«غريب حيفاوي» الفلسطيني لاجئاً في ذاته

 

بقلم: مازن معروف

شاءت ابتسام عازم أن تجعل روايتها «غــــريب حيفاوي» (دار الجمل) أشبه بتداخــــل بورتريهات: بورتريه داخل بورتريه داخل بورتريه، لتنتهي جميعها بمركز ثقل واحد أو نواة ثقيلة ومكثفة قوامها التاريخ والذاكرة والمكان، الذي يجعل منه التغيير الديموغرافي فسحةً رحبة للالتباس.

في هذا العمل-السيرة، يعاد ترتيب الأحداث السياسية لفلسطين، منذ نكبة عام 1948، وحتى لحظةٍ ما، غير محددة من الألفية الثالثة، ولا تعرض مباشرة على القارئ، وإنما يتمّ إرجاعها إلى اللغة اليومية لإنسان الحاضر، أو إسقاط أثرها على كينونة إنسانية تفتش عن فسحة ضئيلة للوجود.

تجري أحداث هذا العمل الروائي القصير (أقل من 100 صفحة) في فلسطين، وتحديداً القدس الغربية ورام الله وتل أبيب. وبين هذه الأمكنة الثلاثة، يخضع التاريخ الفلسطيني برمّته لقوة اللحظة الزمنية التي تمتصه، وتعيد عكسه داخل الفرد، وتنهيه «مفلتراً» بهيئة موقف اجتماعي أو سياسي وسلوكيات تزيد من عزلته وتَقَوْقُعه داخل سوداوية لا مناص منها.

عنوان الرواية نفسه «غريب حيفاوي» يثير عند القارئ أبعاداً في المعنى، ودلالات سياسية وعاطفية تُوجِد التردّد حيال قراءة العمل مخافة أن يكون مجرد إضافة بكائية في سلة الدمع الفلسطيني والنحيب والخسارة والأمل المجترّ.

لكنّ عازم تخوض غمار الكتابة عن تجربة الفلسطيني، المواطن «المجهول» داخل الدولة الإسرائيلية. إنها تؤطّر نسخة خاصة جداً من الإنسان اللاجئ داخل ذاته، لا خارجها، ونمط فريد من الفلسطينيين، لا هو بارز تماماً ولا هو ممحوّ كلياً.

 

غربة داخلية

يبدو أن اسم «غريب حيفاوي» هو كلمة السر التي تبقى ملتصقة بشخصه حتى النهاية، والمعطف السميك الذي لا يفلح البطل في الخروج من شقوقه المتعددة. ما يمهد لنوع من الهذيانات الشديدة الرمزية والدقيقة كذلك، داخل النص، من دون تكلّف أو مشقة.

أمّا التطور الأبرز في العمل، فيرتبط مباشرة بالحالة الفلسطينية، القابلة لخلع جلدها القديم المهترئ ووضع جلد آخر بالمقاس نفسه والرائحة واللون. وهذه هي الحالة التي تشكل قوّة رادعة أمام أي محاولة للشخصية الأساس بالانفكاك عن الحال السياسية، أو انسحابه على مجتمع العائلة المشتت بين أكثر من مكان داخل فلسطين (القدس الغربية، رام الله وتل أبيب). «غريب»، تبادله الحياة الممزوجة بين كيان فلسطيني داخلي وكيان آخر خارجي إسرائيلي، كل أحاجيها وألاعيبها، وتضع أمامه يومياً نماذج جديدة من العقبات الصغيرة. وهو في المقابل يكافئها بأن يبقى متأهباً لتحسُّسِها، نظراً لاشتمالها على منطلقات أو ثوابت تصر البيئة الإسرائيلية على إرجاعه إليها، وتشدُّه إلى كل مراحل تطور التزامه بهذه الهوية، سواء على مستوى تاريخ العائلة (هربها ولجوؤها عام 1948)، أو على مستوى تاريخ العاطفة (الحبيبة المفقودة بشكل بطيء)، أو مستوى السطح السوسيو-سياسي المتداخل بعض عناصره ببعض (التمييز المدني، التجاوزات الإسرائيلية، العنصرية، تجاوز الحقائق التاريخية، الدعاية الإسرائيلية).

من هنا، يستحيل الفرد كتلة من شبهات متمازجة كـ «عربي»، «فلسطيني»، أو «مواطِن 48». وفي مقابل هذه القسوة الظرفية والتاريخية والتي تبدو الكاتبة غير مسؤولة عنها، وتعزل الشخصية الأساسية، فإن ابتسام عازم تمضي أكثر، وببطء، عمودياً نحو المساحة البسيكولوجية المأزومة، للبحث في مفهوم هذه الأنا المضغوطة والمجردة، فتعمل في تفريغ البطل من مستلزمات الرفاهية، لتسكبه دائماً في سؤال وجودي متوتر.

تتوخى عازم في روايتها لغة بعيدة من الرومانطيقية أو الغنائية أو الانسحاب المبتذل في المديح أو الانحياز المجاني. وتتركز لغتها، بدلاً عن ذلك، في البيئة الموقتة والحاضنة، أو التي على تماس مع الشخصية الأساس. وبذلك، فإنها تبيح النظر إلى التفاعلات النفسية وصوتها الموجود -كأنه قبل كتابة العمل– وهذه التفاعلات تبدو تركيبات جاهزة، كريستالات قاتمة، كي نفهمها، تعيد الكاتبة الشابة الانطلاق منها باتجاه التاريخ و «بداياته» بقفزات سريعة، وومضات ضرورية، لإحكام القبضة على محور شخصية «غريب».

يأتي الاختصار في عرض التاريخ والتعرّض له واجباً روائياً، مدفوعاً بنازع الحكمة والرؤية الأسلوبية لا بنازع العاطفة أو «الواجب» الشوفيني الفلسطيني. وهذه اللغة لا تُستهلك بالاستعراضات المجازية والوصفية، الأفقية أو الملتوية، بل تمضي في وظيفة محددة بإيجاد الروابط النفسية التي تشكل سقف الطموح الفردي الفلسطيني داخل الكيان الإسرائيلي، وبالتالي فإن إيقاع الجملة الروائية يأتي متمهلاً، عمودي الاتجاهات، لا يخلو أحياناً من سوريالية مناسبة، غير فضفاضة أو مصطنعة.

 

«مفكات» لغوية

يصح القول إن الكاتبة استخدمت في روايتها «مفكات» لغوية على الصعيد التقني في الكتابة، متحاشية حشد الجمل وتطويل السرد، ومتجنبة الحشو. وبدت منساقة إلى شبك الجملة باستعارة ومستوى جمالي معين. مقابل ذلك، فإن استعانتها بمجازات يومية مستعملة، ومن ثم زجّ هذه المجازات الموجودة بوفرة في المحكيات، في مخبر الاستعارة، يفتحان الهواء السردي ويجنبان الجملة الغرق تحت ثقل الالتزامات الجمالية. فيأتي سعي الكاتبة إلى تخليص النص من الزوائد وضبط الجملة السردية والذهاب مباشرة صوب الفكرة (الدرامية من الأساس) لإخراجها أدبياً وفنياً بما يتفق مع النأي عن كل ما هو ممضوغ حتى الاختناق في المسألة الفلسطينية. بهذه الطريقة، ينفض النص عنه كل كليشيه مفترض ويدير ظهره لكل سياق حكائي يستعرض آلام الضحية ويبتز باسم هذه الآلام التعاطف معها.

في هذه الرواية، نحن نقرأ عملاً يمزج بين صوت الروائية وصوت «غريب»، محمّلاً بثقل إنساني وثقافة لافتة. وبهذه الطريقة، يفرض النص علينا التفكُّر، ويودع في أذهاننا (باختلاف مقدار اطلاعنا على فلسطين بالأرشيف) أسئلة لا تكون في نهايتها علامات استفهام. وكأننا نكمل الانسحاب بعد القراءة إلى بئري الـ «أنا» والـ «أين» في حالة اللاعدل التي تلف «غريب حيفاوي» كنسخة أخرى من فلسطينيي الداخل.

لكنّ مستويين آخرين للسؤال يظهران بعد انتهاء العمل (المفتوحة نهايته على مشهد متذبذب بين الواقع والحلم)، الأول يتعلق بالإشكاليات البلاغية التي يتم افتعالها وزجّها في العديد من النتاجات الأدبية، كدعامة تراجيدية تبرّر النص الفلسطيني وتشبعه بالألم والبكاء والفقد والخسارات والنواح انطلاقاً من الواقع. أما الثاني، فيتعلق بالأرضية الفكرية والأدوات الجديدة التي تحتاجها الكتابات الفلسطينية للمحاججة، ليس سياسياً وحسب، بل وفنياً أيضاً، أمام اسرائيلي ابتكر روايته التاريخية والدينية في فلسطين. وفي المستويين، تبدو عازم بروايتها الأنيقة متجاوزة السياقات المتوقعة، برفعها الواقع إلى وظيفة تخييلية ومعرفتها بتوقيت تدخّل هذا المكوِّن في العمل، من دون النزول في مائيات الدمع والتمرّغ بها مجاناً.