رام الله... لم تعد هناك

 

بقلم: أحمد الضامن

تلة الله' كما تعرف في الآرامية القديمة، و'مصيف فلسطين' كما سماها الفلسطينيون الذين عرفوا جمال ربيعها، واخضرار جبالها ووديانها، وندرة طقسها الصيفي المعتدل.

لقد عرفت رام الله، أو لنقل بالكاد أحسست لسعة 'رام الله... كما كانت' بداية التسعينات، اي هنيهة قبل أن تأتي 'السلطة الوطنية الفلسطينية' التي جاءت تحت غطاء وطني، وبدعم إسرائيلي كي تحل لنفسها كل شيء فوق هذه الأرض. ماض أليم يشهد على آثار هذه 'الجماعة' الثورية بعد أن قادت الثورة من الأردن فكان أيلول أسود، وثم قصدت لبنان وجندت شباباً في عمر الورود أفنوا عمرهم من 'أجل استرجاع الوطن' في معسكرات التدريب. ولكنهم وجدوا أنفسهم مع تقدم العمر سائقي تاكسي وبائعي بسطات ما زالوا يحلمون أن يروا قراهم وأرض أجدادهم ولو للحظة أخيرة. لم يسكت ناجي العلي ولم يسكت غيره، فكان إسكاتهم هو الحل الوحيد! لكن 'الجماعة' الثورية لم تعرف أين تذهب بثورتها بعد أن تركوا شرخاً كبيراً في لبنان، فذهبوا إلى تونس كي يثوروا بال'ريموت كونترول'!

كانت رام الله وقتها، لمن لا يعرفها، بلدة صغيرة ناعسة. ناعسة كانت، رغم غليانها المتأجج مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى. كانت تلك القرية الصغيرة تتحول شيئاً فشيئاً إلى بلدة متواضعة يقطعها شارع رئيسي واحد يوصلها بشقيقتها الأصغر 'البيرة'، بعد أن نزح إليها الكثير من أهالي القدس والقرى والبلدات الأخرى بعد نكبتنا ونكستنا ومصائبنا الأخرى المتعددة. كنت أنا وقتها أحد النازحين إلى رام الله، ولكنني لم أنزح كرهاً وإنما نزحت إليها باختياري تاركاً ورائي شقيقتها الكبرى 'عمان'، في محاولة يائسة لتتبع جذوري. كنت أحلم بيوم أجلس فيه عصراً في ربوع رام الله مع قدح من الشاي والميرمية، وأعرج على القدس كي تذوب في أحشائي رائحة الكعك والخبز، وقد أذهب بعدها لأجلب ما أشتهي من حلويات نابلس، وثم أجمع أغراضي مقبلاً على أنغام أمواج حيفا أسهر على شاطئها وأشكو لها ضعفي وقلة حيلتي. حلم الضعفاء الذي كان ممكناً في تلك المرحلة، إلا أنه أضحى اليوم ضرباً من الخيال.

نَضِجَ أهالي رام الله في الانتفاضة الفلسطينية الأولى على وسائل المقاومة الأهلية. فقد استطاعوا في السنوات السابقة توفير حاجياتهم كلها في ظل نظام أهلي متكامل، حاذين حذو نابلس والخليل والمدن الفلسطينية الأخرى. كان السكان قبل ذلك يلجأون إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي لتدبير أمورهم الذي كان عليه بدوره ان يلتفت إلى هذه المتطلبات وإلا فإنه سيكون فاشلاً في احتواء هؤلاء الثلة من 'العرب' وإدارة المنطقة التي احتلها وفرض سيطرته عليها. فوجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها المسؤولة الوحيدة عن الصحة والتعليم والبنية التحتية وغير ذلك من متطلبات التمدن والتحضر الذين ادعوا أنهم أتوا به إلى فلسطين بعد أن كانت أرضاً قفراء لا شعب فيها ولا بشر! وقد يعني ذلك واحداً من احتمالين: الأول أنهم كانوا قصيري النظر حينها فلم يجدوا أحداً، والثاني أننا لا نصنف من فئة البشر. وفي الحالتين كانت النتيجة أن أهالي رام الله قد بدأوا يعتادون على الوضع بل يستغلونه لمصحلتهم مرهقين بذلك الإسرائيليين بمقاومتهم للاحتلال، وجنوده، وأنظمته في ظل نهضة شعبية فريدة. لم تأت هذه النهضة الشعبية من فراغ، بل أتت من براثن تنين نائم كان قد تشبع على ثقافة السكاكيني ومصطفى الدباغ، وشعر إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود، وموسيقى واصف جوهرية، وفداء عبد القادر الحسيني وأنطون داود وأعمدة مختلفة كانت نتاج حياة فلسطينية زخمة قبل النكبة ومصدر إلهام متجدد لأبناء البلدة...

بضع سنوات تلك التي بدأت فيها حياتي في مقتبل العمر في تلك البلدة الجميلة المقاومة. لم أع في ذلك الوقت أن القادمين بأحلام الثورة والتحرير كانوا سيختارونها مركزاً لهم في مشروعهم الوطني، خجولين بذلك بضعة أميال فقط عن دخول القدس، العاصمة الأبدية لدولة فلسطينية مقترحة، التي طالما تغنوا بها عبر إذاعة 'صوت العاصفة'. القدس هي المكان المهيء منذ قرون كي تكون مركزاً تجارياً كبيراً وعاصمة لأي دولة تقام على هذه البقعة من الأرض. وهكذا، بعد تمركزها في رام الله، بدأت 'الجماعة الثورية' بجلب المعونات، وتجنيد الشباب لإقامة مشاريع البنية التحتية مرة أخرى. فلم تعد إسرائيل بعد ذلك اليوم مسؤولة عما يحصل في مناطق السلطة. لكن هذا العرض استثنى بطبيعة الحال الأمن والمعابر، فإسرائيل ما تزال راغبة أن تدخل هذه المدن والبلدات كما تشاء وتسمح لمن تريد فقط بالدخول والخروج منها. لقد جاء هذا العرض للإسرائيلين ساخناً وشهياً على طبق من ذهب. وأما السلطة (التي لا تجد أي إمكانيات سلطوية على واقع الأرض) فقد اعتبرت أنها أسست دولة ما كانت لتعيش لولا 'الخير' الذي جاءتنا به. وبدأت الأموال بالتدفق، لكنها لم تأتي منسابة سلسة كما يخرج الينبوع من الأرض ليروي عطش الزرع، بل جاءت كفيضان يغطيه ويهلكه. كان هذا إعلاناً بأن على رام الله (وغيرها من مدن فلسطين) أن تتعود من اليوم فصاعداً على البلل، لا الري، كي تعيش.

أقف أمام رام الله اليوم فلا أجد سوى بصيص متهالك من عبق الماضي في وداعه الأخير قبل أن يخفت إلى الأبد. لم أعد أرى الخلد وابن عرس ينبش أرضها، بل حل مكانها جرافات تؤسس لمجمعات تجارية ضخمة وأبنية حديدية فظة تخرق السماء غير آبهة بقداسة المكان وبساطته. وفي منتصف كل ذلك كتل أسمنتية عشوائية أسموها 'المقاطعة'، وهي لإسمها من شأنها نصيب. فهي 'تقاطع' بدلاً من أن تذوب في محيطها وتتوافق مع احتياجاته. ولم تعد شوارعها الضيقة وحاراتها مرتعاً لقلة من الناس تجمع قوتها، بل أصبحت مركزاً صاخباً يؤمه كل من يبحث عن عمل أو أمل من الشباب، عل 'عاصمة فلسطين الجديدة' تؤتيه أو تؤتيها خيراً من قريتهم أو بلدتهم المهملة. ولم يعد في مقابرها متسع لكل أولئك الذين يعودون من المهجر ليدفنوا فيها، علّهم على الأقل يصبحون جزءاً من هذا التراب، تراب لم يعد لابن آدم أو ابن آوى مرتع فيه أو نصيب.

لقد اختفت رام الله، فلا يغرنك ذلك التضخم الكاذب والشعارات المعسولة. لقد فقدت كل معناها العريق الأصيل. المال من جهته أيضاً بدأ ينضب، ورغم ذلك فقد اعتاد الأهالي البلل حتى أدمنوا 'مشربهم' الوحيد، فلا بديل لديهم أو قبلة أخرى يقصدونها. أتباع موسى لم يكتفوا بإثني عشر عيناً في الصحراء والمن والسلوى، بل باتوا يمنعون عنا حتى البلل عندما يشاؤون أيضاً. لن أستغرب أن يأتي يوم يقصد فيه أحدهم البحر الميت ليرمي شباكه آملاً في سمكة قد أفلتت من العقاب الإلهي المحتم.

كلما جلست مع الشباب الذين رأوا رام الله في 'حلتها الجديدة' أحزن أمام شكواهم وخيبة أملهم، لرؤية مدينة مزيفة تحجب الشمس التي طالما حظيت تلال البلدة بموقع مميز في استقبال دفئها، وهواء منعشاً كان يبعث الحياة في سكانها وزوارها. إنني لا ألوم هؤلاء الشباب، فهم لم يروا رام الله قط، ولم يعرفوا بساطتها وطيبة أهلها، ولم يقضوا يومهم في اكتشاف خباياها، واستنشاق نرجسها، والتجول في أزقتها، ولم يكتشفوا ما تخبئ كهوفها من عبق الماضي وآثاره، ولم يتلذذوا بزيتونها الجبلي الأصيل. أنا لست معنياً أن ألتحق بجحافل المغتربين الذين يريدون 'الموت' في رام الله بعد أن فشلوا أن يعيشوا فيها، ولست أهوى الوقوف على الأطلال كي أشاهد ما تبقى من سحر المكان في مشهد الختام الأخير. لكنني أعلم أنني لا بد أن أكتب عن رام الله كما كانت كي يعلم الجميع أنها كانت موجودة، نعم لقد كانت هناك... لقد رأيتها...

 

وأعلم أنها لا تصلح أن تكون عاصمة بديلة عن القدس مهما حاولوا أن يوهمونا، أو أن تصبح مرتعاً للثورات المستوردة. قد تعود رام الله عندما تعود القدس، لكي تلعب الدور الذي تستحق ضمن حياة فلسطينية أبية، ولكنني اخترت أن تظل رام الله تعيش في داخلي فهي، على الأقل، ما زالت هناك حية.

وإن كنت عجزت في وصف معضلتي، فإنني كغيري من العرب سأترك الشعراء يأتون بما عجز عنه لساني، ومنها كلمات الشاعر المصري أحمد البخيت في قصيدته 'رام الله':

خذني لأندلس الغياب، فربما تعب الحصان

وتلك آخر صهلة...

لا أحمل الزيتون في المنفى معي،

وشراء زيت المترفين، مذلة!