وتجمع، بين قيمة الإنسان ودلالة الوطن.

بكلمات أخرى، تسمح أخلاقُ التحرّر بقراءةٍ جديدةٍ لممارساتٍ وطنيّةٍ ـ ثقافيّةٍ متواترة: وعي الفلاّحين العفويّ وهم يحرقون المستعمراتِ الصهيونيّةَ الأولى في ثمانينيّات القرن التاسع عشر، ومظاهرات النساء الفلسطينيّات ضدّ الانتداب الإنجليزيّ، وانتفاضة حيفا عام 1908، واستعادة أطياف الشهيدين محمّد جمجوم وفؤاد حجازي (1930)، وبطولة عبد القادر الحسيني (1908 ـ 1948)، وصولاً إلى الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية (مطلع الألفيّة الثالثة) التي ذهبتْ فيها دماءٌ كثيرةٌ وخرج الفلسطينيّون منها بفائدةٍ قليلة.

كيف يمكن الربطُ بين وقائع متناثرة، أوّلُها في قرية فلسطينيّة هادئة، وآخرُها في مخيّم يتيم؟ ما هو الرابط المحتمل بين الشعر الشعبيّ الذي أنشده نوح إبراهيم في ثلاثينيّات القرن الماضي، ومقالاتِ إدوارد سعيد الغاضبة بعد اتّفاقيّة أوسلو، وقصصِ غسّان كنفاني، الأديب والسياسيّ والصحفيّ والمتمرّد الذي اختار موتًا ما هو بالموت؟
يأتي الجوابُ من وطنيّة التجربة التي تجعل الماضي الكفاحيَّ جزءًا من ثقافة الحاضر، ومن وطنيّة الوعي النقديّ الذي يرى في الموروث الثقافيّ الفلسطينيّ وحدةً متحوّلة، ومن وفاء الأحياء للأموات الذين تحوّل إعدامُهم إلى تواريخ وطنيّة: مجزرة دير ياسين، مجزرة كفر قاسم، مجازر صبرا وشاتيلا، وأبطال مخيّم جنين، هؤلاء البسطاء "الأغفال" الذين أعطوا أرواحَهم وفاءً لكرامة إنسانيّة عالية. غير أنّ وطنيّة التجربة، والوعيَ النقديّ الوطنيّ، ووفاءَ الأحياء للأموات، لا تظفر بمعناها الحقيقيّ إلاّ داخل مشروع تحرّريّ يصيّر الذاكرةَ الفلسطينيّةَ إلى بعدٍ تحريضيٍّ يحضّ على استكمالِ ما صاغه جيشٌ من المقاتلين، وإلى بعدٍ نظريّ يأمر بكتابةٍ جديدةٍ للتاريخ الفلسطينيّ ــ يبدأ بمعارك البسطاء التي لا تنتهي، ولا ينسى حالاتٍ جسّدها عبدُ القادر الحسيني وحسن سلامة وغسّان كنفاني ومخيّمٌ مقاتلٌ صبورٌ اغتيل في وضح النهار كان اسمُه: تلّ الزعتر.
***
تبقى أسئلة ثلاثة: كيف يمكن توحيدُ ثقافةٍ تحرّريّةٍ عمرُها أكثر من مائة عام، وموزّعةٍ على المنفى والوطن وما تبقّى من الوطن؟ وما موقع المحتلّ الصهيونيّ في هذه الثقافة الصعبة التوحيد؟ وكيف يمكن ترويضُ الاستثنائيّ، أو المختلف، في تجربة "وطنيّة الثقافة الفلسطينيّة"؟

لا إجابات جاهزة، وإنْ كانت التجربة تقترح ما يشبه الإجابة: لم يتوحّد الشعبُ الفلسطيني، في حقبه الوطنيّة المتتابعة، إلاّ بمشاريع سياسيّة جمعتْ بين الوضوح والمصداقيّة: حال ثورة 1936 التي قادها الفلاّحون (الذين كانوا يحتاجون إلى قيادة)، وحال انتفاضة 1987 (التي أفسدتها القيادات)، إضافةً إلى تجربة منظّمة التحرير الفلسطينيّة 1965 التي جاء بها قادةٌ وطنيّون وعبثتْ بها الأنظمةُ العربيّة التي كانت تُثني على القضيّة الفلسطينيّة وتتآمر على الفلسطينيين. أمّا ما يخصّ "الآخر الصهيونيّ" (باللغة الأكاديميّة)، أو "المحتلّ الصهيونيّ" (باللغة الفلسطينيّة)، فلا يجوز اختصارُه إلى الجريمة والإرهاب والاغتصاب وغيرها من الصفات التي ترتاح إليها البلاغةُ العربيّة، النائمة والتقليديّة معًا؛ ذلك أنّ لدى العدوّ ما يمكن التعلّمُ منه، كما اقترح غسّان في روايته عائد إلى حيفا. كما ينبغي توحيد القول والعمل، وتقديس الوحدة الوطنيّة، والنظر الحداثيّ إلى العالم ـ مسّ ذلك الحربَ المفتوحة أو اضطهاد الفلسطينيين بوسائل حداثيّة. فلا تمْكن مقاومة عدوّ حداثيّ النظر والوسائل بمنظور أصوليّ، وإنْ كان مقاومًا وصادقًا في مقاومته، لأنّ في التحرّر الإنسانيّ والوطنيّ ما ينفي الأصول جميعًا.

يعثر السؤالُ الأخير على إجابته في وحدة القيم والمعرفة والسياسة. ذلك أنّ القيم وحدها لا تفضي إلى شيء كثير، مثلما أنّ المعرفة التي تفتقر إلى الأخلاق تفضي إلى سياساتٍ تقليديّةٍ عرفها الشعبُ الفلسطينيّ طويلاً وخرج منها بخسائر كثيرة.

ترتكن "وطنيّةُ الثقافة الفلسطينيّة" على مبادئ ثابتة، تبدأ بالحقّ الفلسطيني وتنتهي به. وقد يغيّر السياقُ شكل الحديث عنها، ولكنّه لا يمسّ جوهرها في شيء.

*كاتب وناقد فلسطينيّ.