عن الأجهزة الأمنية الفلسطينية .. بصراحة
أتوجه في مقالي هذا إلى جميع المعنيين من القيادات السياسية والنخب وذوي العلاقة ، بما فيها وسائل الإعلام والشخصيات الاعتبارية والأكاديمية ، وكل شخصية يمكن لها التأثير في محيطها ، وذلك للحديث المؤلم والجارح والمحرج أيضاً حول الاشكاليات الأمنية التي يعيشها وطننا ومواطننا .
فالجميع يعرف مدى صعوبة وضيق الهوامش التي تتحرك بها ومن خلالها الأجهزة الامنية الفلسطينية ، وأولى هذه الصعوبات وأكثرها ضيقاً وانخفاضاً هو السقف السياسي الذي حدد مهام هذه الأجهزة وأعدادها وعدتها ومجال حركتها وقدرتها ، وأخيراً – وربما الأكثر أهمية من كل ما ذكر – هو العقيدة الأمنية التي يتم العمل من خلالها ومن أجلها .
السقف السياسي هذا ، الذي لم يخلق ولم ينشئ انطباقاً أو تماثلاً بين الوطن وبين الدولة ، وبين الدولة وبين المواطن ، هذا السقف السياسي وضع الأجهزة الامنية الفلسطينية بين خيارات مرة ، فالأمن هنا يكتسب معانٍ جديدة ، والقانون أيضاً له معانٍ أخرى .
ورغم ذلك كله ، فإن السلطة الفلسطينية بكل مكوناتها ، قبلت اتفاق أوسلو وتبعاته ، وتحملت تعديات الاحتلال وكسره لكل ما تم الاتفاق عليه ، وامتصت آثار عدوان 2002 ، وانتفاضة النفق ، والهبة الجماهيرية في أكتوبر من العام الماضي ، تحملت السلطة كل ذلك من أجل أن تثبت الانجازات التي حققتها على صعيد بناء المؤسسة الفلسطينية وعلى صعيد تثبيت الدولة الفلسطينية في العالم .
استطاعت السلطة أن تثبت قدرتها إلى حد كبير في التحايل والالتفاف على التغول الإسرائيلي من خلال أمرين اثنين ، الاول : الانتقال من هوامش أوسلو إلى فضاء التدويل ، والثاني : هو قدرة السلطة على الحفاظ على أمن مواطنيها رغم كل شيء .
وهذا يعني أن الإخلال بالأمن الداخلي من خلال عمليات الاستزلام وظاهرة القبضايات والأمراء المحليين من تجار المخدرات أو السلاح ، أو من خلال الاستقواء بأي قوة من أي نوع ومن أي جهة ، أو من خلال العمليات المقصودة بالتخريب والتعويم والفلتان ، كل ذلك يعني ضرباً لجهود السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية برسم مستقبل جديد لهذا الشعب .
وبعيداً عن كل المبررات أو المعاذير التي قد تقدم – وبعضها صحيح – إلا أن الإخلال بالأمن الداخلي هو كارثة حقيقية .
سيقول قائل أو معترض أن السلطة مُقصّرة في تقديم الخدمات أو تقديم المنافذ والفرص لبعض المناطق في الضفة المحتلة ، وهذا صحيح ، وقد يقول ناصح آخر أن السلطة الفلسطينية لا تحمي مواطنيها ، وهذا صحيح جداً ومؤلم جداً ، ولكن ، كل ذلك لا يعني الذهاب إلى خيار الإخلال بالأمن الوطني ، لأن ذلك يعني الانتحار والدمار .
والمخلون بالأمن الوطني كُثر ، فهم نحن أيضاً ، إن الأزمات والصراعات الداخلية بين الأجنحة والأقطاب وعمليات الاستقواء والمغامرات والحركات الاستباقية والمطامع الشخصية ، كل ذلك قد يدعو إلى العبث بالأمن الوطني الفلسطيني ، ولهذا فإن المؤسسة الأمنية الفلسطينية ستكون ولا بد لها أن تكون الضامن الكبير في أية لحظة انفلات لا سمح الله .
وهناك الخصوم السياسيون الذين هم أيضاً لهم أجندات سياسية وأمنية متعددة ، قد تقود في إحدى سيناريوهاتها الشنيعة إلى الالتقاء مع مصالح الاحتلال لا سمح الله ، وعلى هؤلاء أن يعرفوا أن العبث بالأمن الوطني هو عبث بمصير الشعب والوطن كله .
يجب القول أنه من غير المسموح العبث بالأمن الوطني الفلسطيني مهما كانت الأسباب والمعاذير ولو كان بعضها صحيح ومقبول وشرعي .
فإسرائيل معنية جداً بالقول أن السلطة الفلسطينية عاجزة وفاشلة وغير قادرة على الضبط وأنها ليست مصدراً للثقة ، الاحتلال يريد سلطة عاجزة وضعيفة حتى يستطيع اخافتها دائماً واستغلالها دائماً على المستوى السياسي والأمني والدبلوماسي والتمثيلي ، الوضع الأفضل لإسرائيل هو أن تكون السلطة ضعيفة ، ومحتاجة وغير محمية .
إن كل الأطراف التي تريد السلطة ضعيفة وغير قادرة يلتقون جميعاً في هدفٍ واحد يتمثل في القول "أنه كلما كان هناك أمن أقل كلما كانت هناك إمكانية للربح وتسجيل النقاط" ، الأطراف التي أعنيها هي كل جهة تريد أن تحقق مصالحها عل حساب الدم الفلسطيني وعلى حساب رجل الأمن الفلسطيني البسيط .
هذه الأطراف تريد أن تورط الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع شعبها ومع رؤيتها لذاتها ومع عقيدتها الأمنية التي بدأت تتشكل على أسس وطنية ومع مهامها الوطنية .
إن دفع الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى الواجهة ، لتؤدي أو لتقوم بتقديم الحلول هي مسألة خاطئة ، الأجهزة الأمنية لم تكن في يوم من الأيام حلاً أبداً ، لم يكن ذلك في مصر ولا تونس ولا أي مكان آخر .
وبدلاً من توريط الجهاز الأمني في أي فعل أو تصرف أو استغلال ، لابد من تقديم الرؤية السياسية والاجتماعية والاقتصادية بديلاً عن الرؤية الأمنية فقط .
الجهاز الأمني كان دائماً وأبداً أداة تنفيذية لرؤية استراتيجية كبرى ، وهكذا يجب أن يكون لدينا أيضاً ، حتى لا نساهم في مزيد من التورط أو التوريط ، فأمامنا مهمات أكثر صعوبة وأكثر كلفة ، وحذار من محاولة زج أبناءنا الذين نحبهم ونأتمن جانبهم في التحالفات الداخلية ، هؤلاء من حملوا إرثنا "السيء" وهم المهمومين بالوطن ، ويقاتلون على كل الجبهات ، وكلما أخفق مسئول أو بانت عورات الحكومة ، كان المطلوب منهم أن يسدوا الفراغ ، ارحموا المؤسسة الأمنية ، وليقم كل فرد أو مجموعة أو عائلة أو فصيل ، أو حتى الحكومة والنخب السياسية ، بما هو مطلوب منهم ، واتركوا أبناءنا بالمؤسسة الأمنية يقوموا بعملهم .
التجربة التي عاشها قطاعنا الحبيب ما قبل الانقلاب ، تستدعي أن يتذكر الجميع بأن مظاهر الفلتان ومحاولة الخروج على القانون تجعلنا نقف وبكل جراءة خلف المؤسسة الأمنية وأبناءها ، ونحن ننشد الأمن والأمان ونطالبهم بعدم التسامح مع كل من تسول له نفسه أن يخرق القانون أو حتى أن يخرج عن الشرعية ، لأنه بذلك يخدم الاحتلال .