انتهاء الهبّة الفلسطينية

بقلم: 

إذا لم تتجدد الهبّة الفلسطينية التي بدأت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي سريعاً، ستكون قد انتهت بانتظار تجدد المقاومة؛ على شكل هبّة شبيهة، أو شكل آخر. فمع الاحتلال، يصعب تخيل رد فعل سوى المقاومة. لكن بشكل عام، يمكن الآن وضع كشف حساب بنتائج تلك الهبّة، أو بكلمات أدق ما هو الموقف حالياً.

جاءت الهبّة لتعبر عن حالة موضوعية، متمثلة -أولا- في استمرار الاحتلال وسياساته وضغوطه على الأرض؛ وثانيا، في فشل العملية السياسية؛ وثالثا، عدم وجود أفق تنمية اقتصادية متوازنة وناجحة ومستقلة عن الاحتلال وأموال المانحين الذين يمارسون كل أنواع الإملاء والتسلط والتلاعب؛ ورابعاً، عدم تجديد الفصائل وأطر العمل السياسي، وإقصاء الفصائل والاتحادات الشعبية للأجيال الجديدة، فالفصائل تعاني من عدم وجود دماء جديدة يفرزها الشارع، والاتحادات الشعبية -بدءا من الاتحاد العام لطلبة فلسطين، وحتى اتحاد المعلمين والعمال- تعاني التكلس والتهميش، وسيطرة أفراد مهيمنين عليها يسيرونها وفق حساباتهم الشخصية. ويضاف إلى ما سبق ظهور جيل ما بعد "أوسلو" غير المرتبط بالمنظومات الاقتصادية والبيروقراطية الناجمة عن الاتفاقيات. وكل هذا أوجد الهبّة والشكل الذي أخذته.

أخذت الهبّة شكل عمليات فردية ومواجهات من مجموعات شبابية ضد حواجز لجنود الاحتلال والمستوطنين، من دون خطة عمل. وتدرك هذه المجموعات غياب الخطة، لكنها ترفض تكوّن الخطة، وغالبيتها لديها ميل أو ولاء تنظيمي لفصيل أو آخر، ولكنها تتحرك بعد أن يئست من تنظيمها، ومن أن يبادر أحد لوضعه في إطار عمل مخطط. وأثبتت الهبّة فشل وعجز، أو عدم رغبة، مكونات المجتمع السياسي الفلسطيني، في استغلال أو توجيه الطاقة الشبابية واستثمار الحالة الشبابية.

لم يتمكن، أو لم يرغب أي طرف، بدءا من القيادة الرسمية ووصولا إلى فصائل منظمة التحرير والفصائل خارج المنظمة، مرورا بمنظمات المجتمع المدني والاتحادات الشعبية، في الانخراط في الحدث بقوة. وكان الحديث عن الهبّة من باب رفع العتب، وعدم القدرة على التجاهل الكامل، بينما مضت كل الاستراتيجيات، للجميع بلا استثناء، كما هي وشعارها الأساسي محاولة حل الأزمات الحياتية اليومية، وإدارة خلافاتها الداخلية، بين فصيل وآخر، أو داخل الفصائل ذاتها، واستمرار الصراع على مناطق النفوذ الشخصي والفصائلي، أو التنافس في تحقيق مطالب نقابية حياتية.  

استمرت الهبّة أشهراً، تراجعت تدريجياً فيها المواجهات الجماعية على الحواجز، ولعبت قوات الأمن الفلسطينية دوراً في هذا التراجع بشكل مباشر أحياناً، كما في موضوع حاجز بيت إيل (البالوع) الشهير. وفي ذروة الهبّة، حصلت محاولات لنقل الهبّة لمرحلة ثانية، وتولى أسرى محررون وأسر الشهداء دوراً كبيراً في المحاولة، التي شهدت صفحات تذكّر بالماضي النضالي الشعبي القديم المجيد؛ من تكافل في بناء بيوت أسر الشهداء. كما شهدت الهبّة محاولات لأفراد للخروج من دائرة المبادرات الفردية الشخصية للعمل في مجموعات من شخصين وثلاثة، وكل ذلك ذوى تدريجياً. وكانت تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عن "جنون" من يسمح لابنه بالوصول للجنود لطعنهم، وعن سبعين سكينا عثر عليها في مدرسة، في المرحلة التي ذوت فيها الانتفاضة.

فقد الشعب الفلسطيني بعض أجمل شبابه وأطفاله في هذه الهبّة، وقدم التضحيات. لكن الوضع الآن، يتضمن -أولا- أنّ كل الظروف الموضوعية للانتفاض والثورة والمقاومة ما تزال موجودة، بدءا من العوامل الموضوعية المرتبطة بالاحتلال، وصولا للأسباب الذاتية المرتبطة، من جهة، بفشل الأداء السياسي المنظم، من مستويات رسمية وفصائلية ومجتمع مدني وعدم تجديد هذه البنى، ومن جهة ثانية، بوجود إرث نضالي وثوري لدى الشعب وأسره وأفراده، يشكل نبراساً للعمل للأفراد.

لم يتعرض المجتمع الفلسطيني لهزّة أو نكسة كبرى، كما حدث في انتفاضة الأقصى.

تستمر المستويات السياسية المختلفة المنظمة في استراتيجياتها التفاوضية والصراعية الداخلية، مع قلق أقل من الفعل الشبابي على الأرض، ولكنها بذلك تهمل أنّ الواقع والأسباب التي أفرزت الهبّة ما تزال موجودة، وما يزال الجيل الذي انتفض قادرا على التفكير بأساليب جديدة، وبمبادرات أخرى، إن لم يحدث انفجار آخر غير مخطط وغير مدروس أيضاً.

المصدر: 
صحيفة الغد الأردنيّة