عن الأزمة الروسية التركية

بقلم: 
لم يكن إسقاط المقاتلة التركية لطائرة حربية قاذفة روسية بداية الأزمة بين البلدين، بل كانت بمثابة الإعلان عنها وطفوها فوق السطح، فللأزمة بين الدولتين عدة وجوه، كما أنه من المهم معرفة أن لهذا الخلاف جذور تاريخية ودينية واقتصادية وجغرافية وأخرى تتعلق بالنفوذ الامبراطوري. 
فهناك أزمة مكتومة بينهما في شبه جزيرة القرم، وبالرغم من عدم خروج الأزمة إلى العلن عندما احتلت روسيا شبه الجزيرة واقتطعتها من اوكرانيا، ولكن انتهاء الأزمة بسرعة وبصمت وبتواطؤ دولي جعل الأتراك يقبلون بالأمر الواقع، بالإضافة إلى أن الروس اكتفوا بجزء من اوكرانيا وانتهت الحرب بشبه استسلام من الاوكرانيين. 
أما في جورجيا فالاتراك موجودون هناك بقوة ولهم علاقات قوية مع النظام السياسي، ولا يخفى على أحد حجم العداء بين النظامين الجورجي والروسي، ولكن انتهت الأزمة العلنية باحتلال وضم اقليمين من جورجيا لروسيا، وبالتالي بقي للاتراك حيز من النفوذ منع تفجر أزمة مستفحلة بين الطرفين. 
لا يخفى على أحد أن لتركيا وروسيا الحديثتان طموحات لها جذور مرتبطة بالتاريخ والقومية والدين، وهذه بحد ذاتها مزعجة لكل منهما بسبب تداخل وتضارب مصالحهما في المناطق موضوع الصراع، مثل آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية والعالم العربي؛ حيث اختارت روسيا دعم الاستبداد والثورات المضادة؛ بينما اختارت تركيا الوقوف مع إرادة الشعوب.
هذه الطموحات أثارت الخلاف الصامت بين البلدين ولكنها أزعجت الغرب أيضا، وبالتالي لن ينزعج الغرب من صراع متعدد الأوجه بين الدولتين، وأي مراقب يلحظ أن اللامبالاة الغربية تجاه ملف الأزمات _وبالذات الأزمة السورية _ مقصود ولا ينم عن ضعف، ويهدف إلى دفع الأطراف إلى الانزلاق في الصراع واستنزافها وجعل نهضتها أمرا لاغيا، ومن الواضح أن هذه الخطة تسير حسب ما هو مخطط لها، فروسيا دخلت طريق اللاعودة في سوريا، وتركيا اعلنت انها لن تتخلى عن التركمان والثوار السوريين، وبات واضحا أن الكل يسير نحو الانزلاق في صراع لن ينتصر فيه أحد.
لم يكن بإمكان الأتراك التعامل مع الملف السوري كتعاملهم مع الملف الأوكراني أو الجورجي، للبعد الجغرافي ولكون الروس لم يبتلعوا كل شيء هناك، ولكن قرار روسيا الدخول بكل قوتها أدى لتعزيز خوف الأتراك على امتدادهم القومي في سوريا الذي يتعرض لتطهير عرقي واضح لصالح العلويين وبعض الأكراد المتحالفين مع نظام بشار الاسد، وهذا خطر استراتيجي على مستقبل الدولة التركية، الذي سيجعل من تركيا دولة محاصرة من أعداء يريدون تقسيمها ووأد تجربتها النهضوية الحضارية، بالإضافة إلى التزام تركيا الأخلاقي والمبدئي تجاه ثورة الشعب السوري التي تتمثل في أغلبية تتعرض لقمع الأقلية المدعومة من قوى إقليمية ودولية.
تعاملت روسيا منذ البداية بعدوانية تجاه الثورات العربية ووقفت مع الثورات المضادة ودعمها بقوة، وغمست هذا الموقف بغطاء (الحرب المقدسة) التي أعلن عنها بابا الارثوذكس، حيث يلاحظ أن بابا الأرثوذكس أكثر حماسة للحرب الدينية من بابا الكاثوليك، وزاد فلاديمير بوتين بانتقاد (أسلمة تركيا) وهو ما يعزز  هذه الصبغة للصراع، وهو هنا مرعوب من النموذج الذي تقدمه تركيا لمسلمي العالم، ومنهم أكثر من خمسة وثلاثين مليونا من المسلمين الروس، وعشرات الملايين من المسلمين في الدول التي تقع ضمن نفوذ روسيا في آسيا الوسطى، وفي هذه النقطة تلتقي مصلحة روسيا مع مصلحة القوى الغربية و إسرائيل والأنظمة الاستبدادية العربية والقوى الطائفية والعنصرية في العالم الاسلامي، فكل هؤلاء اصحاب مشاريع تتناقض جوهريا مع مفهوم العيش المشترك وتداول السلطة وحرية الشعوب وإطلاق العنان لنهضة الشعوب التي تمتلك قرارها.
فوز حزب العدالة والتنمية الأخير عقد حسابات كل القوى العالمية والإقليمية التي كانت تتجه لتصفية الثورة السورية وإعادة تأهيل نظام بشار الاسد، ولم يكن رفض القوى الغربية لتزويد الثوار السوريين بأسلحة دفاع جوي، ورفضها المطلب التركي بإقامة منطقة آمنة للاجئين شمال سوريا إلا في هذا الإطار، وبعد فوز أردوغان وضغطه لإنجاز هذه المنطقة كان التدخل الروسي برضى وتواطؤ ، إن لم يكن بطلب من غالبية القوى الغربية وخاصة امريكا، وهو ما وضع تركيا أمام خيارات صعبة تتعلق بتحرش الطائرات الحربية الروسية بأجوائها وقصفها للتركمان وتهجيرهم، ولذلك كان إسقاط الطائرة خيارا إضطرابات له علاقة بالكرامة الوطنية، حادث لن يقود إلى حرب ولكنه سيؤدي إلى توتر شديد و أوحرب شرسة بالوكالة.
ما تقوم به روسيا من عقوبات اقتصادية ليس إلا سيف ذو حدين وسيضر روسيا وتركيا معا، ولكن لتركيا خيارات استراتيجية في مجال عقد المحطة النووية التي من الممكن أن تبنيها دول اخرى، وبإمكانها استيراد الغاز من الجزائر وقطر وايران، وبإمكانها استغلال علاقاتها الممتازة مع إثيوبيا والسودان في زراعة القمح الذي تحتاجه، بل يمكنها استيراده من اوكرانيا.
أما إذا لعبت روسيا بورقة حزب العمال الكردستاني فلدى تركيا ورقة المقاتلين في القوقاز، ومنهم الآلاف يقاتلون في سوريا، وقد ارتكب بوتين خطيئة كبرى عندما تحدث عن انزعاجه من (اسلمة) تركيا وحديث بابا الارثوذكس عن (الحرب المقدسة) وتحالف روسيا الظاهر مع إيران وحلفائها الطائفيين  ضد السنة في سوريا وضد أكبر دولة سنية في المنطقة، فهذه مغامرة ارسلت رسائل بالغة السلبية لغالبية المسلمين في العالم و لأكثر من خمسة وثلاثين مليون مسلم سني في روسيا، ووضعت بوتين في حالة عداء مع مواطنيه المسلمين الروس، وبدا أمامهم كقائد لحملة صليبية ضمن حلف شعوبي ضد الاسلام.
تدرك روسيا أنها لا تستطيع شن حرب مباشرة على تركيا، لأن تركيا عضو في حلف الناتو، كما أن تركيا ليست اوكرانيا ولا جورجيا، فتركيا لها تأثير كبير على مسلمي العالم ومنهم المسلمون الروس ايضا، وللأزمة مع تركيا سقف تركت تركيا لبوتين سلما لينزل عنه عندما يصل إلى الحد الأعلى من عنجهيته وغروره، أما خرق هذا السقف فسيؤذي تركيا ولكنه سيؤذي روسيا أكثر.