سكين مقابل سكين..ورشاش مقابل رشاش

يمكن القول أن استشهاد باسل الأعرج شكّل صدمة للقطاع الثقافي الفلسطيني، القطاع الذي يعمل في مجال الفكر والكلمة. بل لعلني أقول أنه شكّل لطمة مباشرة في وجه هذا القطاع. لطمة دامية. فمنذ زمن طويل انتهت في هذا القطاع، أو خففت إلى حد بعيد، ظاهرة تورط المثقفين بحدة في الصراع، صراع الموت والحياة الذي تعيشه فلسطين. إذ وجدت غالبية هذا القطاع لنفسها ركنا قصيا تراقب فيه الصراع من بعيد، ولا تشارك فيه عمليا إلا عبر أضعف الإيمان. ثم فجأة طلع لهم باسل الأعرج لكي يعيدهم باستشهاده، وجزئيا بكلماته، إلى نقطة الصفر. أي إلى النقطة التي كان غسان كنفاني قد وضع الحياة الثقافية الفلسطينية (والعربية) فيها في السبعينات من القرن الماضي، نقطة التورّط القصوى والاستشهاد، نقطة الأسئلة الكبرى والأجوبة الكبرى. "وجدت أجوبتي"، يقول باسل الأعرج. ويضيف: "هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم؟". الأمر يتعلق بالأسئلة والأجوبة. الشهادة فقط وسيلة لطرحها.
إنها قضية
بناء عليه، أستطيع القول أن استشهاد باسل وهو يمسك بالرشاش شكّل محاولة لإعادة التوازن إلى القطاع الثقافي الفلسطيني. فقد مر هذا القطاع بعد استشهاد كنفاني بمرحلة كانت الكتابة فيها مرتبطة بالشهادة. فالكاتب الأكثر أصالة هو الشهيد، أو الأشد قربا من الشهادة. وقد عانت الكتابة والثقافة إلى حد ما من هذا. لكن مع الزمن، وخاصة بعد اتفاق أوسلو، تحللت الكتابة والثقافة تدريجيا من شروط تلك المرحلة، وحل تطرف معاكس محل تطرفها: الثقافة والكتابة هي بشكل ما تحلل من الصراع وتحكّماته. شرط وجودها الفعلي هو التنفس بعيدا عن الصراع إلى حد ما. مقتل باسل الأعرج، بالرشاش، نهاية لهذه المرحلة. فلسنا هنا أمام مثقف متورط في الصراع حتى نهايته القصوى، بل أمام مثقف يمسك بالرشاش ويقاتل حتى آخر طلقة. مثقف قاتل كند كامل، كما قالت عشرات النصوص المنشورة على صفحات الفيسبوك. كانت حياته كلها تسير، في ما بدا لي، نحو تطبيق جملة غسان كنفاني في رواية ما تبقى لكم: "لا تمت إلا ندا". لقد كانت أجوبته مشتقة من هذه الجملة، من هذا الجواب الذي صاغه كنفاني.
لم يمت باسل الأعرج قبل أن يكون ندا. وهو قد تجاوز كنفاني رمزيا العملي، لا النظري. فكنفاني فجرت جسده سيارة مفخخة. أي أنه لم يمت عمليا وهو يواجه. أما الأعرج فقد وقف ندا: سكين مقابل سكين، ورشاش مقابل رشاش.
من أجل هذا، سيكون استشهاد باسل الأعرج حدثا مركزيا في الحياة الثقافة الفلسطينية. سيعيدها إلى نقطة الصفر، النقطة التي تطرح فيها الأسئلة الكبرى بلا مواربة ولا مجاملة.