الديموقراطية وأزمة العقل العربي

بقلم: 

لا يعد يأثر المجتمع العربي بالقيم والمفاهيم الحداثية الغربية،حديث العهد حيث ان استلهام العقل العربي لهذه الافكار والقيم يرجع الى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وذلك من خلال البعثات الطلابية لمنتسبي الجامعات الغربية من الطلبة العرب، وقد شكلت هذه الجامعات حواضن وبيئات اثرت بشكل او بآخر على ثقافة ونمطية تفكير هؤلاء الطلبة،الذين عادوا الي بلدانهم يتبنون ويحملون افكارا ومفاهيم اجتماعية وسياسية وثقافية وحتى دينية مغايرة كليا للفهم والنمطية الثقافية السائدة في المجتمعات العربية.
لعل من أبرزهم المفكر الاسلامي محمد عبده،وقد هؤلاء الوافدين بمختلف تخصصاتهم بالطب والهندسةو...الخ؛ دورا نقابيا وسياسيا وحزبيا في بلدانهم ضمن اطر او جمعيات اسهموا في تشكيلها تحديدا في مراكز المدن التي كانت بمثابة بؤر تجتمع وتلتقي بها هذه النخب ، مستهدفين احداث تغيير في الواقع المجتمعي القائم على اساس كيان العشيرة او الزعيم الخالد..الخ.
لكن؛ وبالنظر لتاثير الشعبيوية الدينية في الوعي المجتمعي وتفوق هذه الثقافة على اي منطق او فهم اخر،لم تنجح محاولات هذا الجيل في احداث الاختراق المجتمعي بالوعي السائد، الذي يحاكم اية ثقافة او افكار غريبة على أرضية الفهم الشعبوي والنمطية الدينية المتوارثة.
ادى هذا الحائل الاجتماعي، الى حصر القيم والثقافة الديموقراطية في اطار النخب او النخبوية العربية التي اصطلح عليها(طبقة المثقفين)،والتي اقتصر دورها في ضور ذلك على الندوات والمؤتمرات الحزبية التي لم تحظ بالشعبيوية والتاثير المجتمعي امام تغول التيارات التنظيمية التي تقوم على الخلفيتين الدينية الشعبيوية او العشائرية الوطنية.
يمكن القول ان انسداد الافق الاجتماعي امام هذه الثقافة الديموقراطية وانحصارها في نطاق النخبة استمر حتى نهايات القرن العشرين. وقد كان مطلع الالفية الثانية وانفتاح العالم العربي او بالاحرى المجتمع العربي،على الثقافات الاخرى في سياق عصر التكنولوجيا والسرعة وانهيار اسوار وحدود الدول امام حرية الوصول للمعلومة التي اصبح بوسع الجميع الوصول اليها من اي مكان بالعالم والتاثر بالثقافات الاخرى،منعطفا في سياق تاثر المجتمعات العربية بالحريات والقيم والمفاهيم المدنية الحديثة.
وادى هذا الفضاء الواسع الذي لا يخضع لمقص رقابة الدولة التي كانت تهجس بنظيات المؤامرة وتمارس سياسة الحظر والرقابة للثقافات الاخرى، الامر الذي جعل من العقل العربي في حالة عزلة بداية ومن ثم في سياق الانفتاح في حالة انبهار بالحداثة الغربية ، وقد ادى هذا الانفتاح الغير مؤطر الى احداث تشوهات واعراض سلبية احدثت التباسا في الوعي والفهم المجتمعي العربي وذلك لعدة اعتبارات وعوامل،من اهمها: تاثر العقل العربي بالنمطية الغربية واسقاط النموذج الغربي بحرفيته وخصوصيته وقالبه الجاهز على الحالة العربية، بدون تنقيح او اعادة صياغة وفهم جديدين ياخذان بالاعتبار ان النموذج الغربي خاضع للابعاد الاجتماعية والتاريخية والثقاقية (الخصوصية الغربية).
لذلك؛ لم يكن من المستغرب نشوء هذا التخبط المفاهيمي والقيمي لجيل الحريات والديموقراطية العربية ،الذي لم يأخذ من الديموقراطية والحداثية سوى الحرية بمعناها الواسع بمعزل عن خصوصية الحالة والثقافة العربية ، وهو ما انتج عقل عربي مغترب لا بل مستنسخ او ان شئت مشوه . انطلاقا من هذه القراءة نخلص الى حقيقة ان العقل العربي يعاني كما ظهر بالسنوات الاخيرة من حالة اضطراب مفاهيمي بين خصوصية الثقافة العربية وثقافة الآخر الغربي، لاسيما مع افتقار عملية الانفتاح التي مرت بها المجتمعات العربية الى ضوابط ومحددات كان من المفترض ان يمثلها ويقوم بها المثقف العربي،في ضوء افلاس الدول التي لم تاخذ من الاشتقاقات الحداثية سوى القشور او المسميات او بالاحرى لم تاخذ سوى ما يخدم مصالحها وبالتالي لم تبذل اية جهود تذكر في تعميم هذه القيم وادخالها بشكل تدريجي وممنهج للبنية المجتمعية او مؤسسات الدولة، الامر الذي تمخض عنه ازمة عقل وثقافة عربية في استيعاب واستلهام القيم الحداثية بمختلف جوانبها وابعادها.

*من سجن النقب الصحراوي