تأشيرة إلى القدس… سفارة في حقل ألغام

عوديد شالوم واليئور ليفي

التقينا بالمقيمة فريدة زبرتسكي قرب منصة الاستقبال في مدخل فندق «دبلومانت». لم تسحب معها حقيبة سفر. فهذا كان ذات مرة فندقا مقدسيا ويستخدم اليوم منزلا عاما للمهاجرين كبار السن من دول رابطة الشعوب. وهو يقع في جنوب شرق المدينة، في هوامش حي ارنونا، في طرف شارع دافيد بلوسر، بمحاذاة القنصلية الأمريكية العامة.
اعيد توزيع الغرف الـ 600 في الفندق لتصبح 510 غرفة، بمساحة 16 متر مربع في معظمها. ويسكن فيها اكثر من 500 شيخ من الناطقين بالروسية معظمهم يعيشون على مخصصات التأمين الوطني ووزارة الاستيعاب.
وكانت وزارة الخارجية الأمريكية اشترت الفندق في حزيران/يونيو 2014 من دوف شيف. فالأمريكيون فكروا لسنوات إلى الامام. فمبنى الفندق والارض الذي يقام عليها يسمحان بتوسيع القنصلية، التي تقدم الخدمات لسكان غرب وشرق القدس، لتصبح نطاقا واسعا يمكنه أن يكون سفارة. وهذا لا يعني أن الأمريكيين تحت إدارة أوباما كانوا يفكرون بنقل السفارة من تل ابيب إلى القدس. فأوباما لم يعتزم عمل ما لم يعمله اي رئيس قبله.
ولكن ما قد يكون خطط له كرؤيا للاخرة يبدو اليوم أقرب من أي وقت مضى. إذ سيدخل إلى البيت الابيض دونالد ترامب الذي وعد في اثناء حملة الانتخابات بنقل السفارة، والاشخاص الذين يحيطونه يوضحون بأنه مصمم على أن يفي بوعده. فقد قالت الاسبوع الماضي كليان كونوي، مديرة حملة انتخابات ترامب ان «نقل السفارة هي خطوة توجد في اولوية عليا جدا من ناحية ترامب.

ترامب لا يتلعثم

في منظومة العلاقات بين الدولتين يعتبر نقل السفارة من تل ابيب إلى القدس مسألة حساسة. ففي العام 1995 بادر الجمهوري نيوت غرينغريتش إلى قانون لنقل السفارة إلى القدس. وقد اجيز القانون مع نجمة تحذير في شكل مادة تمنح الرئيس الصلاحية بتأجيل تطبيق القانون لاعتبارات «مصلحة الامن القومي». ومنذئذ وعد بيل كلينتون وجورج بوش الابن في حملتيهما للانتخابات بتطبيق القانون، ولكن ما أن دخلا إلى البيت الابيض حتى وقعا على امر رئاسي في كل نصف سنة يؤجل تنفيذه.
ولم يكن الأمريكيون وحدهم هم الذين اخذوا جانب الحذر في تنفيذ هذه الخطوة. فمحافل في الحكم الإسرائيلي ايضا حذرت على مدى السنين من أن نقل السفارة إلى القدس من شأنه باحتمالية عالية أن يثير موجة عنف حادة من الفلسطينيين تنتشر من شرقي المدينة إلى ارجاء الضفة الغربية. وينبع التخوف من مكانة القدس الخاصة حسب القانون الدولي.
ففي قرار الأمم المتحدة 181 في 29 تشرين الثاني 1947 تقرر أن تكون القدس جسما منفصلا (corpus separatum) بحيث لا تكون تحت سيطرة يهودية أو عربية. وتأكد هذا الموقف مرة اخرى في قرار 194 بعد حرب الاستقلال. ومنذئذ وصفت مكانة القدس بأنها «غير محلولة». وهكذا نتج بأنه باستثناء إسرائيل لا توجد اي دولة في العالم تعترف بالقدس كعاصمة إسرائيل، ولا توجد في المدينة حتى ولا سفارة واحدة. والسفارتان الاقرب إلى القدس هما سفارتا ارغواي وبوليفيا وكلتاهما توجدان في مفسيرت تسيون، التي لا تعتبر جزءا من المدينة.
هذا الاسبوع تجولنا بين المواقع المختلفة في القدس التي يوجد فيها نشاط لممثليات أمريكية وفي مواقع بملكية وزارة الخارجية الأمريكية ـ القنصلة في شارع أغرون، القنصلية في حي ارنونا ونطاق فندق دبلومانت والمبنى في شارع نابلس والذي اغلق مؤخرا والارض المفتوحة في نطاق اللنبي بين غرب وشرق المدينة ولم يبنَ بعد.
كل واحد من هذه المواقع يمكنه أن يشكل مكانا ممكنا للسفارة الجديدة، وكل واحد منها يحمل معاني محملة بالمصائر، ومتفجر. هل سيكون ترامب الرئيس الاول في التاريخ وفي العالم الذي يعترف بالقدس كعاصمة إسرائيل؟ وبأي قدس سيعترف: تلك التي قبل 1967 أم القدس الكبرى، بالاحياء والقرى والسكان الفلسطينيين الذين ضموا اليها.
مبدئيا، يتطلب الانتقال الكثير من التفكير والحذر. من ناحية لوجستية، لا يحتاج تقريبا إلى أي شيء. فمركز النشاط الحالي، السفارة في تل أبيب هو هدف محصن، ولكن القنصليات في القدس هي الاخرى محمية بأعلى مستوى. إذا تقرر نقل كل مركز الثقل إلى القدس فإن الامر قابل للتنفيذ. من ناحية أخرى يحتمل أن يبقى معظم النشاط في تل أبيب فيما ينتقل مكتب السفير فقط إلى العاصمة موضع الخلاف. ويقول رئيس بلدية القدس نير بركات انه «في المدى الفوري يمكن أن يتقرر صباح غد نقل مقر السفارة إلى مكان يرفرف فيه منذ الان علم الولايات المتحدة. هذا لا يحتاج إلا إلى يافطة جديدة ونقل كرسي وطاولة».

«مسألة القدس انتهت»

عملت الممثلية الأمريكية الاولى في القدس من حارة النصارى في البلدة القديمة ابتداء من العام 1844. في نهاية القرن التاسع عشر انتقلت القنصلية إلى مبنى عثماني في شارع القنصليات، الذي اصبح لاحقا شارع الانبياء. في 1912 دعت القنصلية مرة اخرى شركة نقليات وانتقلت إلى منزل سكني كبير بجوار مقبرة ماميلا. هذا المبنى، في شارع اغرون رقم 18، يعمل حتى اليوم كقنصلية أمريكية ويمكنه أن يشكل مكان للسفارة إذا ما تقرر ذلك.
مئير ترجمان، نائب رئيس البلدية والقائم بأعماله ورئيس اللجنة المحلية للتخطيط والبناء يقول انه على مدى السنين يشكو جيران القنصلية من المشاكل التي تنشأ جراء نشاطها.
في 1952 تحت الحكم الاردني، بدأت تعمل في شارع نابلس في شرقي المدينة قنصلية أمريكية خدمت الفلسطينيين سكان القدس والضفة، بينما واصلت القنصلية في شارع أغرون خدمة سكان غربي المدينة. وبعد حرب الايام الستة انقسم العمل بين الممثليتان: القنصلية في شارع نابلس قدمت الخدمات القنصلية فيما عملت القنصية في شارع أغرون في المواضيع السياسية.
في 2003 بدأت اقامة القنصلية الجديدة في حي ارنونا. وهذا نطاق هائل من نحو 19 الف متر مربع خطط مسبقا لان يكون أيضا كخيار للسفارة مع التكييفات اللازمة.
وأدى افتتاح القنصلية مع حلول العام 2009 إلى اغلاق الممثلية في شرقي المدينة. وعندما سرنا هذا الاسبوع حول السور العالي للقنصلية في شارع نابلس، حيث كانت على مسافة غير بعيدة منه بوابة مندلبوم وجدناها مكفرة ولكنه لا تزال محروسة جيدا. وتوقف نشاطها قبل ست سنوات وتعمل اليوم كمركز ثقافي أمريكي، وفرع للقنصلية العامة في القدس.
تملك وزارة الخارجية الأمريكية عقارا آخر في المدينة. بعد نحو ثلاث سنوات من سن قانون نقل السفارة إلى القدس في الكونغرس الأمريكي، اتخذت الحكومة الإسرائيلية خطوة بهدف تشجيع الأمريكيين على تنفيذ الانتقال.
ومن خلال مديرية أراضي إسرائيل استأجرت وزارة الخارجية الأمريكية قطعة أرض بمساحة 31 دونم في زاوية شارعي الخليل ويانوفسكي. وهذه قسيمة بور مسيجة مع قليل جدا من الاشجار ومعروفة باسم «نطاق اللنبي» كانت حتى 1967 على خط التماس بين غرب وشرق المدينة. وقد استأجرت الولايات المتحدة الارض لمدة 99 سنة مقابل دولار أمريكي واحد في السنة.
في عقد الاستئجار كتب أن في الارض سيقام مبنى دبلوماسي، ولكنه لم يتحدد أي نوع من الممثلية سيكونه المبنى. وبعد وقت قصير من ذلك ادعى الفلسطينيون بأن النطاق في معظمه كان بملكية فلسطينية حتى العام 1948، وان إسرائيل صادرته من مالكيه. اما الأمريكيون فادعوا بأنه قبل التوقيع على العقد لم يكن اي دليل أو شهادة على ملكية عربية على الارض، ولكن كان واضحا بأنهم يفضلوا إلا يدخلوا انفسهم في مشكلة قانونية ـ سياسية.
ورغم الحذر الأمريكي، يقول ترجمان من البلدية ان اللجنة المحلية للتخطيط والبناء تعاملت مع مكانة الارض وفقا للرؤيا المستقبلية: فمخطط البناء في المنطقة ومنذ عقد التأجير لا يسمح بالبناء حول هذه الارض عاليا بنصف قطر 300 متر. واذا ما بنيت هناك في المستقبل سفارة، فإن هذا سيكون جزءا من الترتيبات الأمنية التي يطالب بها الأمريكيون».
كما أن خيار فندق دبلومانت لا يبدو واقعيا في المدى الزمني الفوري. فقد تم تمديد عقد الايجار لوزارة الاستيعاب هناك حتى 20 حزيران 2020. واضح أن طبيعة السكان، حالتهم الاقتصادية المتردية واعمارهم الكبيرة لا تسمح بإخلاء فوري. وحتى بعد مغادرة الشيوخ للمكان يحتاج المبنى إلى اعادة ترميم جذرية. وكما يبدو المبنى هذا الاسبوع، لعله من الضروري هدمه واقامة مبنى جديد مكانه. ومثل هذا المشروع كفيل بأن يستغرق سنوات طويلة.
قنصل إسرائيل السابق في نيويورك آسي شريب، يعتقد بأن بركات يبالغ قليلا في تفاؤله، ومن جهة اخرى ليس مستعدا لان يقدر بيقين بأن ترامب سيتراجع عن وعده. ويقول: «هذه خطوة ستشكل تغييرا ذا معنى هائل في السياسة الأمريكية في المنطقة. فمن اللحظة التي تنقل فيها السفارة إلى القدس فإنك تطلق للفلسطينيين رسالة بأن مسألة القدس انتهت. هذه خطوة بعيدة الاثر. قول يقضي بأنه يمكن الحديث في كل المواضيع باستثناء القدس. لو كان ترامب سياسيا عاديا لقلت ان لا أمل لهذا. ولكن ترامب ليس مجرد سياسي آخر. فقد انتخب كي يهز المسلمات القديمة».

حمامة السلام اختفت

الفلسطينيون من جهتهم متحفزون لدخول الرئيس المنتخب إلى البيت الابيض. فانتصار ترامب في الانتخابات فاجأ القيادة الفلسطينية جدا. وفي ذروة الحملة لم يحافظوا على ضبط دبلوماسي للنفس كلما اطلق ترامب تصريحات تروق لاذان اليمين في إسرائيل. في ايلول/سبتمبر، بعد لقاء مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حين قال ترامب انه إذا انتخب رئيسا فستعترف الولايات المتحدة بالقدس كعاصمة إسرائيل غير قابلة للتقسيم، نشر امين سر اللجنة التنفيذية لـ م.ت.ف صائب عريقات بيانا غاضبا قال فيه ان «هذا التصريح يمثل استخفافا بالقانون الدولي. تصريحات سابقة لمستشاره في الشؤون الإسرائيلية، ديفيد فريدمان، تشير إلى هجر تام لحل الدولتين، القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة.
لم يتصور عريقات بأنه بعد ثلاثة اشهر من ذلك سيكون ترامب هو الرئيس المنتخب وفريدمان هو سفيره المرشح لإسرائيل. وحين ظهرت التقارير عن امكانية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس قال عريقات ان هذه خطوة ستؤدي إلى هدم المسيرة السلمية وستجر المنطقة إلى مسار الفوضى. وعندما تحدثنا اليه هذا الاسبوع بدا قلقا جدا. إذ قال ان «هذه ستكون نقطة انعطاف ليس فقط للفلسطينيين بل ولباقي العالم العربي ايضا. إذا اعتزمت الولايات المتحدة الاعتراف بضم شرقي القدس فإن السلطة الفلسطينية لن يكون لديها ما يجعلها تعتقد بأن الولايات المتحدة ستكون شريكة للسلام، وسنكون ملزمين باتخاذ نهج جديد واعادة التفكير بفكرة المسيرة السلمية. وكما قلت سابقا لن تكون حاجة للاعتراف بإسرائيل».
وعاد عريقات من زيارة إلى الولايات المتحدة لخوض حوار وصف بأنه «استراتيجي». ولم تولد الزيارة أملا كبيرا للفلسطينيين لا بالنسبة للمستقبل القريب ولا للبعيد.
ومع ذلك فقد قال عريقات الذي وصف الحوار بأنه ممتاز «اعرف أن الولايات المتحدة هي دولة مؤسسات ولهذا فإني اؤمن بأن السفارة ستبقى حيث هي اليوم».
وبعد حديثنا مع عريقات توجهنا للقاء زياد الحموري الذي يدير مركز القدس لحماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لسكان شرقي المدينة. وعند لقائنا الحموري كان على طاولته عدد يوم الثلاثاء من صحيفة «القدس» وفيها كاريكاتير لصورة ترامب يمسك قفصا مليئا بحمامات السلام البيضاء التي نجحت في كسر شبك القفص والاختفاء في الافق. الرسالة واضحة. انتخاب ترامب يدفع الفلسطينيين إلى فقدان الامل، الهزيل على اي حال بتسوية سياسية.
ويقول الحموري ان «الفلسطينيين في شرقي المدينة يعتبرون وجود إسرائيل هنا احتلالا. أنا اؤيد اتفاقات اوسلو وكذا قسم كبير من الجمهور الفلسطيني، واريد أن اذكر الأمريكيين بأن هذه الاتفاقات وقعت في ساحة البيت الابيض. وفي الاتفاقات تعتبر القدس واحدة من المسائل التي يجب البحث فيها.
«اذا فتحت الولايات المتحدة سفارة في القدس فسيكون هذا اعترافا بالسيادة الإسرائيلية على شرقي المدينة وأن شرقي المدينة هو جزء من عاصمة إسرائيل. الجمهور الفلسطيني لن يترك هذا يمر بصمت. فهذا شيء لا يمكن لنا أن نتوقع كيف يتطور ولكني بالتأكيد اعتقد بأنه سيكون ردا حادا. هذه ليست فقط نهاية مسألة القدس. فبدون شرقي القدس لا دولة فلسطينية. وهكذا فإن هذه خطوة معناها انهاء المسألة الفلسطينية. بأنه لم تعد قصة فلسطينية. فهل حقا ترون هذا يحصل؟».

يديعوت أحرونوت