ألمانيا نموذجاً معاصراً لدولة العلوم والتكنولوجيا

 

رام الله: بين ولادة الأفكار العبقرية المبتكرة داخل العقول الفذّة، وتحوّلها واقعاً عملياً ملموساً، ينقضي زمن ربما تراوحت مدّته بين شهور وسنوات. وكذلك يتطلّب النجاح في تحويل فكرة ما إلى مُنتج محدّد، جهداً وإقداماً وصموداً من المخترعين كي يقنعوا أربابّ الأعمال بتبني الفكرة وتمويل عملية تحويلها إلى واقع ملموس. وتكمن أهمية الابتكارات والاختراعات في كونها ساهمت في أزمنة التاريخ كلها (كما اليوم) في تغيير وجه العالم وحركته، وكذلك حياة الناس وتفكيرهم وعلاقاتهم. ومنذ نصف قرن على الأقل، تســــاهم آلاف البراءات في المواصلات والاتصالات التكنولوجية الرقمية، في جعل كوكبنا الأزرق أكثر فأكثر «قرية صغيرة» لا يفوت ناسَها شيء مما يحدث فيها.

«بلد الأفكار والابتكارات»

قبل عامين، عملت وزارة التعليم والبحث العلمي الألمانية على تنفيذ خطة لاستثمار قرابة 15 بليون يورو في مجال التقنيات المتطوّرة. وفي حينه، أكّدت وزيرة التعليم آنيته شافان، أن الخطة توفّر مستقبلاً قرابة 1.5 مليون فرصة عمل جديدة على الأقل، مضيفة أن تسعين ألف فرصة عمل ترافقها أيضاً في صناعة التكنولوجيا المتطورة، كما يضاف إليها فرص عمل أخرى في مجالات تدعم هذه التكنولوجيا. ويجري استثمار القسم الأكبر من المبلغ في بحوث الفضاء والطاقة، إضافة إلى الصحة والطب والبيئة والتقنيات البيولوجيّة.

وتهدف خطة الاستثمار الجديدة إلى نسج علاقات شراكة بين معاهد البحوث العلمية والشركات المختلفة، بغية مــساعدة الباحثين ودعمهم وتحقيق أفكارهم، من أجل وصول اختراعاتهم بشكل أسرع إلى الأســـواق. وتواجه هذه العقبات الباحثين الألمان الساعين إلى تحقيق أفكارهم. وكجزء من التكنولوجيا المتطوّرة، ترعى الوزيرة شافان بالتعاون مع «اتحاد مؤسسات البحوث العلميّة الألمانيّة»، مسابقة بين أهم الجامعات الألمانية تمكِّن الخمس الأفضل بينها من الحصول على دعم مالي بملايين اليورو، لتغطية نفقات مشاريع بحوث علمية تجرى بالتعاون مع شركات ألمانية.

وللحفاظ على لقب «بلد الأفكار والابتكارات»، تدعم الحكومة نوادي المخترعين الشباب وطلاب المدارس، لتنمية قدراتهم ومواهبهم، ما يشجّعهم على الإبداع. وسنويّاً، يلتقي في مدينة «نورنبيرغ» مخترعون شباب من دول عدّة، لعرض اختراعاتهم. وفي العام الفائت، قدّم شباب جاؤوا من 37 دولة، قرابة 800 اختراع وابتكار، بينها مدفأة تساعد عازفي آلات النفخ على تحديد درجة حرارة الآلات الموسيقية، ونظاماً ذكياً لركن السيارات. ولتنمية الإبداع وحب التطوير، أسّست وزارة الاقتصاد والتكنولوجيا في العام 2008، بتأسيس مبادرة لحماية الأفكار من أجل الاستفادة منها اقتصادياً أيضاً. وتشمل المبادرة شبكة واسعة من نوادي المخترعين اليافعين يبلغ عددها في البلاد حالياً نحو 130 نادياً، كما تضمّ آلاف الأعضاء.

مقارنة مع الدول العربية

في مقارنة مع البلدان العربية، أظهر إحصاء لـ «المنظمة العالمية للملكية الفكرية» في العام 2010، وجود هوّة واسعة بين عدد براءات الاختراع العربية المُسجّلة لديها، وبين ما سجلته دول أخرى. وتصدّرت مصر والمملكة العربية السعودية قائمة الدول العربية الأكثر تسجيلاً لبراءات الاختراع لدى المنظمة.

وارتفع عدد البراءات السعودية من 70 براءة في العام 2009 إلى 78 في 2010، كما ارتفع عدد البراءات المصرية من 33 براءة إلى 46. وحلّت الإمارات في المرتبة الثالثة مع 29 اختراعاً، بزيادة براءة واحدة، تلاها المغرب مع 15 بعد أن كانت 12 براءة، وسورية بـ12 بعد خمس براءات، وتونس 9 بعد ثلاث براءات، فيما سجّلت قطر 7 براءات، وعُمان 4 براءات.

وبلغ مجموع ما سجلته الدول العربية نحو 175 براءة اختراع في ذلك العام. وفي المقابل، سجّلت تركيا 367 وإسرائيل 1882 براءة. وبسبب عدم وجود إحصاءات عن العام 2011، فمن المعتقد أن يكون العدد الإجمالي المُسجّل فيه (وكذلك في 2012) تراجع بصورة ملموسة نتيجة اندلاع ثورات وانتفاضات «الربيع العربي»، التي لم تنته ذيولها بعد، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية.

ومع هذه الأرقام، تحتل الدول العربية موقعاً متأخراً جداً، ليس بالمقارنة مع الدول الصناعية المتقدمة فحسب، بل أيضاً مع دول الاقتصادات الناشئة، وهو أمر مدعاة للخجل في واقع الأمر، ويشكّل إنذاراً أخيراً للتفكير العميق. فمثلاً، سجّلت الصين 6089 براءة اختراع في العام 2008، والهند 766 براءة، والبرازيل 451 براءة، وجنوب أفريقيا 382 براءة، والمكسيك 210 براءة، وماليزيا 177 براءة.

ويُشار إلى أن كوريا الجنوبية باتت في مصاف الدول الصناعية المتقدمة، وسجّلت 7908 براءة اختراع.

يستدعي هذا الأمر من المسؤولين في الدول العربية القادرة مالياً وبشرياً، وكذلك من القطاع الخاص فيها، العمل من دون تأخير على إعادة النظر في نهجها، ومحاكاة الآخرين في تخصيص موازنات سنوية للبحوث والتطوير، ووضع حجر أساس متين لإنشاء بنى تحتية تمكّن العقول الفذّة من القيام بالبحوث والتجارب في المدارس والجامعات، وفي مؤسسات البحوث والشركات الكبيرة أيضاً، لخلق بيئة صالحة للتطوير والإبداع تنمو فيها أجيال مبدعة.

وفـي هـذا المـجال، أكد سامر الطراونة، الخبير في «المنظمة العالمية للملكية الفكرية»، أهمية أن تنهض حكومات الدول العربية بتـحـفيز المـبدعـين، بل البـحث عـنهم أيضاً، عبر منـظومة مـتكاملة مـن الهيــئات والمؤسـسات الـعلمية المتخصصة.

ودعاها إلى أن تبدأ باعتماد نهج تعليمي متقدّم، وتولي عناية خاصة بالمبتكرين والباحثين، إذا ما أرادت هذه الدول حجز موقع ما على خريطة المستقبل.

حاضر الإبداع يستند إلى ماضيه

تعتبر ألمانيا من الدول التي تتمتع بتاريخ عريق في الابتكار والإبداع، إضافة إلى جودة التصنيع وقوة الإنتاج. ومنذ عقود، أصبح تعبير «صُنِع في ألمانيا» جواز مرور لسلع وبضائع تلاقي رواجاً عالمياً بسبب نوعيّتها العالية. ووضَعَت هذه الأشياء ألمانيا في مقدمة المصدّرين عالميّاً.

ويشكّل العلماء والباحثون الألمان الحائزون جائزة نوبل في العلوم، قرابة 12 في المئة من الفائزين بها. وفي العلوم الطبيعية، حصل 27 باحثاً ألمانياً في الكيمياء، و23 فيزيائياً، و15 في الطب أو الفيزيولوجيا على هذه الجائزة المرموقة دولياً. ومن أشهر الأسماء الألمانيّة التي تحولّت رموزاً، تكفي الإشارة إلى دانيال غابرييل فهرنهايت (لقياس الحرارة)، وتيودور بلهارس (مرض البلهارسيا)، وكونراد رونتغن (التصوير بالأشعة) وغيرهم. وفي الأعوام الـ15 الأخيرة، حصل ثمانية علماء وعالمات ألمان على تلك الجائزة. ولا يشكل هؤلاء سوى طليعة جيش من العاملين في مراكز البحوث والمختبرات والجامعات الألمانية، يتجاوز عديده ربع مليون عالِم وباحث، ما يفسّر أيضاً احتلال ألمانيا المرتبة الثالثة عالميّاً في البحث العلمي. وتلقى البحوث الألمانية في صناعة الآلات والطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والإلكترونيات، شهرة واسعة. وينطبق ذلك أيضاً على التقنيات الطبية، وصناعة الآليات والسيارات، وعلوم الهندسة والبيئة. ويحتل الألمان موقعاً طليعياً في التقنيات المستقبلية المختلفة كالبصريات، والأنظمة الدقيقة، والطاقات البديلة وسواها.

براءات الاختراع مؤشّراً

تتربّع ألمانيا في مراتب متقدّمة بالنسبة إلى تسجيل براءات الاختراع منذ عقود عدّة. ويصل عدد البراءات التي تسجل سنوياً في «المكتب الألماني للبراءات والماركات»، إلى قرابة 60 ألف براءة، إضافة إلى أكثر من 70 ألف ماركة مسجلة.

ويستند الألمان إلى تاريخ عريق من الاختراعات في بلادهم منذ اختراع المطبعة التي أحدثت ثورة في النشر والتواصل، إضافة إلى الأسبيرين والسيارة وتكنولوجيا الطاقة البديلة وغيرها.

وذكر المكتب الألماني أن عدد البراءات الموضوعة قيد الاستعمال فعلياً، يزيد على 525 ألفاً، يُضاف إليها أكثر من 770 ألف ماركة مسجلة. وتقدّر كلفة ما ينفق سنوياً على البحوث والتطوير، من قِبَل الاقتصاد الخاص والدولة الألمانية، بقرابة 62 بليون يورو.

وخلافاً للماضي حين كانت الاختراعات فردية الطابع، تأتي 60 في المئة من البراءات والماركات المسجلة في ألمانيا حالياً من الشركات الكبرى التي تخصّص أقساماً للبحوث والتطوير تعمل فيها فِرَق من الباحثين، مقابل 10 في المئة تأتي من أفراد. وتعكس كمية الاختراعات ونوعيتها في ألمانيا، واقع وجود شركات ألمانية كثيرة تتقدّم نظيراتها في حقول التقنية العالية.

وحاضراً، ثمة بروز ألماني ملموس في صناعة الآليات على أنواعها، والآلات المُنتِجَة للآلات، والطاقات المتجدّدة وغيرها.

وتحتل ألمانيا المرتبة الأولى في أوروبا لجهة عدد براءات الاختراع المُسجّلة. وتُحاذيها دول متقدّمة كالسويد وسويسرا وفنلندا.

وأفادت «المنظمة العـالمـية للـمُلكيّة الـفكرية» في إحـصـاءاتهـا للـعام 2010 بأن عدد براءات الاختراعات التي سجّلها مخترعون ألمان لديها بلغ 18428 براءة، وتلتها فرنسا (6867 براءة) وبريـطانيا (5517) وهولندا (4349) والسويد (4114) وسويسرا (3832) وإيطاليا (2939) وفنلندا (2119).

بحوث وصناعة

يبلغ حجم ما تُنفِقه ألمانيا على البحوث قرابة 62 بليون يورو سنوياً. ويتحمل الاقتصاد الخاص، خصوصاً الصناعة، أكثر من ثلثي هذا المبلغ الضخم، ما يعادل 41 بليون يورو. وتأتي البقية من الدولة التي تخصّص أموالها للبحوث في الجامعات والمعاهد العليا (395 جامعة)، إضافة إلى مؤسسات بحوث أخرى، كـ «تجمّع هايمهولتس» الذي يرعى 16 معهداً للبحوث، و «مركز ماكس بلانك» الذي يشرف على 80 معهداً، و «مركز فراونهوفر» الذي يرعى 59 معهداً، و «مركز لايبنتس» الذي يشرف على 86 معهداً. وفي 2012، أعلنت الحكومة الألمانية أنها رفعت الاستثمارات التي تقدمها لمشاريع البحوث في القطاعين العام والخاص من 2.5% إلى 3 بالمائة من الناتج القومي.

وتحتل ألمانيا موقعاً متقدّماً دولياً، فتحاذي دولاً كالولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية. وأشارت دراسة لـ «الاتحاد الأوروبي» بعنوان «سِجلّ الابتكار الأوروبي» إلى أن دولاً مثل السويد وفنلندا لديها اقتصاديات تتميز بأنها الأكثر ابتكاراً عالمياً. وتصنّف هذه الدراسة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والاقتصادات العالمية الكبرى الأخرى وفقاً لخمسة وعشرين معياراً تشمل عدد الخريجين في مجال العلوم، ومدى استخدام شبكة الإنترنت، والاستثمار العام والخاص في مجال البحوث، ومبيعات المنتجات الجديدة، وعدد براءات الاختراع.

سجِلّ «المُخترِع الأوروبي»

أظهرت حفلة توزيع جوائز «المُخترِع الأوروبي» قبل عامين في مدريد، تقدّم مستوى الاختراعات الألمانية، إذ مُنِحَت ثلاث جوائز من أصل أربع لمخترعين ألمان قدموا إجابات عن أسئلة تتعلق بتحديات العصر في مواضيع البلاستيك الحيوي، وتكنولوجية نظام تحديد خلايا وقود الهيدروجين، وأنظمة المسح الضوئي الثلاثي الأبعاد. ويحتل مخترعون ألمان مركز الصدارة عندما يتعلق الأمر بالابتكار والتطوير، مع ملاحظة أن دولاً جديدة في «الاتحاد الأوروبي» من شرق القارة، كرومانيا وبلغاريا، سجّلت أقل من نصف المعدل الوسطي في الاتحاد الأوروبي. وظهر ضعف في قدرة هذه الدول على تحويل الاستثمار والتعليم إلى أدوات للإبداع والابتكار. وجاءت بولندا وسلوفاكيا والبرتغال واليونان والمجر في آخر سلّم الدول العشر التي وردت أسماؤها في الدراسة، إلى جانب تركيا وكرواتيا اللتين تسعيان للانضمام إلى الاتحاد.

وعلى رغم هذا، لاحظت الدراسة أن هذه الدول تحقّق تقدّماً في معدلات الابتكارات، وبدأت إلى حدّ ما في سدّ الفجوة التي تفصلها عن الدول الأكثر تقدّماً