عندما عصبت عيني في شوارع بيت لحم

بقلم: 

في شارع المدبسة المؤدي إلى ساحة كنيسة المهد في بيت لحم وقفنا مع عائلات الاسرى المضربين وسط زحمة الناس وسخونة حرارة الشمس وصراخ الباعة المتجولين وازدحام المركبات، وعصبنا أعيننا بعصبات سوداء تضامنا مع الاسرى الإداريين المضربين عن الطعام منذ أربعين يوما.

عندما عصبت عيني، ونزلت الظلمة من حولي ممزوجة بصرخات أمهات الاسرى اللواتي حملن يافطات كتب عليها: ماء وملح، رأيت الاسرى المضربين جميعهم ظلالا تذوي وتتكسر في زنازينهم المخنوقة وعلى أسرة المستشفيات الإسرائيلية فاقدي الوعي، يتألمون ويصرخون، يطلبون الماء والمناشدة والزيارة وأوراقا وأقلاما لكتابة الوصايا لأهاليهم وأطفالهم قبل رحيلهم إلى الأبدية.

رأيت سيقان مشلولة وأجساما منهكة، يوقظها وجع المفاصل والرأس وجلادا يهاجم النوم إن جاء متعثرا، ويطرد الهواء إذا ما هبّ من رئتين على إيقاع أغنية لا تغنى لأحد، ورأيت دما، وإيماءات موت ونارا في حلوق ناشفة.

رأيت أسرى يتدثرون بالبرد، لا ملابس ولا دواء ولا صوت سوى وخز الآلام في عزلة يرددها الصدى ، مقيدين مجرورين من زنزانة إلى أخرى أجسادهم ضعيفة، عظامهم بارزة، شرايينهم تكلست وقد أصبح الموت حلما وهم يمشون في جروحهم يتلكأون حتى لا ينتبه الوقت ويغمى على الليل إذا ارشد الحلم الحالمين كما الوحي واستمروا في المستحيل.

عندما عصبت عيني في شوارع بيت لحم، شاهدت طبيبا يرتدي ثوب جلاد يجري فحصا للأسير أيمن طبيش، نسبة الأملاح متدنية، مشاكل في القلب والأعصاب، غباش في الرؤية، الوريد جاف لا يستجيب لأي إبرة، تمرينات للحراس الذين يتوقعون موتا مفاجئا، تعليمات بتقييد يديه بالسرير حتى لا يهرب من النجاة، وشاهدت رسالة صغيرة موجهة إلى أخوته وخطيبته يقول فيها: إن أصابنا الشلل نتيجة هذا الإضراب فإن ألسنتنا لن تتوقف عن الصراخ: لا لا لن نقبل بهذا الاعتقال الإداري الظالم بعد اليوم.

عندما عصبت عيني في شوارع بيت لحم سمعت صوت الأسير محمود شبانة وهو يقول: تم تفتيشنا بشكل عاري كما ولدتنا أمهاتنا، أدخلونا إلى قسم في سجن ايالون قذر وقديم ومليء بالرطوبة والعفونة، تم مصادرة جميع أغراضنا وملابسنا وحتى قناني المياه، عاقبونا بعدم الخروج إلى الفورة فلا نرى النور ولا الشمس، ولا زيارات للأهل، يقتحمون غرفنا بعد منتصف الليل مستفزين لأننا لازلنا على قيد الحياة.

وسمعت حوارا بين محمد النتشة وضابط الاستخبارات الإسرائيلي وهو يقول له: إن دولة إسرائيل معنية أن يموت أحد الاسرى الإداريين، لا حوار ولا مفاوضات، وسوف تسقطون في النسيان، وعندما ابتسم الأسير بسخرية انهال عليه السجانون ضربا مبرحا وانكسروا، ولم ينكسر الجسد في الموج.

عندما عصبت عيني في شوارع بيت لحم رأيت اليسوع يحمل قطنا وحليبا ويزور المضربين في مستشفى برزلاي الإسرائيلي، اليسوع وليس الأمين العام للأمم المتحدة، اليسوع وليس أي زعيم عربي أو إسلامي، ليرى يسوع الأسير بهاء يعيش الذي نسي وظيفة قلبه، ويعاني من الدوخة وفقدان الذاكرة يسقط أرضا إذا ما وقف، يهذي طوال الليل، يتنفس من إرادته ويصعد من روحه على خشبة الصليب صارخا شكرا للحياة القادمة.

عندما عصبت عيني في شوارع بيت لحم قلت للناس المندهشين تعالوا وخذوا الماء والملح وامتصوا سكتة القلب المحتملة، اسقوا العطاش كي يروا صيرورتهم في ما بعدهم مكللين باللوز والورد يفتحون غدهم بجوعهم وإيمانهم حتى يجد الرعاة في أعماق البئر بشراهم، وشهادة ميلاد المدينة.

عندما عصبت عيني في شوارع بيت لحم رأيت أسرى يفتحون غدهم بجوعهم، كتبوا أناشيدهم بالملح والسعال الناشف قائلين:

إضراب إضراب ضد الإداري

بدنا حرية وعيشة هنية

بدنا كرامة بعزيمة وشهامة

والله جوعانين

لكن صامدين لأجل الحرية

المصدر: 
القدس