عقدة الدولة اليهودية وحيرة الموقف الأميركي

بقلم: 

احتدم السجال في الحلبة السياسية الإسرائيلية بشأن الجهد الأميركي لتحقيق تسوية مع الفلسطينيين. ويبدو أن هذا السجال انتقل من حال إلى آخر بعدما صارت الوجهة الأميركية أقل اتضاحا مما كانت عليه في أي وقت مضى. فتصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير الخارجية جون كيري لم تعد ترضي القادة الإسرائيليين الذين راهنوا حتى اللحظة الأخيرة على وقوف الأميركيين إلى جانبهم في المفاوضات.

وهكذا فإن اضطرار جون كيري في شهادته مؤخرا أمام لجنة الخارجية في مجلس النواب الأميركي للقول بأن الإصرار على إلزام الفلسطينيين بالاعتراف بالدولة اليهودية كان خطأ عرّضه لحملة شديدة من جانب اليمين الصهيوني. وبعيدا عن تشنجات العناصر الهامشية الأشد تطرفا تكفي الإشارة إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي، موشي يعلون، وهو الأقرب إلى خفايا العلاقات الأميركية الإسرائيلية، تساءل إن كان كيري «وسيطا نزيها». فكل مواقف كيري إلى جانب إسرائيل لا تضمن له اعتباره «نزيها» إذا لم يلتزم بكل الاشتراطات الإسرائيلية. وإسرائيل، على الأقل وفق يعلون، ليست مستعدة للوفاء بتعهدات كيري للفلسطينيين، (بخصوص المعتقلين)، إذا لم ترتبط بالإفراج عن الجاسوس جونثان بولارد.
ومن المحتمل أن تكون قضية المعتقلين المقرر الإفراج عنهم نهاية الشهر الجاري عنصر تفجير بعدما أشارت جهات رسمية عديدة إلى اشتراطات جديدة. فالدفعة الرابعة من المعتقلين لن تضم فلسطينيين من مناطق 48، وفق يعلون وسواه، ولن تتم أصلا، وفق الوزير يعقوب بيري، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق حول استمرار المفاوضات. وهذا يجعل من المنطقي الافتراض أن المهمة الأساسية للرئيس أوباما في لقائه اليوم بالرئيس الفلسطيني محمود عباس هي ضمان استمرار المفاوضات.
صحيح أن الأميركيين في الأسابيع الأخيرة ضغطوا بكل قواهم على الجانب الفلسطيني مستخدمين أشكالا مختلفة من الضغوط والتهديدات بقصد تقريبهم من الموقف الإسرائيلي. وصحيح أن أميركيين وإسرائيليين كثرا يؤمنون بأن الرئيس أوباما وعد بمواصلة الضغط على أبي مازن لدفعه نحو القبول بالورقة الأميركية. لكن الصحيح أيضا أن الأميركيين، حتى الآن يعجزون عن فهم أسباب استمرار تصلب الموقف الإسرائيلي. ومن الجائز أن هذا العجز دفعهم في الأيام الأخيرة إلى تغيير وجهة الضغط من ناحية وتقليص منسوب التفاؤل الذي كانوا يبدونه حتى الآن من ناحية أخرى.
وتتزايد الأحاديث في أميركا عن قناعة الرئيس أوباما ومن حوله أغلب مسؤولي الإدارة بأنه من غير الصواب مواصلة الضغط على السلطة الفلسطينية ورئيسها لأنهما ليسا سبب جمود العملية السياسية وعدم تحقيق اختراق فيها رغم الجهد الأميركي الهائل. فنتنياهو هو من يرفض حتى الآن رسم خريطة لتصوراته للدولة الفلسطينية المستقبلية وهو من يرفض البدء بأي نقاش جدي حول القدس ويعلن جهارا أنها ليست للتفاوض وأنها ستبقى عاصمة موحدة تحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد. ونتنياهو لا يحاول تهيئة الأرضية لاحتمال إبرام سلام مع الفلسطينيين ويواصل التأكيد على يهودية الدولة ووجوب الاعتراف بها من الفلسطينيين كشرط لأي اتفاق قبل تحديد معالم الاتفاق.
وفي ظل تنامي الإحباط في الفريق الأميركي المفاوض، كما عبر عن ذلك كيري نفسه عندما قال انه لم يسبق أن كان انعدام الثقة بين الجانبين أكبر مما هو عليه الآن، يمكن القول ان الجهد الأميركي سيتجه نحو واحد من اثنين: إما إعلان فشل المساعي أو محاولة تحقيق مهلة إضافية. وفي الحالين لا يبدو أن هدف التوصل إلى اتفاق حول ورقة أميركية واضحة المعالم ممكن. وفي الغالب إذا تم التوصل إلى مهلة إضافية، وهي أمر يريده الطرفان بأثمان مختلفة، فإنها لن تكون أكثر من محاولة لكسب الوقت. فأي مهلة لن تكون كافية لدفع الإسرائيليين، في ظل الظروف القائمة، لتغيير تصوراتهم حول الحل المحتمل. إذ ان حكومة تحوي كل هذا الكم من المتطرفين المعارضين لأي تسوية، لا يمكنها أن تتجه نحو تسوية. كما أن الواقع الإسرائيلي الراهن يعجز عن إفراز حكومة ذات طابع أكثر اعتدالا.
وهكذا، فإن ما كان يبدو وكأنه لقاء حاسم بين الرئيس عباس والرئيس أوباما، صار أقرب إلى مجرد محطة لالتقاط الأنفاس وربما إلى فرصة لمراجعة المواقف. والأميركيون قبل غيرهم باتوا يقرون بأخطائهم ليس فقط في إظهار التفاؤل بقرب التوصل لاتفاق وإنما أيضا في طريقة إدارتهم للأمور. فاحتضان الأميركيين لإسرائيل لم يقد إلى منح قيادتها اليمينية المزيد من الثقة بالأميركيين بقدر ما قادها إلى مزيد من التعنت. لكن في ظل ظروف تفتت عربي شامل يصعب حتى على المسؤولين الأميركيين اتخاذ موقف مغاير خشية أن يضطروا لدفع أثمان سياسية داخلية.
عموما ثمة بين الإسرائيليين واليهود الأميركيين من يعتقدون أن الأميركيين باتوا على قناعة بوجوب تصحيح موقفهم من الفلسطينيين حتى لا يخسروا العملية السياسية برمتها، لكن بشرط ألا يخسروا تفاهماتهم مع نتنياهو. ويعتقد بعض الضالعين بالمفاوضات أن كيري تفاهم مع نتنياهو في عدد من الجوانب من دون أن يدرك أن هذه التفاهمات لا يمكن أن تمر لدى الفلسطينيين وهو ما خلق المشكلة الراهنة. ويبدو أن الأميركيين يتراجعون بشكل أبطأ مما يتطلب الأمر في حين أن الإسرائيليين لا يخشون كثيرا من فشل المفاوضات. ولهذا فإن متطلبات المهلة الإضافية تبدو أيضا صعبة. وقد سبق للفلسطينيين أن اعلنوا استعدادهم لتمديد مهلة التفاوض لكن بشرطين: الإفراج عن مزيد من المعتقلين وتجميد الاستيطان.
الإسرائيليون يرفضون تجميد الاستيطان فهل الإفراج عن مزيد من المعتقلين يوفر المخرج؟

 

السفير