زيارة محمد بن سلمان واشنطن تواجه التخريب الإسرائيلي

زمن برس، فلسطين: زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الولايات المتحدة نتيجة لجهود مشتركة دامت عدة أعوام في اتصالات هادئة بين واشنطن والرياض، وتغلق صفحة مرحلة من التوتر سادت خلال ولايتي الرئيسين الديمقراطيين السابقين باراك أوباما وجو بايدن. وهذه الزيارة تتويج لمسار طويل سيؤسس لتحالف استراتيجي بين الجانبين، حيث جرى توقيع اتفاقيات مهمة عدة في مجالات الدفاع المشترك، ومبيعات الأسلحة، والتعدين والمعادن النادرة، والرقائق والتقنيات المتقدمة، إضافة إلى ملفات الاستثمار والصحة والثقافة، وهي اتفاقيات من شأنها أن تُعمّق العلاقات بين البلدين بشكل كبير.
وبحسب تصريحات سعودية وأميركية واكبت الزيارة، التي جرت الثلاثاء الماضي، فإن المراسم وجهت رسائل عن مدى الاهتمام الأميركي بالضيف السعودي، لأنها كانت مختلفةً بكل المقاييس. فالحفاوة كانت واضحة جداً في الاستقبال، بدءاً من موكب الخيول، وصولاً إلى تحليق المقاتلات والطلقات الترحيبية بالمدفعية. وقال الباحث الأميركي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط باول سوليفان، في تصريح صحافي أخيراً: "لا أتذكر استقبالاً لزعيم أجنبي بهذا القدر من الفخامة في التاريخ المعاصر".
أصرّت الرياض على أن تكون الاتفاقيات ذات صبغة قانونية، أي أن يُقرّها الكونغرس
كادت زيارة محمد بن سلمان تتأجل لو لم تستجب واشنطن لكل الطلبات التي تقدمت بها الرياض فيما يخص ترقية الشراكة درجة جديدة، تُضاف إلى اللقاء التاريخي بين الملك الراحل عبد العزيز والرئيس الراحل فرانكلين روزفلت قبل ثمانية عقود على متن السفينة كوينسي قبالة الساحل السعودي على البحر الأحمر، ويتمثل ذلك باتفاقية الدفاع. وأعطى محمد بن سلمان للزيارة أهمية استثنائية، إذ رافقه قرابة ألف شخص، شارك قسم كبير منهم في منتدى الاستثمار، الذي ركز على ملفات الأمن والذكاء الاصطناعي والطاقة النووية السلمية.
احتفاء أميركي بولي العهد السعودي
يأتي قسط من الاحتفاء الأميركي بولي العهد السعودي رداً على الاستقبال الذي حظي به الرئيس الأميركي دونالد ترامب في زيارته الرياض في مايو/ أيار الماضي، والتي اعتبرتها السعودية نقطة انطلاق نحو إعادة تموضع إقليمي في ظل تحولات كبرى تشهدها المنطقة. وكانت ناجحة على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث نظمت السعودية لقاء قمة بين ترامب وقادة دول مجلس التعاون الخليجي، كما جمعت الرئيس الأميركي بالرئيس السوري أحمد الشرع، والذي نجم عنه رفع العقوبات عن سورية، بالإضافة إلى التوصل لتصوّرات مشتركة لوقف حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، والمحادثات الأميركية الإيرانية، التي حرصت طهران على وضع الرياض بما وصلت إليه. وجاء ذلك ضمن سعي الرياض إلى استثمار الزيارة لوضع أسس محور توافقي جديد في المنطقة، في ضوء تراجع الدور الإيراني بعد التطورات الأخيرة في سورية. كذلك شملت التفاهمات الأمنية والسياسية قضايا مثل السودان وأمن البحر الأحمر واليمن ولبنان.
عمل محمد بن سلمان على توظيف علاقاته المتميزة مع ترامب، وحاول خلال الزيارة الحصول على أكبر قدر من المزايا التفضيلية لبلاده، والتي يمكن أن تدوم ولا تتأثر بتغير الإدارات الأميركية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وأصرّت الرياض على أن تكون الاتفاقيات ذات صبغة قانونية، أي أن يُقرّها الكونغرس، لتصبح اتفاقيةً بين دولتين، خصوصاً أنه ليس هناك إجماع داخل مجلس النواب الأميركي على تزويد الرياض بالطاقة النووية السلمية، وتوفير مظلة نووية للسعودية على غرار اليابان، وتزويدها بالأسلحة الأميركية المتطورة، وبعض التكنولوجيات المتطورة. ويتأكّد من خلال الاتفاقيات التي وُقِّعت أهمية الأمن بالنسبة للسعودية، وقد أبدت الإدارة الأميركية تجاوباً كبيراً في هذا المجال، ويهمها أن تبتعد الرياض عن بكين. وقد كان واضحاً أن الرياض حرصت على تبيان علاقاتها مع الصين، التي تعتمد على التجارة والتكنولوجيا المتطورة، باستثناء تلك التي تخصّ الأمن والذكاء الاصطناعي.
تمسك محمد بن سلمان بحل الدولتين
إزاء ذلك، يبدو أن التطور المهم في العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية وبلوغها مستوى الشراكة الاستراتيجية لقي صدى سلبياً في إسرائيل، وذلك نتيجة لمسألتين. الأولى، منح السعودية صفة الحليف العسكري من خارج حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وبيعها طائرات "أف 35" تتمتع بنفس المواصفات التي زودت بها أميركا إسرائيل، إلى جانب أنظمة دفاع وهجوم صاروخي متقدمة، بالإضافة إلى مفاعلات نووية. والثانية التفاهمات السياسية بخصوص سورية ولبنان وإيران والقضية الفلسطينية، وتمسك محمد بن سلمان بمسار حل الدولتين شرطاً للتطبيع مع إسرائيل. ويشار هنا إلى أن تل أبيب كانت تعول على أن ينجح ترامب في تحقيق اختراق في هذا الملف، ولكن ذلك لم يتحقق، وبقي الخلاف، وأعلن كل طرف تمسكه بوجهة نظره. وبحسب مصدر سعودي، لـ"العربي الجديد"، فإن موقف محمد بن سلمان من التطبيع مع إسرائيل يختلف عن الإمارات ومصر، والسعودية ليست في وارد أي علاقات دبلوماسية أو سياحية، وستكتفي في المرحلة الأولى بفتح مجالات الأعمال والتكنولوجيا والأمن تدريجياً.
لقي التطور المهم في العلاقات بين أميركا والسعودية صدى سلبياً في إسرائيل
وخضعت هذه المسألة إلى مباحثات مطولة مع الإدارة الأميركية السابقة، وجرى التوصل إلى مسودة اتفاقية خلال اللقاء الأخير الذي جمع محمد بن سلمان مع مستشار الأمن القومي السابق جاك سوليفان في مدينة الظهران السعودية في 19 مايو/ أيار 2024. وتحدثت وسائل الإعلام السعودية في حينه عن التوصل إلى "صيغة شبه نهائية" في شأن "الاتفاقية الأمنية الاستراتيجية"، المفترض أن تكون الأولى من نوعها بين الولايات المتحدة ودولة عربية على الإطلاق. وسرّبت أوساط أميركية أن فرق العمل المختصة بإنجاز اتفاق السعودية وأميركا قد أنهت العمل به، وبقي أن تقوم الإدارة الأميركية بإعلانه من ضمن صفقة شاملة، تشمل التطبيع بين السعودية وإسرائيل، في مقابل موافقة الحكومة الإسرائيلية على إعلان دولة فلسطينية.
خيّب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، آنذاك، أمل إدارة بايدن ورفض إصدار إعلان يوافق من حيث المبدأ على مسار حل الدولتين، وهذا ما يفسر عمليات التخريب التي يقوم بها لإجهاض مخرجات الزيارة التي لم تراع واشنطن فيها التحفظات الإسرائيلية على قيام علاقات متميزة مع السعودية، وخصوصاً لجهة صفقة طائرات "أف 35" والطاقة النووية السلمية، التي تراود تل أبيب خشية من تحويلها مستقبلاً في الاتجاه العسكري لإنتاج أسلحة. السؤال الأهم وهو التخصيب، هل ستتخلّى عنه السعودية، كما فعلت الإمارات بموجب اتفاقية تحد من قدرات التخصيب أم إنها ستصر على الاحتفاظ به؟ وإذا تخلت عنه، فستطلب في المقابل حماية أميركية أقوى.
ونظراً لكل هذه الاعتبارات تابعت الأوساط السياسية والأمنية داخل إسرائيل قمة محمد بن سلمان وترامب، وجرى النظر إليها على أنها محطة حاسمة قد تحدد مستقبل المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وموقع نتنياهو في المرحلة المقبلة. والنقطة المهمة في هذا المجال هي الفصل بين مساري التطبيع السعودي الإسرائيلي واتفاق السعودية وأميركا، حيث لم يتم النص على موضوع التطبيع في الاتفاقيات الثنائية، كما كان مطروحاً من قبل إدارة بايدن، التي عملت على إقناع إسرائيل بأن الموضوع لصالحها، وإذا لم تستجب فستعمل على فصل الموضوعين، ولكن نتنياهو لم يغير موقفه. وقد قام ترامب بذلك، والسؤال المهم هنا يتعلق بمسألة تمرير الاتفاقية في الكونغرس، وهي تحتاج إلى ثلثي الأصوات، وكان إشراك إسرائيل في الاتفاقيات من شأنه أن يسهل ذلك، وإلا فإنها قد تتعرض للعرقلة.
وترى أوساط مراقبة أن الزيارة أتاحت لولي العهد فرصة لعرض النهج السعودي لبدء عملية استقرار الشرق الأوسط والخليج، حيث حاول إقناع ترامب بأن انضمام الدول العربية إلى "اتفاقيات أبراهام" يتطلب اتخاذ خطوات أساسية، تبدأ بوضع خريطة طريق لتنفيذ حل شامل ودائم، بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية، وهو الحل الوحيد القادر على تحقيق استقرار مستدام في الشرق الأوسط، ووضع حد للاعتداءات والتوغلات الإسرائيلية في سورية ولبنان.
ويُعدّ الدعم الأميركي لسورية في هذا الوقت أمراً بالغ الأهمية للرياض، إذ إن زعزعة استقرار السلطة الجديدة في دمشق قد تُفيد التدخل الإيراني، الذي ستستغله إسرائيل بعد ذلك لمزيد من تفتيت البلد. وتأتي الهواجس السعودية هنا، ليس من باب الموقف فقط من حل المسألة الفلسطينية واستقرار سورية ولبنان، بل من الخشية من هيمنة إسرائيل على المنطقة، وتوجه نتنياهو، الذي عبر عنه في أكثر مناسبة، لفرض النفوذ الإسرائيلي على الشرق الأوسط، وهذا أمر من شأنه أن يعيد إيران إلى المنطقة، ذلك أنها على الرغم من ضعفها، لا تزال قادرة على تفعيل شبكاتها، بما في ذلك الأذرع الموالية لها، في لبنان والعراق واليمن. وإلى ذلك تبدو الاتفاقية الأمنية مع واشنطن أكثر أهمية بالنسبة للرياض من الحصول على طائرات "أف 35".




