رواية الضمان الاجتماعي الفاشلة

بقلم: 

            بدأت الرواية منذ عام 1998، لا منذ العام 2009 كما اعتقدت الحكومة والرئيس السابق لفريق الضمان والرئيس الحالي للجنة الوزارية للحوار، وفيما يبدو أن ذاكرة المكتب الإقليمي لمنظمة العمل الدولية أنشط عندما ظنوا أنها بدأت منذ العام 2000، نظرة بسيطة للمقدمة الواردة في قانون التأمينات الاجتماعية الفلسطيني الملغى (الخطيئة الكبرى) كفيلة بأن تشي متى بدأ العمل على هذا الصعيد، وارتباطه بخلل في قانون الخدمة المدنية لعام 1998 أعقبه خلل في قانون العمل 2000، دفع باتجاه العمل على قانون التأمينات الاجتماعية الذي أحيل من مجلس الوزراء إلى المجلس التشريعي بتاريخ 1/12/1999 بالرقم (63/99/م.و) وجرى إقراره في 2003.
       كانت هناك بوادر أمل , وإن كانت متواضعة في ذاك الوقت ، للعمل على قانون شامل وموحد للضمان الاجتماعي أو التأمينات الاجتماعية بغض النظر عن التسمية، لكن سرعان ما تحطمت الآمال أمام التيار  العكسي الجارف، واندفاع الحكومة واللجان البرلمانية بقوة يستحيل السيطرة عليها، فتفرق دم الضمان الاجتماعي بين القوانين ، ولم يُكتب لفكرة قديمة طموحة لم تجد من يساندها النجاح ، واندفع قانون تقاعد النواب والوزراء والمحافظين بغض النظر عن تسميته الحالية إلى الواجهة وأُقر في تشرين الأول 2004 ، ولحقه قانون التأمين والمعاشات لقوى الأمن وأُقر في كانون الأول 2004، ومن ثم قانون التقاعد العام وأقر في نيسان 2005، وباتت حسابات النفوذ والمصالح وتضاربها سيدة الموقف، فقضي على مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية.
         أمام هذا الحال الرديء ، لم يكن بإمكان السلطة العامة ، إجبار عصبة ممن يتحكمون بمفاصل اقتصاد هش، على تطبيق قانون التأمينات الاجتماعية الصادر  في تشرين الأول 2003 والمنشور في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية) في العدد الثامن والأربعين في كانون الثاني 2004، فمكث يتيماً لا ناصر له، بمواده الثلاثة والسبعين والجداول المرفقة، إلى أن أُلغي بمادة واحدة في 23 آب 2007 قضت عليه وعلى المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية التي لم يُكتب لها أن ترى النور.
         بذات التاريخ، 23 آب 2007، صدر تعديلٌ على قانون التقاعد العام 2005، يقضي بإلحاق القطاع غير الحكومي بالتقاعد العام إلزامياً ، ولائحة تنفيذية في العام 2010 تنص على إلحاق القطاع غير الحكومي بالتقاعد العام وفق جدول زمني متفق عليه مع مجلس إدارة هيئة التقاعد العام، التي كانت تصرخ من شدة الألم، من حال يُرثى له، ولا مُجيب لنداءات الاستغاثة، ولم يكن لذاك التعديل وتلك اللائحة رصيد يُذكر على أرض الواقع، كانت مجرد مناورة تكتيكية ليس إلاّ.
       على طول الطريق، وتحت عناوين وهمية في ذلك الوقت سُميت "إصلاح أنظمة التقاعد" كان هناك من يدبر ويخطط، بهدوء وروية، بمكر شديد، ينتظر الفرصة السانحة للانقضاض على الفريسة؛ فجاء "نظام تقاعد القطاع غير الحكومي" الذي أقره مجلس الوزراء في 18/2/2014، هذا النظام الرديء يكن مدرجاً على الخطة التشريعية للحكومة على الإطلاق، لكنه أُقر دون تردد.
           وزير العمل آنذاك، نقل النظام من يد القطاع الخاص إلى طاولة مجلس الوزراء؛ مرفقاً بمذكرة إيضاحية تجنت كثيراً على قانون التأمينات الاجتماعية الملغى، قال إن حواراً وطنياً دار حول النظام قبل إقراره، خلافاً للحقيقة، وهي ذات النغمة التي ترددت بشأن قرار بقانون الضمان الاجتماعي الذي أقر في غرف مغلقة.
         لم يستطع البعض، في القطاع الخاص، أن يتمالك نفسه أمام نشوة الانتصار، فاندفع للإعلام يهلل لهذا "الصندوق الاستثماري" ويمجد دوره في صياغته وإقراره؛ باستثناء كبيرهم الذي علمهم سحر المال، فلم ينطق بكلمة، وما زال يحرك البيادق كيفما شاء.
          اندفعت "الدجاجة" للإعلام، فأحدثت نوعاً من الإرباك في مخططاتهم، وعلت الأصوات، هي شبيهة بما يجري اليوم بشأن قرار بقانون الضمان الاجتماعي، وإن كانت اليوم أشد وضوحاً وضراوة.
            كان من السهولة اكتشاف العلاقة بين نظام تقاعد القطاع غير الحكومي وقرار بقانون الضمان الاجتماعي، من خلال كلمة السر؛ نظام تقاعد الشيخوخة التكميلي، أو كما بات يُسمى بالنظام التكميلي أو الصندوق التكميلي، الذي لم يكن وارداً على الإطلاق في قانون التأمينات الاجتماعية الملغى، وأمّا الدليل الدامغ فكان الخطأ الذي ارتكب في صياغة المادة (10) من القرار بقانون، وأمّا خطؤهم الفادح، الذي شتت شملهم، لكن لم يقضِ عليهم، فكان استباحة صناديق الادخار.
           خطأ فادح، ارتكب في صياغة المادة (116) بند (4) من قرار بقانون الضمان الاجتماعي، تحت ضغط السرعة ونفاذ الوقت، أنتج صياغة غير متماسكة يستحيل أن تمر على صائغ قوانين متمرس، فجرى مطابقة البند المذكور الوارد في الصيغة التي أصدرها الرئيس على ذات البند الوارد في الصيغة التي أقرها مجلس الوزراء، وكانت النتيجة المتوقعة اختلاف النصوص وخطة ماكرة، بالغة الدقة والاحتراف، استهدفت تحويل ملايين أموال الإدخار بلمح البصر من حسابات المؤسسات الخاصة والأهلية والشركات والبنوك إلى حساب الصندوق التكميلي، وإحكام القبضة عليها، في ظل غياب السلطة العامة وإشرافها على منظومة الضمان وضمان الصناديق.
        ثم جرت مطابقة كل كلمة وردت في الــ (124مادة) عدد نصوص القرار بقانون الذي جرى إصداره ونشره في الوقائع، بالصيغة التي أقرها مجلس الوزراء، وبدأت الاختلافات تظهر تباعاً فيما يخص حذف ضمان الدولة ودور وزارة العمل وتعديلات أخرى جرت على القرار بقانون في ساعة الصفر .
         باتت المعادلة واضحة، نظام تقاعد القطاع غير الحكومي 2014 أراد أن يبتلع كل شيء، كل ما هو وارد حالياً في قرار بقانون الضمان الاجتماعي 2016، بل أكثر من ذلك، أراد أن يبتلع صناديق التقاعد العام المنهكة أساساً بالتذاكي في بعض النصوص (35 مادة) التي جاء بها النظام الرديء.
         عنوان مضلل، روج له مَن روج في الإعلام في ذلك الوقت؛ بأن هذا النظام يشكل "ركيزة تكميلية" على طريق "الركيزة الأساسية" المتمثلة في الضمان الاجتماعي الذي كان من المتوقع حسب المروجين أن يتم البدء به في العام 2015، وهذا لم يحصل، ثم جرى حشو هذا النظام في قرار بقانون الضمان تحت عنوان "التكميلي"؛ الذي يعلم تفاصيله من وراءه في القطاع الخاص، ويعلم تفاصيله الرئيس السابق للفريق الوطني للضمان الاجتماعي ومن قبله الرئيس الحالي للجنة الوزارية للحوار ، والنتيجة أننا أمام معادلات شائكة ومعقدة تصب في بحر تضارب المصالح.

الصندوق التكميلي، كان العنوان، وما زال هو العنوان، في مسلسل الكوميديا السوداء ..