ستيفان هيسيل التسعيني سمع صوت الموت فصاحبه كصديق ورحل

 

صرخته "اغضبوا" ما زالت مدوية بعده! كما حلمه بقيام دولة فلسطينية

بقلم: يقظان التقي

أخذ خبر رحيل المفكر الفرنسي ستيفان هيسيل حيّزاً كبيراً في الصفحات الأولى من معظم الصحف الفرنسية والأوروبية اعترافاً بمكانة الكاتب وجرأته وغضبه وسخطه في وجه سياسي حديث للتيار الفكري الإنساني في أوروبا، تيار أكثر تقدمية وإنسانية. وهو الذي عرف بمواقفه الجريئة دفاعاً عن حقوق الضعفاء ودفاعه عن القضية الفلسطينية وعن حقوق المهاجرين إلى فرنسا. علماً ان كتابه "ثوروا من أجل كرامتكم" الذي صدر بالفرنسية عام 2010 وبحجم كراسٍ صغير أحدث مفاجأة كبرى في عالم النشر.

في الرابعة والتسعين من عمره تحول المقاوم السابق ستيفان هيسيل ظاهرة شبابية عندما أصدر كتابه الشهير "اغضبوا" الذي باع الملايين (كراسه) وترجمه إلى نحو 40 لغة.

صحيح ان هذا الكراس أقرب إلى البيان منه إلى التحليل وإلى الموقف منه إلى الموقع. لكنه مع هذا اخترق جدران القرّاء وجذبهم من مختلف أعمارهم وثقافاتهم وبلدانهم. صحيح ان الكتاب هو تبسيطي قد لا يحمل أفكاراً جديدة أو لا يحمل أفكاراً بالمعنى الفكري العميق ولكن تحول التبسيط إلى بساطة وتحول الإعلان إلى نوع من اليقظة الثقافية والاجتماعية في صفوف الطبقات الفرنسية والأوروبية وغيرها. هيسيل ليس جان بول سارتر ولا البير كامو ولا ادغار موران ولا هايدغر. ولم يسبق ان تبوأ حضوراً ايدلويوجياً لكنه مع ذلك يتمتع بصدقية نظراً إلى تاريخه النظيف وإلى انتمائه إلى القضايا الاشكالية الكبرى وفي مقدمها قضية فلسطين وهو جاهر بتأييد نضال الشعب الفلسطيني في وجه العدوان الإسرائيلي ولم يجرؤ اللوبي الصهيوني على اتهامه بمعاداة السامية كما فعل مع روجيه غارودي أو مع سيلين وغيرهما.

السؤال الكبير إذا كانت فرنسا معروفة بتنوعاتها الفكرية ومداراتها الأوروبية من شعرية وفلسفية ومسرحية وروائية حفرت خطوطاً عميقة في الاتجاهات الكبرى من القرن العشرين، السؤال لماذا اتخذ هذا الكتاب البسيط هذا الحجم الكبير. ونظن أن ما آلت إليه الثقافة الفرنسية من انهيار كبير اليوم وما تعانيه السياسة الفرنسية سواء في معسكر اليمين أو اليسار أو اليمين المتطرف (ماري لوبن) أو اليسار المتطرف (ميلانشون) ولكن كل هذا يؤدي إلى هذا الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي لدرجة انه امحت الحدود بين اليمين واليسار بل الحزب الاشتراكي وبين الديغوليين، بين ساركوزي وبين هولاند إلا في العروض وفي الصراعات وفي الإعلام، ولهذا جاء هذا البيان وكأنه قنبلة سمّها صوتية فوق اسماع وقلوب ونفوس الفرنسيين كأنها صرخة ضد هذا كل هذا الواقع "المستنقع" في فرنسا.

كأننا نقول هنا ان الصدق لدى هيسيل هو الذي انتصر على الألاعيب السياسية الانحطاطية والتطرف والعنصرية. انه صرخة إلى الشباب لكي يغضبوا على كل ما تسبب به السياسيون من انحطاط الوضع الفرنسي سواء من خلال هيمنة العولمة أو على صعيد الفساد، أو على صعيد تلاشي المنظومات الأخلاقية. انه صرخة عجوز على حافة نهاياته اضاء المدينة واضاء مهود الأطفال وشوارع الشباب والساحات وغيبوبة كل من وقع في الاستهلاك الفكري والثقافي. انه صرخة صادقة أصابت الناس بجديدها وليس باختراقها آفاقاً فكرية جديدة.

أظنها صرخة فتحت فعلياً القرن الحادي والعشرين واستلهمت على الارض بحركة "متمردي وول ستريت" وانتفاضات ضد كل إجراءات التقشف ووصفات المؤسسات المالية الدولية، وفي العام 2011 أصدر كتابه الثاني بعنوان "التزموا بالقضايا الإنسانية العادلة.

ستيفان هيسيل أوروبي بامتياز، اتقن الانكليزية والفرنسية والألمانية. مواليد برلين العام 1917، انتقل إلى باريس من عمر سبع سنوات مع والديه فرانز وهيلين هيسيل اللذين وضعا بالاشتراك مع الكاتب الفرنسي هنري بيار روشيه مسرحية "جول وجيم" وكنا في "المستقبل" نشرنا حواراً طويلاً الثلاثاء في 2 نيسان 2012 أجرته معه الباري ماتش الفرنسية ونستعيد مقاطع منه.

إشارة إلى انه وقبل أسبوع من رحيله كان أنجز كتابه الأخير "الآن جاء دورنا" الذي سيصدر قريباً بالفرنسية علاوة على تقديم وضعه لكتاب جديد سيصدر في 20 الشهر الجاري بالفرنسية عن دار "ليرن الفرنسية" بعنوان "دولة فلسطين".

إشارة أخرى إلى ان الأمم المتحدة نعت الكاتب الراحل الذي شارك في صياغة مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 وهو كان نال العام 2008 جائزة اليونيسكو لنشر ثقافة حقوق الإنسان.

أما بالإشارة إلى الموت فهو كان ينتظره بشهية مفتوحة جداً وفي بعض جلساته الأخيرة قبل الموت كان يردد عبارات أمام جلسائه "انه يسمع صوت الموت"، وكان يقول "انه شيء عظيم".

هنا مقتطف من حديثه المطوّل الأخير الذي قمنا بترجمته الى العربية الثلاثاء 2 نيسان 2012 كجزء من حوار طويل اجرته معه مجلة "لوباري ماتش" حينها:

[ وماهي مشاريعك اليوم؟

ـ الموت، أتمنى من كل قلبي ذلك. ما حصل معي خلال السنتين الأخيرتين كان مرعباً.

كتابي "اغضبوا" الصغير والذي يشمل 15 صفحة والذي باع الى الآن أكثر من 5 ملايين نسخة وترجم الى 35 لغة. بعد كتابي هذا الذي ترجم الى اللغات الاسبانية واليابانية والانكليزية ودخل عشرات الدول، وكل ترجمة بلغة البلد تحولت الى ما يشبه حيوان السيرك.

ما الذي تحويه صفحات هذا الكتاب الصغير ليترجم الى كل تلك اللغات ويصل الى الملايين ويتحول مضمونه الى واقع ثوري عنوان "لحركة غضب وسخط مواطن كوزموبولتيكي وشعبي عام في المدينة الحديثة؟. أنا مجرد رجل متواضع حقيقي. عندي رغبة بأن يتوقف هذا. ولدي كتابان على الطريق وعندي ما أقوله للجمهور من مثل أن هذا الكتاب "الساخط" رديء جداً! ولكن هل هذا ما يريد الجمهور سماعه. أنظر لماذا علينا أن ندعو الناس الى السخط. أنا أركز على مبدأ عدم العنف والى عدم الثورة على النحو ما يحصل من عنف في الشارع وحركات احتلال الشوارع واحتلال المدن ومقرات الحكومة. ان ما أدعو إليه حركة اعتراض سلمية هادفة وموجهة ومحددة وليست موضوعه. تحوّل مجتمعنا الى عنيف جداً، أنظر ماذا يجري من أحداث في سوريا، في ليبيا، في افريقيا، وفي نواح عديدة من أوروبا. لننتبه الى إبقاء حركاتنا الاجتماعية التغييرية والرافضة في حدودها السلمية وأن لا تخرج الى العنف الأقصى.

أنا أتمنى بأنه مع ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الانسان نتمكن من بناء عالم السلام والذي ما زلنا بعيدين عنه كثيراً.

المقاومة الشعبية

[ الناس استوحت تجربتك في جرأة المقاومة الشعبية في فرنسا ابان الاحتلال النازي؟.

ـ جيد، كنا في طليعة المناضلين ولكن بظروف مختلفة. كان هناك احتلال نازي وسعينا كشباب لتكوين جيش تحرير سري يقوم على نظام الخلايا في كل حيّ من أحياء المدن.

كانت الأمور مأسوية مع حكومة بيتان الموالية للفوهرر في فيشي. جيد أن تستوحي تجربة الشباب الثوري ولدى شباب اليوم خبراته وقدرته على قيادة السفينة وأعرف حجم معاناة القهر والظلم والتعذيب وهو مثيل وأكثر لما عاينه جيلنا في معسكرات التعذيب. لكن حين تحتدم الأمور في لحظة تاريخية ما ينبغي مواجهتها بنضال انساني ملتزم وبتجربة روحية حتى لا تقع الفوضى والتعذيب على أشخاص آخرين. هكذا نكسر الخوف ونهزمه كلياً ونثور على الظلم والاستغلال والقمع والقهر وبقوة أكبر ونحن مدعوون لصياغة شرعة انسانية لوثيقة الاعلان الدولي لحقوق الانسان، ودعم ثقافة السلام وحقوق الانسان في وجه جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية تعترف بها من نواح عديدة في العالم وان نعلن موقفاً انسانياً جماعياً رافضاً لها وبمعايير تنطبق على الجميع. هكذا نهزم التردد. وهكذا نصل باللحظة "التاريخية" الانسانية الى لحظة وجودية لانتفاضات شبابية ضد سيطرة النظم السائدة ويتحقق توازن انساني جديد بين شعوب العالم مجتمعة. وعلى أساس مساواة مفتوحة بين الناس وعلى عوالم من الحرية أكثر من عوالم الأمن، والسلام بدل الحرب، والصدق والكرامة والعدالة الانسانية.

الموت

[ أعود الى عبارتك المرعبة، الموت". أتمنى أن أموت الآن"، ليس لديك خوف من الموت؟.

ـ كلا، ليس عندي خوف من الموت. واذا استثنينا معاناة الألم، الموت هو لحظة مهمة خاصة من الحياة نفسها، متواصلة منها. الموت عالم هو في آخر، لحظة سحرية نبقى معها عيوننا مفتوحة حتى بعد الموت.

نحن حتى لا نتكبد عناء يذكر بأن نغمضها بعد الموت. هناك من يتكبد عناء ذلك. كان لدي الحياة التي حلمت بها أو بعضها. بعض العقاب الذي عشته كان الحرب. عرفت الكثير من الانكسارات والخيبات خلالها. لم أرَ ما كنت أتمنى أن أراه حين اشتغلت على مادتي الديبلوماسية حين شغلت موقعاً ديبلوماسياً. لم تجر الأمور كما كنت أرغب.

كان لدي الحظ أن أولد في بيئة أحببتها كثيراً وأعجبت بها كما أعجبت بي. كنت محاطاً ببيئة ثقافية من الكتّاب والفنانين: بيكاسو، وبرانكوسي وكتاب مثل جوليان غرين وأخرين بالتأكيد. الى أن زمناً جميلاً على كافة المستويات تقاطعت فيه الاتجاهات السياسية والثقافية والفنية في مزيج مديني واحد.

أحب حقيقة هذا الأثر من الاعجاب المتبادل الذي تتركه في علاقتنا مع الناس وعلاقات الناس بنا. أنا شخصياً أهوى ذلك. الآلهة المفضلون بالنسبة إلي هم افروديت وابولون.

[ هل هذا حلم قبل الرحلة الكبرى؟

ـ حلمي حقيقة، هو قيام دولة فلسطينية. هذا ما أريده وأرغب فيه قبل الانتقال الى الطرف الآخر والضفة الأخرى من العالم.