عن الدولة الفلسطينية ومشروع الدولة الواحدة.. مرة أخرى

بقلم: 

بشيء من التأمل التاريخي، يكاد يكون مفهوماً أن يذهب بعض الفلسطينيين نحو المطالبة بـ« الدولة الواحدة» فوق كامل فلسطين الانتدابية، بديلاً للحل الوطني المرحلي، الدولة الفلسطينية المستقلة بحدود الرابع من حزيران (يونيو) 67، وعاصمتها القدس الشرقية، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948. لكن مثل هذا الفهم، وإن شكل ردّ فعل عفوياً على الواقع الراهن في المناطق الفلسطينية المحتلة، إلا أنه يصطدم بسلسلة من الحقائق السياسية التي تجعل من مشروع «الدولة الواحدة«، كحل راهن، مجرد ثمنٍ، وهروب إلى الأمام، وتهرب من مجابهة الوقائع التي أنتجها احتلال إسرائيل للضفة والقطاع منذ العام 1967.

لقد سبق للفلسطينيين أن طرحوا مشروع الدولة الواحدة في فلسطين بأفق ديمقراطي، يتجاوز المشروع الصهيوني القائم على العدوان والتمييز العنصري، ويتجاوز في الوقت نفسه المشروع القومجي العربي القائم على نزعة التخلص من اليهود وإعادتهم من حيث أتوا، في خطوة تعيد عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء. مشروع الدولة الواحدة بأفق ديمقراطي، قدّم نفسه حلاً بديلاً للمشروعين المذكورين، متجاوزاً في الوقت نفسه عدداً من الحقائق، أهمها عدم نضوج الوضع داخل إسرائيل لاستقبال مثل هذا البرنامج، وغياب روافعه الاجتماعية والسياسية والحزبية والفكرية اليهودية، وكذلك غياب الروافع العربية التي بإمكانها أن تشكل حاضناً لمشروع دولة ديمقراطية، في منطقة تحكمها قوى الاستبداد والظلم، وتشكل القضية الفلسطينية مبرراً لوجود أنظمة وصلت إلى السلطة بقوة السلاح، بدعوى إنقاذ القضية الفلسطينية (حتى من أصحابها أحياناً؟!)..

ولأن التاريخ ليس جثة هامدة بل هو حركة دائمة، ذات اتجاهات مختلفة، فقد شهدت الحالة الفلسطينية سلسة تطورات كبرى، قادت إلى إنهاء ظاهرة المقاومة المسلحة في الأردن، ما شجع قوى غربية على رأسها الولايات المتحدة لطرح مشروع للتسوية ظناً منها أن غياب المقاومة من الساحة الأردنية من شأنه أن يفتح الطريق أمام تسوية غربية إسرائيلية؛ لا يكون الفلسطينيون طرفاً فيها، بل يتم إلحاقهم في إطار مشروع ما يسمى آنذاك بالمملكة العربية المتحدة. غير أن نهوض الحالة الشعبية في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وتبلور الشخصية الكيانية الفلسطينية ممثلة بالمقاومة و م. ت.ف، والحركة الشعبية ومؤسساتها المختلفة في المناطق المحتلة، فتح الباب لتقديم مشروع فلسطيني بديل، أغنته النقاشات والحوارات، ليأخذ طابعاً وطنياً، شقت له طريقاً مساعداً حرب تشرين عام 1973، تبنته القوى الفلسطينية باعتباره المشروع الوطني الذي من خلاله تخاطب العالم وتعيد تقديم القضية الوطنية الفلسطينية.

صحيح أن البرنامج الوطني الجديد (وقد أطلق عليه اسم البرنامج المرحلي، شكل خطوة إلى الوراء، مقارنة مع مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة كحل ناجز للمسألة الفلسطينية وكحل تاريخي لمستقبل الدولة الإسرائيلية، لكن الصحيح أيضاً أن هذا البرنامج اتسم بواقعية شديدة، وفرت له تأييداً فلسطينياً وعربياً ودولياً، كما لقي تأييد تيارات إسرائيلية اتخذت موقعاً سلبياً من الاحتلال والاستيطان، ودعت إلى تطبيق القرار 242كأساس للحل، ثم طورت مواقفها لتلتقي مع البرنامج الوطني الفلسطيني الجديد، باعتباره يلبي مصالح الشعوب كافة في المنطقة ويضع نهاية للاحتلال وللحروب، ويفتح طريقاً نحو السلام، ونحو بناء دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، تجسد الكيانية السياسية لشعب فلسطين، وتدق أول مسمار في نعش المشروع الصهيوني، حين ينفتح على مصراعيه موضوع اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم في مناطق الـ48.

وصحيح أيضاً أن المشروع الوطني المرحلي شكل خطوة إلى الوراء مقارنة مع مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة، لكن الصحيح أيضاً ان هذا المشروع لم يغلق الطريق على برنامج الدولة الواحدة بل وفر الأساس التاريخي لقيام مثل هذه الدولة. فرضوخ الحركة الصهيونية لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه وعلى أرضه، واعترافها بالدولة الفلسطينية، وبحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، كلها خطوات تاريخية من شأنها أن تحدث تطوراً في بنى المجتمع الإسرائيلي، تفتح الباب لخوض معركة تفكيك البنى القانونية للمشروع الصهيوني التي سيتعارض وجودها مع التوازن الديمغرافي بين «العرب واليهود»، ما يجعل الصوت العربي قوة ناخبة وفاعلة في صوغ القوانين الجديدة ذات الطابع الديمقراطي بديلاً للقوانين الصهيونية. في هذا، كما هو ملاحظ، استعادة لتجربة جنوب إفريقيا، حيث نجح «الصوت الأسود» في إحداث التغيير المطلوب في بنى الدولة لصالح إلغاء بنى نظام التمييز العنصري لصالح النظام الديمقراطي.

إن قيام الدولة الديمقراطية الواحدة، يفترض به أن يشكل رداً تاريخياً على قرار الأمم المتحدة 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، مع علاقات اقتصادية شبه اتحادية. ونعتقد أن الوصول إلى مثل هذا الحل، يحتاج إلى جهود على الضفتين الفلسطينية والإسرائيلية معاً. فلا مكان لمشروع ديمقراطي دون قوى ديمقراطية تتبناه وتفعل لأجله. وواضح، حتى الآن، أن الجانب الإسرائيلي يفتقر لوجود هذه القوى. كما أن الحالة الفلسطينية لم تتوحد حتى الآن على الصيغة النهائية للحل مع إسرائيل. ما معناه أننا أمام حالة نقاشية يفترض ألا تسهم في تضييع البوصلة للحركة السياسية الفلسطينية في الوضع الحالي تحت سقف قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.

إن الذين يطرحون الآن مشروع الدولة الواحدة، بديلاً للمشروع الوطني المرحلي، إنما يحاولون أن يستعيدوا تجربة عاشها الشعب الفلسطيني في سنوات نضاله، وقدم في سياقها تضحيات كبيرة إلى أن حقق ما حققه من مكاسب تراكمية وتأييد عالمي لحقه في تقرير المصير. والطريق إلى الدولة الواحدة، ممره الإجباري، كما أكدت التجارب الصعبة، هو تكريس الكيانية الفلسطينية مؤسساتياً عبر قيام الدولة الفلسطينية، والتي بدون الاعتراف بها كياناً للشعب الفلسطيني يصعب الوصول إلى حل تتكافأ فيه العلاقة بين شعبين، وبين قوميتين وعلى أسس ديمقراطية، ويصبح الحل البديل دولة واحدة، تسودها القوانين الصهيونية القائمة على التمييز العنصري، في قلبها مجرد نظام للحكم الذاتي الفلسطيني.

المستقبل