الذهنية الإستعمارية

الى كل من يحترق بوعيه.. من لم يُصِبْهُ عَطَبْ الوعي الزائف.. إلى كل مُضطَهَد ليس بمقدوره فعل شيء سوى الشعور بإضطهاده

إلى من هم بين الأنقاض كالسنابل أو كنخيلٍ وسط أكوام الرماد تأبى الرضوخ لصفعات الإستعمار بين الاكواخ المترهلة المغلفة بالغبار .. اللاجئين الفلسطينيين في الشتات

إلى وطني الحبيب فلسطين... إلى بؤرة الوعي المرهقة "القدس"

إلى أنا التي عانت معي.. التي لا تسأم التعب من الشعور بمساحات الوعي المرهقة

 

أُهديكم جميعا ً مساحاتي ومساحة يشرأبَّ فيها الجمال على أكتاف الألق

لينير هذا الوعي أيامنا ببعضنا..

فإستمتعو.. أو إنتقدو أو اجعلوها أنتم فحسب ثرثرة متعبة...

 

أقصد -  فلسفة مُتْعَــــبـَة -

 

] من وحي الباحثة: تجربة شخصية على حاجز قلنديا[

أثناء ركوبي الحافلة للعودة إلى المنزل قال لنا السائق بصوت مرتفع: "انزلوا هون مش راح أقدر أوصلكم لمكان أقرب يعني وين ما تروحوا حجار." في تلك اللحظات أصبح الجميع يتبعثر في كل مكان، بل ويقتطع لنفسه بؤرة صغيرة من الأرض ليضع أقدامه عليها و يهِمّ بالهروب، كي لا يصطدم به أيُّ حجر تائه. لوهلة، أدركت أنني وقعت لا شعورياً في شرك الوعي الزائف، وفجأة بدأت تلك الأسئلة تنهال على عقلي الغائب أثناء عبوري حاجز قلنديا: ماذا كان بإستطاعتي أن أفعل؟ أَمِنَ الطبيعي أن أخرج راكضة، خائفة من طلقات الرصاص التي يطلقها جنود الإحتلال، ومن ناحية أخرى أخشى أن يصطدم بي أي حجر تائه؟ ألهذا الحد أصبح بيني وبين أولئك الأطفال الذين يقتربون بلا خوف من الجنود، ويقذفونهم بالحجارة بكل ما أوتوا من قوة فرقٌ كبير؟ ألا لهذا التخبّط الهائل أن يتوقف؟ أن يجعلني ألِفظ مساحاتي الأخيرة من مساحات الوعي التي لم يُصِبْها العطب، التي استطاعت أن تحيا ببقعة من الوعي الحقيقي في أوج نموها. منذ تلك اللحظة، كان لا بد لي من التشبث بهذا الموقف، بل لا بد لي من أن أفهم ماذا يحدث في نفوس العديد من البشر. فأن تقتطع بؤرة من وعيك الحقيقي بغضّ النظر عن حجمه لأمرٌ جديرٌ بأن يعني لك الكثير؛ فأنت ما زلت بخير نسبياً، بل بإمكانك أن تكون كذلك بشكل كامل، بعيداً عن الإتساخ الذي ينثره فيك ذلك المُستعمِر.

في خضمّ كل هذه الأحداث والتي يظن القارئ من بعيد أنها أحداثٌ ومواقف شخصية، إلا أن من يحاكي التجربة الفلسطينية تحت الإحتلال يجد أن الفلسطينيين أصبحوا لا شعورياً مُحاطين بالسيطرة الإسرائيلية، وأصبحوا يجدون أنفسهم أقلية، وهذا بحدّ ذاته أمرٌ في غاية التعقيد فأصبح الفلسطينيون يسعون جاهدين للإندماج في الثقافة السائدة، ويسعون لتبني الهوية وتجدهم يحاولون إكتساب أنماط سلوك المُستعمِر، وكما فسّرها كمبرلنغ تجد أن كليهما -الفلسطيني باعتباره مُضطهَد والإسرائيلي باعتباره مُضطهِد- يحاول كلّ منهما إحتواء الآخر دون المساس بالرغبة الكامنة في داخل كلّ منهما في القضاء على الآخر، ودون التواني عن المحاولة المستمّرة لتحقيق هذه الرغبة (كيمبرلنغ،2011). فيعود تفشي أنماط السلوك غير السوي في المجتمعات المقهورة إلى ممارسات العنف والإضطهاد لسلطة الإستبداد إلى أمد طويل، وبغيابها يجب القيام بحملة توعية كاملة في صفوف المجتمع؛ من أجل إزالة آثار العنف ومسبباته من السلوكيات والتصرفات غير السوية من خلال إشاعة مفاهيم التسامح والحب وإحلال مبادئ العدالة والمساواة في المجتمع(الربيعي،2007).

إن الأفراد المُضطهَدين يعانون من ثنائية في الوعي تجاه وجودهم وحقّهم في حياة كريمة وسليمة، و في اتجاه آخر حياتهم في ظلّ مستعمِر يتحكّم بحياتهم ويرسمها كما يشاء، بل ويحدد إتجاهاتهم في الحياة، وقد يصل إلى حدّ التحكّم برغباتهم. ومن هنا، نجدهم يقعون ضحية الهوّة داخل نفسهم البشرية ما بين إتباعِهِم لأنفسِهِم، وما بين خضوعهم وإستسلامهم لما يُفرَض عليهم من قِبَل هذا المُستعمِر من حيث التحكّم في إتجاهاتهم ورغباتهم وحتى إهتماماتهم، وهذه الهوّة قد تجعلهم يقفون حائرين ما بين ذواتهم؛ هل يخضعوا لهذا التحكم أو يتمرّدوا عليه ويسيروا على هدى حقّهم في الوجود وأبسط حقوقهم في الحياة في ظلّ إنسانيتهم المقدسة الكريمة لا أكثر ولا أقل. هذا كلّه يولِّد لديهم خوفاً دفينا ًمن سعيهم تجاه الحريّة والحياة الكريمة وكونه (الخوف) ينبع من أنّ تفكيرهم بالحرية يزيد من وعيهم بالذات، وهذا حتماً يؤدي إلى تفكيرهم فيما يحتاجونه من متطلبات السعي لتحقيق الذات، خاصة إذا وُجِدوا في ظلّ وضع لا يوجد فيه ما يخشَوْنَ خسارته (فريري،2003). ونجد أن الشباب المقدسي العامل يكدّ بالعمل بهدف تحقيق مصالحه وأي شيء يسعى في الوصول إليه، وفي خضم هذا الكدّ الممتزج بالجهد والتعب نجده يسخّر كل ما لديه من إمكانيات للحفاظ على ثبات الوضع الذي يعيش في ظلّه، وعندما نقول ثبات فإن هذا يعني أنهم يقفون حائرين في منتصف هذه المعادلة الظالمة والتي لا يسعهم فيها سوى التشبث بأدنى حقوقهم واختيار الابتعاد عن محاولة التغيير وهو ما ينطبق على واقعهم المُعاش بأكثر من ذلك.

وعليه، من الجدير بالملاحظة والإدراك أن الثقافة العربية باعتبارها ثقافة الأقلية في إسرائيل تحاول أن تنتزع لها مكانا ًما بين الثقافات الأخرى في الدولة، على الرغم من الإختلاف فيما بينها وبين هذه الثقافات، وعلى الرغم أيضاً من عدم إنسجامها مع هذه الثقافات، وحتى تستطيع أن تأخذ هذه المكانة كثقافة مماثلة للثقافات الأخرى في الدولة، لا بد لها أن تنصهر لتصبح جزءا ًمنها، على الرغم من أن إتجاهات الثقافات الأخرى في الدولة الإسرائيلية تقوم على أسسٍ ومعاييرَ مرفوضة من الثقافة العربية كتبنّي الثقافة الإسرائيلية لإتجاه تهويد القدس. ( كيمبرلنغ، 2011).  وبالحديث عن التوعية، فإن الفرد المُضطهَد يشعر بأنه يحيا حالة من الإضطهاد والظلم، فيكون شعوره في ظلّ من يسعى لإضطهاده وتدميره بمعنى الكلمة، وحتماً سيدفعه هذا إلى نتيجتين: إما التمسُّك بوعيه وكينونته الحقيقية؛ وإما أن يستسلم لشعوره بأن عالمه يتحطّم وبعدمية كينونته، وما يترتب على ذلك أن هذا الإنسان الراضخ تحت الظلم يتمحور تفكيره حول أن يكون المسؤول عن حياته وأن لا يسمح لأحد بالتحكُّم فيه، أو أن يكون مجرّد مفعول به ويسمح بإستغلاله تحت هذا المُسمّى. من هنا، نجد أن مساحة الوعي الحقيقي التي يُمكن أن يبلورها هذا المُستعمَر بشكل إنتقادي لديه قد تدفعه لأن يعي أكثر الظرف الإقتصادي الذي يحيا في ظلِّه (فريري،2003). وفي حقيقة الأمر قد يظهر هذا مُجتَمِعاً في الحالة الفلسطينية بشكل مختلف حيث أنه وعلى الرغم من أن الشباب المقدسي العامل يتقاسم حياته مع ذلك المستعمِر ويعمل لديه، إلا أنه يعتبر نفسه لا يزال مضطّهَداً من قبل المُستعمِر، فلا يستطيع أن ينسى هويته في أبسط تسمياتها، باقيا ً في نظر نفسه فلسطينياً مستعمَرا ً لا يستطيع تغيير واقعه. ومن هنا نستطيع أن نرى خطورة مؤسسة الإستبداد خاصةً إذا نجحت في شلّ طريقة التفكير لدى المُستعمَر ومنعها من الوقوف على أقدامها والوصول إلى أطراف المجتمع الساندة لها، كما تعمل على ترسيخ حالة الشعور بالتهديد المتواصل وعدم الإستقرار في عدم الوعي، ما يجعل الإنسان المقهور في موقف الدفاع الدائم والحذر الشديد من أي شيء يمتُّ بصلة إلى السلطة أو قد يخالف توجهاتها للحفاظ على حياته. (الربيعي،2007).

فَــــنهج المستعمِر وظلمه وإضطهاده يؤدي بالإنسان المُستعمَر إلى التجرُّد من إنسانيته، ما قد يدفعه إلى تحقير ذاته ويمنحه شعوراً باليأس والإستسلام، أو قد يدفعه إلى المقاومة والنضال للحفاظ على إنسانيته الحقيقية، وخيار المقاومة والنضال هنا يكون نتيجة شعوره بإضطهاد المُستعمِر لذاته ونفسه البشرية التي تحيا في ظل نظام غير عادل لا بل ظالم ومُضطَهِد.(فريري،2003). لذا، إن من الخطأ الفادح قراءة هذا الواقع الإجتماعي بمسلمات فكرية جاهزة تستند إلى الإحتكام إلى مفهوم العقل وحده دون النظر إلى العواطف الكامنة في الذات الإنسانية المقهورة، لإعطاء تفسيرات غير دقيقة لشأن إجتماعي يختلف كلياً عن الشأن السياسي وتفسيراته المضللة عن الواقع الاجتماعي. (الربيعي، 2007). وهو ما تقوم به الدراسة الحالية فيما ينطبق على السياق الفلسطيني الواقع في ظل الظرف الاستعماري .

بما أن هذه الدراسة قامت بدراسة عقلية المستعمَر من خلال تناول تجربة عدد من الشباب الفلسطيني العامل في القدس تحت الحكم الإسرائيلي؛ حيث يعيشون تداخلات متعددة ومختلفة في آن واحد، وهذا من حيث تمفصلات كثيرة؛ كالإنشطار في هويتهم الجماعية، وإداركهم تجاه الوضع الإستعماري الذي يعيشون في ظله؛ السبب الذي بدوره يفسّر التناقضات المختلفة التي يعيشها هذا الشباب والتي تعود عليه بآثار نفسية متشابهة ومختلفة في آن واحد. وعليه، بعد الإنتهاء من الدراسة توصلت الباحثة إلى مجموعة من النتائج والتي تم ذكرها في الفصل السابق، وبالتالي بناءً على ضرورة مناقشة هذه النتائج فإنه لا بد من أن تقوم الباحثة بتقديم رأيها بناء على النتائج التي تم التوصل لها:

في البداية، لا بد لنا عدم إغفال التعدد والإختلاف في الدراسات والأبحاث التي تناولت موضوع عقلية المستعمَر والظرف والإستعماري؛ وهو ما أدى إلى عدم وجود تعريف واضح للحالة الإستعمارية بإستثناء أهم التعريفات التي قامت بتوضيحه وهو تعريف جينادو: "حالة يتوفر ضمنها لقاء بين أعراق وثقافات أخرى، بحيث أن هذا اللقاء تم عندما يكون العرق الغريب والأقل عددا هو في الحقيقة العرق المسيطر اجتماعيا واقتصاديا؛ وذلك نتيجة تحكمه وسيطرته على مصادر القوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تتحقق هذه السيطرة وتم تسييرها من خلال القوة العسكرية والتفوق المادي الذي يملكه العنصر المهيمن." ( jinadu,1976,p,604)

وبالإشارة إلى ما سبق ظهرت النتائج في السياق الفلسطيني كسياق مختلف ذي خصوصية مختلفة تقع ضمن ظرف إستعماري وهي كما يلي :

المحور الأول : وجود إستغلال طبقي كظرف إستعماري، حيث أظهرت النتائج أن عيش الشباب المقدسي أوضاعاً معيشية صعبة؛ تجعلهم ما بين معضلة سعيهم لتلبية إحتياجاتهم، وما بين حاجتهم لتقبُّل أي فرصة عمل متاحة أمامهم بغض النظر عن شعورهم بالرضا عنها، ولا سيما وأنه مدركٌ تماماً عدم وجود فرص العمل التي يطمح في إستغلالها والعمل فيها والتي لا يمتلكها.

في رأيي، وبناءً على الأدبيات المختلفة التي تناولت الحالة الإستعمارية في سياقات مختلفة وبعيداً عن أي تحيز، أجد أن الظرف الإستعماري في السياق الفلسطيني يتسم بعدة أمور تجعله يختلف عن أي ظرف إستعماري آخر، وهذا ليس فقط من منظور أن الظرف الإستعماري ما زال قائماً في السياق الفلسطيني؛ بل لأن تناوله لتجربة هؤلاء الشباب كفيلٌ نوعاً ما بأن يوضح مدى الإلتصاق في الذهنية الاستعمارية ومدى التأثُّر بها. فَــفي الوقت الذي يتعامل فيه هؤلاء الشباب مع المُستعمِر الذي يمتلك أغلب مصادر العمل والقوة، ويمتلك مقدرة توفيرها كفرص عمل لهذا الشباب، قد يُحتِّم هذا على الشباب الإستسلام لواقعه والتعاطي معه قدر المستطاع، لكن من دون أن ينسى بأنه مرغمٌ على ذلك، وهذا الإرغام بعينه يفسر بؤرة الصراع الكبيرة التي يعيشها هذا الشباب. وهنا لا بد وأن يقع في صراع من نوع آخر؛ فوعيه بأنه مرغمٌ ولا يملك حيلة، يخلق لديه قوة من نوع آخر؛ فإصراره على التشبث بموقفه، والتأقلم مع الواقع الإستعماري المعاش من شأنه أن يرسِّخ لديه هويتّه كإنسان فلسطيني، ويجعله متمسكاً بها أكثر وهو ما أكد عليه المبحوثين.

ومن منطلق أنني أمثل جزءاً من هذا السياق، وأحمل جزءاً من خلفية الأخصائيين الإجتماعيين في هذا السياق، أرى أن في ذوات هذا الشباب ودواخلهم شيء رافض كل الرفض للظرف الإستعماري الذي يعيش فيه، فالقضية ليست قضية الحاجة إلى الإستسلام والتأقلم مع الواقع، بقدر ما هي قضية إرغام على التنازل عن أهم أساسيات الراحة للصحة النفسية لهذا الشباب؛ وهذا بدوره يشكل تحدياً لدى كل إنسان فلسطيني في القدس؛ الأمر الذي على كل إنسان فلسطيني إدراكه بشكل عميق.

وهذا بدوره يقودنا إلى المحور الثاني: أثر الهوية الوطنية لدى هذا الشباب؛ فبنظري أن للإستعمار الإسرائيلي الصهيوني الدور الأكبر في ترسيخ الهوية الوطنية الفلسطينية وحدودها لدى الإنسان الفلسطيني؛ فالتخطيط الصهيوني المحكَم وهيمنته على مدى سنوات، ساهم في تقوية العلاقة الإرتباطية بين الإنسان الفلسطيني وأرضه وهويته وثقافته الفلسطينية؛ فتَعلُّق هذا الشباب الفلسطيني العامل بهويته في ظلّ إنشطار هويته ما بين بُعْدَيْن، أحدهما البعد الذاتي لنفسه وكينونته كفلسطيني، والآخر كعامل لدى المستعمَر؛ من شأنه أن يشكل لديه الحجر الأساسي في تشبّثه بموقفه، وإلتزامه الشخصي في أن يستغل الفرص المتاحة أمامه، بالرغم من إداركه بأنه يحصل عليها من قبل المستعمِر. لذا، وبناءً على المحور الثالث الذي يتمثل في وجود هذا الشباب بالوضع البيني (ما بين الوعي الحقيقي وذهنية المستعمِر وما بين شعور هؤلاء الشباب بالمقاومة وضرورة العمل)، فإنه يُحتِّم علينا أن ننظر للسياق الفلسطيني من منظور مختلف ذي خصوصية مختلفة، وهو ما يفسر اتخاذ هذا الشباب وسائل متعددة تساعده على التواصل والاستمرار في الحياة التي يعيشها؛ فتعلّمه للغة، وبعض عادات اللباس، وقبوله لأن يتنازل عن بعض حقوقه في العمل بالرغم من رؤيته لعدم قبول الآخر (المستعمِر) لأن يتنازل عن حقوقه، تشكل جميعها جوهر وقمة التضارب في المشاعر والعواطف التي تختلج هذا الشباب؛ فهو في ظلّ هذه المعطيات التي تنهم حياته وتصارعها بأدق تفاصيلها يسعى فقط لأن يصل إلى أبسط حق من حقوقه وهو أن يحيا في القدس وأن يلبّي احتياجات حياته الأساسية.

وفي الوقت نفسه، أجد أن الهوّة تكمن في شعور الشباب المقدسي ورغبته اللامنتهية في التخلص من هذا المستعمِر الذي يفتك بهذا الشاب العامل، ويسلب منه شتى مصادر قوته النفسية والعملية، فهذا الشاب المضطَهَد يذهب لعمله، ويكدُّ فيه، وفي عقله تطفو شتى مسؤوليات الحياة، بل وتقبع في مخيلته أدنى حقوق الحياة الكريمة المتمثلة لديه ببقائه في مكانه، وتحصيله لمبلغ من المال يلبي احتياجاته. ومن ناحية أخرى، ينتقل بحواسه وجسده لحالة غير شعورية  بمكان عمله الذي يتحكّم فيه مستعمِر يشعر بالتعب إذا ما فكّر بإنسانيته؛ فكيف له أن يشعر بهذا الشباب العامل؟ وهو ما يجعله يطبِّق عليه قوانين العمل الصارمة في العمل؛ بل وحتى طَرْدْ هذا الشباب العامل أمام أي مشكلة تعترض طريقه وهو ما توضحه بعض الإقتباسات في الفصل السابق.

وعليه، تقبع هنا آثار المنهجية القمعية بكل تمفصلاتها، والتي بدورها تفسر التأرجح الذي يمر فيه هذا الشباب العامل ما بين مقاومته للظرف الإستعماري وحاجته للعمل. ولعلّي أجد أهم ما في هذا الصدد مجموعة العواطف المغلّفة بالصراعات المتداخلة ببعضها البعض، و التي تتلاقف الإنسان الفلسطيني في القدس. فإذا أمعنا النظر لوهلة؛ نجد أنه حبيسَ التحرر والعبودية في آن واحد، مرسخاً للأمل واليأس في آن واحد؛ بل هو متفائلٌ ومتشائمٌ في الوقت نفسه، فهو ثائر وخاضع، يتعامل بإيجابية وسلبية، ويشعر بالقوة أحياناً وبالضعف والوهن بأوقات أخرى. هذا كله؛ يجعل منه دائم الدوران في دائرة الصراع ما بين الحياة والعدم؛ وهذه جميعها يختبرها هذا الشباب المستعمَر كحالة شعورية تصبح الموجِّه لأفعاله وأفكاره. هذه جميعها يشعر بها في وقت واحد؛ وهنا برأيي قمة الصراع والتناقض، بل هنا تقبع الحياة واللاحياة، بل الموت بأمّ عينه.

إن هذا التخبط الهائل الذي يتأرجح فيه هذا الشباب المقدسي يأخذه إلى أفق الحفاظ على أصالته الذاتية، وهو ما يمثله المحور الثالث؛ فَعيش هذا الشباب الفلسطيني العامل في القدس في ظلّ كل هذه المعطيات تُحتّم عليه مواجهة الصعوبات على كافة الأصعدة؛ ولعلّ على رأسها عدم مقدرته  على الاستغناء عن أي فرصة عمل أمامه، وشعوره بالحاجة لأن يطيع الآخر وخاصة في بيئة عمله مع المستعمِر. وبالتالي وبالإشارة إلى ما سبق، يجعلنا هذا نتيقَّن بأن الإنسان الفلسطيني يعيش صراعا غير منتهياً، صراعاً يتضمن بدوره صراعات أخرى. وهنا وكما أرى، تكمن قمة الشرخ وما يترتب عليه من فراغ، وعدم الإنتظام في أفكار ومدركات هذا الشباب الفلسطيني، الذي يمثل عينة من الإنسان الفلسطيني الذي يعيش المعلوم والمجهول في الوقت نفسه. لذا، ومن خلال اطّلاعي كباحثة على كل ما يتعلق بهذه الدارسة فأنا أجزم بأن الإنسان الفلسطيني يعيش شرخا قوياً ليس فقط في مدركاته الشعورية والفكرية، بل أيضاً في التوقيت (الزمن)، فكل الأحداث التاريخية التي عايشها الإنسان الفلسطيني وما زال يعايشها نظراً لإستمرار الظرف الاستعماري، تتلاقفته باتجاهين عميقين: الأول المقاومة والصمود، والآخر الحب والانفتاح على الحياة؛ حيث أن غياب الوسطية بين الاتجاهين من شأنها أن لا تولد الشرخ فقط؛ بل الانهيار بحد ذاته. فهذا الإنسان الفلسطيني في ظل كل الأحداث المنكوبة التي مرّ بها واستيقظ عليها، تجعله يرفض العدوان والظلم بقوة، وفي نفس الوقت تدفعه بجنون نحو حب الحياة وكراهية الموت. وبالتالي، التواجد في منتصف هذه المعادلة الصعبة من شأنه أن يساهم في بتر مقومات الراحة الحقيقية، والاتجاه نحو ولادة مشكلات حقيقية لديه. بمعنى أن رفض هذا الإنسان الفلسطيني للعدوان والظلم من قبل المستعمِر غير كافٍ بأن يجعله غير محتاجٍ لأن يستخدم نفس هذا العدوان والظلم تجاه نفسه، أو حتى تجاه المستعمِر. ولعلّ أهم الأفكار في هذه الجزئية توضيح فانون بشكل عميق؛ بأن ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد إلا بالقوة؛ وعليه كيف يمكن لهذا الشباب العامل بأن لا يشعر بالحقد والكراهية تجاه هذا المستعمِر؟ كيف له وحتى في ظل تعامله معه، أن ينسى بأنه يترأس عليه بغض النظر عن وجود هذه الرئاسة في ظل عمل ووضع مهني طبيعي؟ كيف يمكن بأن يوقف مدركاته الحسية كمضطَهَد في كل دقيقة من دقائق حياته التي يتقاسمها مع المستعمِر في القدس؟

بهذا أرى أن أوج الأزمة في السياق الفلسطيني المقدسي في تجدد دائم، حيث أن المجتمع والسياق وعوامل ظروف الصحة النفسية للشباب الفلسطيني العامل في القدس وغيرهم من الفلسطينيين، تختلف مع إختلاف الوقت، وهو ما يفسر الفرق بين الإنسان الفلسطيني الذي يعيش داخل الجدار الذي يفصل الضفة الغربية عن القدس وخارجه، وهذا ليس من منظور تحيزي بقدر ما هو حقيقة واقعية أخرى تمثل بدورها صراعاً من نوع آخر تترسخ مدخلاته في ذات الإنسان الفلسطيني. وهنا برأيي تكمن أهمية النظر إلى مسألة الفرق والإختلاف ما بين الأجيال، لا سيما في ظل تعاطي الأجيال المختلفة مع الظرف الإستعماري في السياق الفلسطيني وهو ما تم الإشارة له في الأدبيات مسبقاً.

وعليه و بناء على المحاور السابقة، فإن حب الإنسان الفلسطيني لحياته وانفتاحه المندفع نحو المستقبل المجهول في ظل الظرف الإستعماري، يمثل السبب الرئيسي الذي يعطيه قوة التحدي للمستعمِر ومقدرة الاستمرار في المقاومة. ولعلّ أهم ما يجعل كل فلسطيني سواء داخل الجدار أم خارجه متشابهاً؛ هو إشتراكهم في صراع واحد؛ وهو صراع التعايش مع الإحتلال والإنتهاكات المستمرة ضده وضد أمنه. ولكن في الوقت نفسه، تجعل كلاً منهما يعيش نكهة صراع فريدة من نوعها، فبقدر ما هو حجم الصراعات التي يعيشها كل إنسان فلسطيني متفاوتة؛ بقدر ما هي الفجوة ما بين أجيال الشعب الفلسطيني مستمرة، وهو ما بدوره يفسر الإختلافات بين مبحوثي هذه الدارسة نفسها، والإختلاف في أقوال المبحوث الواحد في جزئية معينة من كلامه وتناقضه معها في جزئيات أخرى .

وهنا كباحثة، لا بد لي من أن أوضح تقسيمي في نقاش النتائج إلى قسمين؛ حيث في ظل ما سبق لا يمكن لي كباحثة أن أتجاهل أو بالأحرى أن لا أتطرق إلى معززات أخرى توضح الصراع الذي يقبع فيه الشباب الفلسطيني العامل في القدس، وهو ما يجعل الباحثة بحاجة لأن توضح محاور أخرى تترتب عن موضوع ذهنية المستعمَر وهو ما يظهر في الفصل الرابع، لذا هنا يتضح إرتباط المحاور مع بعضها البعض.

 من خلال ما سبق، وفي ظل كل العوامل المتشابكة في إدراك وَ وعي الشباب الفلسطيني العامل لدى المستعمِر، فإنني أحاجج كل فكرة تقول بأن هذا الشباب الفلسطيني غير واعٍ للظرف الإستعماري الذي يعيش في ظله؛ فعمله لدى الآخر لا يعني عدم إداركه للوضع أو تأييده للمستعمِر ورغبته في زيادة قوته؛ بل هو مُجبَر على تأمين أبسط مقومات الحياة له، ولو أتينا بتطبيق ذلك فيما يتعلق بإحتياجات الإنسان الأساسية، سنجد أن أهم الإحتياجات تصبح آخر إحتياجات في الهرم، أي أنه يحدث هناك قلبٌ للهرم، وهو ما يحدث تماماً لدى هذا الشباب العامل؛ وبالتالي كباحثة في حقل علم النفس المجتمعي أولا، وكباحثة درست موضوع ذهنية المستعمَر في السياق الفلسطيني، الأمر الذي يحتِّم علينا النظر إلى هذا السياق كسياق مختلف و ذي خصوصية تختلف عن أي سياق آخر يقبع في ظل حالة استعمارية، أرى أنه ليس بالضرورة أن يقترن الوعي الحقيقي الذي قد يتكون لدى المضطَهَد بالفعل الحقيقي ( real action) تجاه وضعه الإستعماري الذي يعيش في ظله؛ بمعنى أن تأقلم الشباب الفلسطيني وعمله في الظرف الإستعماري وتقاسمه الحياة مع المستعمِر لا يعني عدم وجود الوعي، وهو ما أختلفُ و إياه مع فريري الذي أشار إلى ضرورة إقتران الوعي بالفعل الحقيقي حتى يعتبر هذا الإنسان المستعمَر إنساناً واعياً لما يمر به؛ فقدرة الفرد على أن يُكوِّن وعياً لذاته الفردية والجماعية، وأن يفكر بها بشكل نقديّ ويربط بينها، مسألة في غاية الأهمية لا سيما وأن هذا الوعي الجماعي أجدر بأن نبني عليه الكثير من الأمور، ولكن هذا لا يعني عدم تعرّض ذاك الوعي إلى العطب أو المرض، وهو ما قد يؤدي بشكل إجباري إلى أن يكون لدى المستعمَر فجوة ما بين سلوكه ووعيه، مع العلم أن الوعي قد لا يزال موجودا ً. ومن هنا، نستنتج ما يلي:

*أن الشباب الفلسطيني العامل في القدس يتمتع بمساحة معينة من الوعي، وهذا يختلف مع بعض الأدبيات التي أشارت إلى أن تماهي الضحية مع المعتدي يجعل المعتدى عليه غير واع وغير مدركٍ للحالة الإستعمارية التي يعيش في ظلها.

* أظهرت الدارسة أن الهوية الإجتماعية تلعب دورا كبيراً وتمثل عنصراً فعالاً في نظرة ذلك الشباب الفلسطيني لنفسه وثقافته وعروبته الفلسطينية، ما يترتب عنه تشبثه أكثر بأرضه ومكان تواجده في القدس في ظل الظرف الاستعماري.

* إنّ عدم مقدرة ذلك الشباب العامل على إحداث تغيير فعلي تجاه الظرف الإستعماري الذي يعيش في ظله لا يعني تأييده للمستعمِر وسياسته؛ فهذا يعود لأن الحالة الفلسطينية تَتَخَلَلُها نوعيات مختلفة من إستدخالات الهزيمة والتي تقع ضمن استدخالٍ هزيمي كبيرٍ يترأس كل مكنونات هذا الشباب الفلسطيني كمستعمَر؛ والذي يتمثل بضرورة التأقلم والحاجة إلى إستغلال الإمكانيات المتاحة والموجودة لدى المستعمر.

* يظهر أن أهم العوامل التي تساعد هذا الشباب الفلسطيني العامل على تحمل الصعوبات التي يواجهها في تجربة عمله مع المستعمِر كرئيسٍ عليه؛ هي (الشعور الجمعي) الذي يملأ جو العمل لا سيما في ظل بيئة عمل تضم غيره من الشباب الذي يعود لنفس هويته وثقافته.

من الصعب حقا ً أن تحكم على مضهَّد يقبع تحت الإستعمار بشكل مباشر فلا تنسى أنها فقط المشاعر ولا شيء غير المشاعر التي تمثّل المحرِّك الأقوى لضياعه وإرهاق وعيه...

 

المصدر:

رونا غالب ناصر

رسالة ماجستير: عقليّة المستعمَر: تجربة الشباب الفلسطيني في القدس

 جامعة بير زيت 2013 

معد الدراسة: 
رونا ناصر