انفجار مالي مترابط...3 فقاعات كبرى تهدّد الاقتصاد العالمي

زمن برس، فلسطين: يواجه الاقتصاد العالمي ثلاث فقاعات مالية متزامنة، بحسب ما كشف المنتدى الاقتصادي العالمي، والتي تشمل الذكاء الاصطناعي، والعملات المشفرة، والديون العامة والخاصة. وقال في تقرير له أول أمس السبت إنّ هذه الفقاعات متداخلة بصورة تجعل انفجار إحداها قادراً على دفع الأخرى إلى الانهيار. واستعرض التقرير مقارنات تاريخية تمتد من "هوس السكك الحديدية في بريطانيا" في القرن التاسع عشر إلى "حمى التوليب" في هولندا إلى مستويات الاقتراض التي رافقت الحروب النابليونية، في إشارة إلى أن الحالة الحالية ليست مجرد حدث عابر، بل إعادة إنتاج لآليات متجذرة داخل النظام المالي العالمي. وأشار التقرير إلى أن مستوى التداخل بين الفقاعات الثلاث المنتفخة بآمال وتوقعات الذكاء الاصطناعي، والعملات المشفرة، ومستويات الدين التي لم يكن من المتصوّر بلوغها سابقاً، يضع الاقتصاد العالمي أمام لحظة حساسة شبيهة بأزمات 1929 و2000 و2008، مع اختلاف جوهري هو أن الأزمات السابقة لم تكن متزامنة كما هي اليوم.
فقاعة الذكاء الاصطناعي
شهدت الأشهر الأخيرة انتقالاً واضحاً في تمويل مشروعات الذكاء الاصطناعي من الأرباح التشغيلية إلى الاقتراض واسع النطاق، وفقاً لبيانات "بلومبيرغ" التي وثقت إصدار شركات التكنولوجيا الكبرى (مايكروسوفت وأمازون وغوغل) سندات استثمارية بلغت قيمتها أكثر من 90 مليار دولار منذ سبتمبر/أيلول الماضي لتمويل مراكز بيانات عملاقة ومتطلبات الطاقة والحوسبة المتزايدة. وجاء في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي أن شركة إنفيديا وحدها جذبت أموالاً بقيمة 57 مليار دولار خلال ثلاثة أشهر، وهو ما اعتبره التقرير دليلاً على الطفرة العنيفة في الطلب على رقاقات تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. وذكر التقرير أن هذه الطفرة دفعت نحو توسع سريع في البنية التحتية الرقمية ليصل عدد مراكز البيانات إلى نحو 12 ألف مركز على مستوى العالم (يتركز قرابة نصفها في الولايات المتحدة).
وفي الجزء الأكثر حساسية، يذكر التقرير أن أدوات التحوط من مخاطر السداد (مبادلات التخلف الائتماني) عادت إلى مستويات اقتربت من تلك التي شوهدت في أزمة 2008، مشيراً إلى زيادة تكلفة التأمين على السندات المرتبطة بتمويل البنية التحتية للذكاء الاصطناعي. وتضمن التقرير تحذيراً صريحاً من الرئيس التنفيذي لشركة غوغل، سوندار بيتشاي، الذي قال نصاً: "إذا انفجرت فقاعة الذكاء الاصطناعي، فلن تكون هناك شركة محصنة". وأضاف التقرير: "أي انفجار مفاجئ في الفقاعة قد يترك مراكز بيانات بمليارات الدولارات بلا استخدام"، الأمر الذي يهدد سلاسل الإمداد الرقمية والأسواق المالية المرتبطة بها، بما يجعل فقاعة الذكاء الاصطناعي تهديداً بنيوياً يمتد إلى قطاعات متعددة".
رصد المنتدى الاقتصادي العالمي هبوطاً حاداً في سعر البيتكوين خلال الأسابيع الأخيرة، مشيراً إلى أن هذا التراجع أثار مخاوف من انهيار أوسع في سوق العملات المشفرة. وأوضح أن حساسية المستثمرين تجاه ديون الذكاء الاصطناعي أدت إلى انخفاض الشهية للمخاطر، وهو ما انعكس مباشرة على الأصول الرقمية. وذكر التقرير أن بعض الشركات تحولت من تعدين البيتكوين إلى بناء مراكز بيانات للذكاء الاصطناعي، ما يجعل الرابط بين الفقاعتين مباشراً، كما يشير إلى أن نمط الهبوط المتكرر للبيتكوين يجعلها أداة تستخدم مؤشراً على تراجع أوسع في الأصول عالية المخاطر. وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن ارتباط البيتكوين بأسواق الأسهم ارتفع بشدة خلال 2024 - 2025، ما يجعل العملات المشفرة أكثر حساسية للمخاطر النظامية، وأقل قدرة على أداء دور أصل تحوطي. ويذكر الصندوق أن دخول البيتكوين في المحافظ المؤسسية والصناديق العامة يعني أن أي انهيار واسع سيؤثر ليس على المضاربين فحسب، بل على مؤسسات مالية كاملة.
فقاعة الديون
كما تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن الدين العام العالمي تجاوز 100 تريليون دولار، فيما يقدر إجمالي الدين العام والخاص مجتمعَين بأكثر من ثلاثة أضعاف الناتج الاقتصادي العالمي. ووفق "رويترز" فإن دولاً مثل كينيا تخصص أكثر من 50% من إيراداتها لسداد الديون، فيما تتجه الولايات المتحدة إلى مستويات دين تقترب مما كانت عليه دول أوروبية ذات هياكل مالية هشة مثل اليونان وإيطاليا. وأكد المنتدى الاقتصادي العالمي أن جزءاً كبيراً من ديون القطاع الخاص بات يستخدم في تمويل البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وأن ارتفاع تكلفة التأمين على هذه الديون يجعلها قابلة للتحول إلى مخاطر نظامية. وشدد على أن فقاعة الديون هي الأقل قابلية للإصلاح مقارنة بفقاعتَي الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة، لأنها تحد من قدرة الحكومات على التدخل عند وقوع صدمات مالية.
كيف تتغذى الفقاعات الثلاث على بعضها؟
يشرح تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي أن الفقاعات الثلاث (الذكاء الاصطناعي، العملات المشفرة، والديون) مترابطة بصورة تجعل كل واحدة منها تُغذّي الأخرى. ويذكر التقرير أن التوسع في الذكاء الاصطناعي يعتمد بتزايُد على الديون، إذ يجري تمويل بناء مراكز البيانات عبر سندات وقروض واسعة النطاق، ما يرفع مستوى التعرض العام للنظام المالي إذا تباطأت الإيرادات. ويؤكد التقرير أن الذكاء الاصطناعي أصبح محركاً مباشراً لزيادة الديون الخاصة، وأن ارتفاع تكلفة التأمين على السندات يعكس إدراك الأسواق لهذه المخاطر.
ويستعرض التقرير أيضاً دور العملات المشفرة باعتبارها مؤشراً مبكراً لتغيّر المزاج الاستثماري، مشيراً إلى أن هبوط البيتكوين غالباً ما يسبق تراجع الأصول عالية المخاطر، وأن الانخفاض الأخير في سعره أثار مخاوف من انهيار أوسع، خصوصاً بعدما أصبحت العملات المشفرة جزءاً من محافظ مؤسّسية، ويشير التقرير إلى أن هذا الارتباط يجعل سوق العملات المشفرة قناة فورية لانتقال أي صدمة من الذكاء الاصطناعي إلى باقي الأصول المالية. أما الديون العامة، فيصفها التقرير بأنها العامل الذي يحدّ من قدرة الحكومات على امتصاص الصدمات، موضحاً أن ارتفاع الدين العام إلى مستويات تاريخية يقلص مساحة التدخل عند وقوع أزمة في الأصول، وأن هذا الوضع يزيد احتمالات تحول فقاعة في قطاع معين إلى أزمة مالية واسعة، ويخلص التقرير إلى أن الفقاعات الثلاث تكوّن هندسة مترابطة، وأي فشل لعنصر فيها قادر على دفع العناصر الأخرى إلى الانهيار.
تظهر السجلات التاريخية للأزمات المالية، أن معظم الفقاعات الكبرى التي أصابت الاقتصاد العالمي خلال القرن الماضي نشأت من داخل النظام الرأسمالي العالمي في مركزه الرئيسي (الولايات المتحدة الأميركية). ويعود ذلك إلى أن الأسواق الأميركية هي القلب المالي للنظام الرأسمالي المعاصر، إذ تتقاطع أكبر البورصات، وأعمق أسواق السندات، وأكبر الشركات متعددة الجنسيات. وتشير البيانات التاريخية للأزمات إلى أن الكساد الكبير عام 1929، وفقاعة الدوت كوم عام 2000، وأزمة الرهن العقاري عام 2008 جميعها انطلقت من الولايات المتحدة قبل امتدادها إلى بقية العالم عبر قنوات التمويل والتجارة وتدفقات رأس المال.
ويعزّز تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي هذا الارتباط البنيوي، إذ يذكر أن نحو نصف مراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي تقع داخل الولايات المتحدة، وأن الشركات الأميركية هي الأكثر اقتراضاً لتمويل توسع البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، كما تؤكد "بلومبيرغ" أن الشركات الأميركية قادت موجة إصدار سندات تجاوزت 90 مليار دولار منذ سبتمبر/أيلول الماضي، ما يجعل الفقاعة الرقمية، في جوهرها، ظاهرة نابعة من مركز الرأسمالية العالمية.
أما فيما يتعلق بفقاعة العملات المشفرة، فيشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أنّ الجزء الأكبر من نشاط التداول يجري عبر منصات أميركية، وأن تراجع البيتكوين أصبح مؤشراً مبكراً لتحول المزاج الاستثماري العالمي. ووفق صندوق النقد الدولي، يشكل الدولار 58% من الاحتياطيات العالمية، وأن الديون السيادية حول العالم مسعرة بالدولار، ما يعني أن أي اضطراب داخل النظام المالي الأميركي، باعتباره مركزاً للرأسمالية العالمية، يمتلك القدرة البنيوية على توليد موجة عدوى مالية تتجاوز الحدود بسرعة. ولهذا؛ فإن أي خلل مالي داخل الولايات المتحدة، مهما بدا محدوداً في بدايته، يميل بحكم البنية إلى التحول إلى اضطراب عالمي واسع ينتقل عبر الأسواق المترابطة التي يقوم عليها النظام الرأسمالي الحديث.
يشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن انفجار أي من الفقاعات الثلاث قد يسبب ألماً اقتصادياً دولياً قصير المدى، لكنه قد يقود أيضاً إلى تحولات طويلة الأمد تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي. ويرصد التقرير ثلاثة مسارات محتملة دون أن يسميها سيناريوهات مباشرةً.
فالمسار الأول يتمثل في تصحيح مؤلم لكنه قابل للاحتواء، إذ ينخفض تقييم الذكاء الاصطناعي بعد موجة استثمارات ممولة بالديون، وتتراجع العملات المشفرة بعد انخفاض الشهية للمخاطر، من دون أن يتحول ذلك إلى أزمة نظامية. ويطرح التقرير هذا المسار حين يذكر أن الفقاعات تسبب ألماً قصير المدى عند انفجارها، لكنها قد تترك وراءها بنية تحتية ذات قيمة طويلة الأجل، في إشارة إلى أن مراكز البيانات الجديدة، رغم كلفتها العالية، قد تصبح ركيزة للنمو لاحقاً.
أما المسار الثاني فيتشكل إذا حدث انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي أولاً، إذ يحذر التقرير من أن مراكز بيانات قدرت قيمتها بمليارات الدولارات قد تترك بلا استخدام، وأن الشركات لن تكون محصنة، وفق التحذير المباشر لرئيس "غوغل". ويشير التقرير إلى أن تراجع الذكاء الاصطناعي سيضرب العملات المشفرة التي وصفها بأنها مقياس مبكّر لتراجع الأصول الخطرة، ثم ينتقل الضغط إلى الديون التي بلغت مستويات غير مسبوقة. وهذا يشكل المسار الأكثر تشابكاً بين الفقاعات الثلاث.
أما المسار الثالث فهو المسار الأسوأ، ويظهر في الجزء الذي يناقش الدين العالمي، إذ يذكر التقرير أن تراكم الديون العامة والخاصة إلى أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج العالمي يجعل الحكومات أقل قدرة على التدخل عند وقوع صدمة. وعند هذا الحد، قد يتحول انفجار إحدى الفقاعات إلى أزمة مالية واسعة، لأنّ ارتفاع تكاليف التأمين على السندات، إلى مستويات، اقتربت مما كانت عليه في 2008، ما يعني أن الأسواق بدأت فعلياً في تسعير المخاطر النظامية. ويخلص التقرير إلى أن المستقبل يتوقف على مدى قدرة الحكومات والشركات على امتصاص تباطؤ الإيرادات قبل تحول الضغط إلى أزمة دين.




