المعلمون..دروس العمل النقابي والوطني

بقلم: 

المعلمون..دروس العمل النقابي والوطني

متابعة ما يجري هذه الأيام من تحركات وخطوات إحتجاجية يقوم بها المعلمون في المدارس الحكومية، والتي دخلت في الوقت الحالي مرحلة الإضرابات الجماعية، تستدعي منا التوقف قليلاً عندها، خاصة أنها عكست شكلاً منظماً من الفعل الجماهيري عبّر عن نفسه في التظاهرة التي نظمها المعلمون أمام مقر الحكومة، وشارك فيها، وفق تقديرات عديدة، عشرات ألوف المعلمين. ورغم أنه من المبكر الكتابة وإستخلاص الدروس والعبر من هذه الحركة الجماهيرية، وأبعادها وإنعكاساتها وتأثيراتها المختلفة، إلا أنني رأيت من واجبي كمواطن فلسطيني تسجيل عدد من القضايا التي يمكن أن تكون مستقبلاً مدخلاً للمناقشة والإهتمام من كل الأطراف التي يعنيها الأمر.

ورأيت من واجبي أولاً، وإحتراماً وتقديراً مني لدور المعلمين عموماً، وبشكل خاص أساتذتي  الذين تتلمذت على أيديهم في مراحل دراستيكافة، أن أسجل عدداً من الملاحظات. عادت بي الذاكرة الى الوراء قليلاً، الى مطلع سنوات الثمانين من القرن الماضي، حين كنت على مقاعد الدراسة الثانوية. حيث سُجلت في حينه حركة جماهيرية متصاعدة للمعلمين لتحقيق سلسلة من المطالب والحقوق المطلبية والمعيشية التي تكفل لهم حياة مهنية كريمة ومحترمة. وحين قامت سلطات الإحتلال الإسرائيلي بإعتقال مجموعة من المعلمين  في العام 1981 تحت ذريعة عضويتهم في اللجنة التي شكلها المعلمون لقيادة مطالبهم، شاءت الأقدار  أن يكون بعض معلمي المدرسة التي كنت أدرس فيها من بين المعتقلين. وكجزء من الوفاء لهؤلاء المعلمين أردت أن أسجل من خلال هذه المقالة موقف التقدير والإحترام للدور الوطني والأكاديمي لأساتذتي جميعاً. أما الملاحظات التي رأيت تسجيلها فهي:

أولاً: أهمية دور القيادة،لأن أي تحرك جماهيري يحتاج الى قيادة تمتلك عدد من المواصفات أهمها الصلابةورؤية واضحة ودقيقة، وخطة عمل وبرنامج واضح ودقيق أيضاً، يعكس واقع وتطلعات الفئة أو الشريحة التي تعبر عنها. كما أن القيادة بحاجة دائماً الى التواصلالمستمر والإنفتاح والوضوح مع قاعدتها الجماهيرية، وإيجاد آلية مناسبة تستطيع من خلالها إشراك أوسع  للقاعدة في إتخاذ القرارات، وخاصة تلك الهامة والخطيرة منها.
ثانياً: الجمهور لن يتنظر القيادة، وإذا تلكأت أو إبتعدت أو إنحرفت.. أو غيرها من التسميات التي تشير الى نموذج سلبي للقيادة، وعدم تقديم وتبرير نفسها كالنموذج المتوقع والمرغوب فإن الجماهير لا تلبث أن تنفضّ عنها، وتتجاوزها. لأنها بذلك تفقد شرعية ومبررات وجودها كقيادة، وسواء عاجلاّ أم أجلاّ سوف تجد الجماهير لنفسها طريقة للمضي الى الأمام، وربما تقذف تلك القيادة الى التاريخ لتسجل لنفسها مكاناّ بين صفوف القيادات التي فشلت في التعبير عن هموم ومطامح جمهورها ومصالحه.

ثالثاً:فزّاعة السياسة والإرتباطات السياسية، وهي فزّاعة إعتدنا على سماعها، وأصبح إستخدامها شائعاً كلما كان الأمر متعلقا بأشخاص أو فئات أو برامج وسياسات ترفض التغيير، أو الإستجابة لمطالب محددة لشرائح مجتمعية معينة. وكذلك الأمر بالنسبة لفزّاعة التدخل الخارجي.. أو غيرها من الفزّاعات التي تهدف، من جملة ما تهدف اليه، الى التلويح بالعصا الغليظة في مواجهة المطالب والتحركات. وحتى لا نقع في التحليل الخاطىء علينا أن نعرف أن تنظيم الفئات والشرائح الإجتماعية المختلفة وقيادة تحركها هو في صلب وجوهر العمل السياسي أولاّ وقبل كل شيء. واثبتت الكثير من التجارب في بلادنا، وفي كل بلدان العالم أن العمل النقابي بمعزل عن العمل السياسي، ليس سوى حفر في الصخر أو نضال من أجل المجهول. وعلى الأحزاب السياسية ممارسة هذا الدور بفعالية وإلا فقدت بوصلة الصلة والعلاقة مع الفئات والشرائح الجماهيرية.  تهميش قطاع واسع من المجتمع، وعلى مدار سنوات طويلة، والإجحاف بحقوقة، والمماطلة في إنصافه وتحقيق العدالة له ليس إلا سياسة، والنضال ضد تلك السياسة هو في المحصلة النهائية سياسة أيضاً.

رابعاً: ركوب التحركات،فزًاعة الإرتباطات السياسية للتحركات المطلبية، لا ينبغي أن تكون من ناحية أخرى مبرراً لعدم الإنتباه لهذا الأمر، على القيادة أن تتنبه دائماً الى أن هناك جهات أو أطراف قد تكون فعلاً تحاول أو تنتظر للقفز على ظهر هذه التحركات وركوب أمواجها للسيطرة عليها لتحقيق أهداف أو مكاسب أو إعتبارات سياسية أو حزبية ضيقة. وذلك ما يتطلب اليقظة الدائمة، والحفاظ على البوصلة بالإتجاه الذي يقود الى تحقيق المطالب المحددة.
خامساً: الحلول والمعالجات الخاطئة لن تؤدي إلا الى تصاعد وتفاقم الموقف، وزيادة حدة تفاعلاته وتعقيداته. وفي مقدمة هذه الحلول النظرة الإستخفافية للمطالب أو التحركات، أو المعالجة الجزئية لها، أو ربما اللجوء الى تلك السياسة القديمة الجديدة المعروفة "فرًق تسد"، أو  "العصا والجزرة" وغيرها من السياسات التي لا تعالج جوهر الأمور والقضايا، وتبحث في القشور وعلى السطح.

سادساً: تعميم التجربة، ورغم أن العديد من فصول التجربة ودروسها معروفة لدى الأحزاب والنقابات والهيئات المختلفة. إلا أن تفاعلات قضية حركة المعلمين المطلبية الأخيرة وإنعكاساتها ستجد لها صدى كبير لاحق عند فئات وشرائح أخرى مختلفة، تختمر لديها ظروف شبيهة ومشابهة من ناحية قدرة وملائمة قيادتها للإستمرار في قيادة شرائح وفئات إجتماعية تستمر فرص وإحتمالات تحسين ظروف وشروط حياتها في الإنحدار يوماً بعد يوم،فيما تستمر قيادتها على نفس النهج، ولا تفعل شيئاً لصالحها. وما يجري هذه الأيام من حراك في موضوع "الضمان الإجتماعي" ليس إلا واحداً من الأمثلة. لن يطول الزمن حتى تجد "القيادات" في العديد من القطاعات تسير في واد، بينما جماهيرها تسير في واد آخر، هذا إن لم يكن ذلك قد بدأ فعلاً.

أما الدرس العام الذي تعلمناه جميعاً كشعب أفراداً وشرائح وفئات إجتماعية مختلفة فهو درس الإنتماء الى هذا الوطن، وليس لسواه. تعلمناه في مدارسنا الإبتدائية والإعدادية والثانوية، وفي الجامعات، على يد مدرسين ومعلمين أفنوا زهرة أعمارهم في تعليمنا حب الوطن قبل الدروس الأكاديمية. ولا يسعنا إلا ان نقول لهم في هذه الظروف والأوضاع الصعبة، نحن نعتز بكم، ولن نكون إلا تلاميذ وأبناء أوفياء لكم.