الرئيس عباس... أمام الضغوط والمزايدات... وشرعية التوريث!

بقلم: 

يتوجه الرئيس عباس إلى واشنطن خلال الثمانية والأربعين ساعة القادمة للقاء الرئيس الأمريكي أوباما في وقت حاسم يتعلق بالمحاولة الأمريكية الجادة لاحداث اختراق في مسيرة المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية التي ظلت تراوح مكانها منذ أن توقفت عام 2001.

اقول المحاولة الجادة لأن أحدا لا يستطيع أن ينكر الجهد والوقت الذي وظفه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري منذ أن بدأ محاولته الأخيرة قبل حوالي سبعة أشهر وسط محاولات إسرائيلية للمراوغة ووضع الطلبات التعجيزية واستفزاز الطرف الفلسطيني من خلال تصعيد الاستيطان والقمع لدفعه للقيام بردة فعل تحقق لاسرائيل رغبتها في إفشال المفاوضات لكسب الوقت لاستكمال برامجها الاستيطانية والحفاظ على الائتلاف الحاكم لأنه الأفضل بالنسبة لليمين ولنتنياهو شخصيا على حد سواء. ورغم كل هذه المحاولات فقد ظل كيري يواصل جولاته المكوكية ويستخدم كل الوسائل المتاحة له لانجاح مهمته مستعينا ببعض دول المنطقة من جهة ً ، وغير آبه بما يتعرض له من انتقاد وتحريض إسرائيلي من جهة أخرى.
أما الرئيس عباس فإنه يتوجه إلى واشنطن متسلحا بالشرعية العربية متمثلة بقرارات الجامعة العربية في اجتماعاتها مؤخرا وبالشرعية الفلسطينية ممثلة بقرارات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية واللجنة المركزية والمجلس الثوري لحركة فتح وجميعها تؤيد موقفه في رفض الانصياع للمطالب الاسرائيلية التي تحاول إفراغ التسوية من مضمونها باشتراط التواجد العسكري الاسرائيلي طويل الأمد في غور الأردن وشطب حق العودة سلفا قبل الدخول في المفاوضات الحقيقية والاعتراف بالطلب المغرض بيهودية الدولة الاسرائيلية.
وإذا كان الرئيس عباس قد حصن نفسه مسبقا بقرارات الشرعية العربية والفلسطينية فإن هذا لا يعني أنه سيكون محصنا من محاولات الضغط العنيف من جانب أمريكا والذي كانت طلائعه إرسال عدد من القادة الأوروبيين إلى المنطقة للقاء المسؤولين الاسرائيليين والرئيس عباس والضغط عليه باتجاه الاستجابة للطلب الأمريكي.
وللأسف الشديد فإن الرئيس عباس يتعرض إلى وابل من الاتهامات والمهاترات من قبل الكثيرين من أبناء شعبه دون أن يقدموا البديل لرفضهم الخيار الذي يتبناه. فقد علمتنا السياسة أن أفضل شيء هو الرفض والمزايدة فهي تدغدغ عواطف العامة وتزيد من شعبية القائمين بها حتى ولو على حساب المصلحة الوطنية العامة ، لأن أصعب شيء في هذه المرحلة هو أن تختار وأن تعمل لا أن تظل على السياج تنتقد المارة وتسخر من خطواتهم.
أقول هذا وأنا أدرك بأن ليس هناك من هو معصوم من الخطأ وأدرك أيضا بأن من لا يخطيء هو من لا يعمل. وأعترف بأنه كانت لي وما زالت انتقادات على طريقة الأداء التفاوضي الفلسطيني منذ أن برزت الى السطح الرغبة الفلسطينية في حل الدولتين عام 1988 وكتبت في هذا الموضوع ما لم يسمح له بالنشر وما نشر ، وما زلت اتمسك بما قلت منذ أكثر من ربع قرن ولكنني لا أزاود على أحد وأنا أكثر من يعرف صعوبة المهمة الشاقة والمسؤولية المصيرية التي يتحملها أي قائد فلسطيني في هذه المرحلة.
ولست هنا لأدافع عن الرئيس عباس لأنني لا أعتقد بأنه بحاجة إلى دفاعي ولكنني أقول : أعانه الله على العبء الذي أنيط به ، وأعانه الله على المزاودين الذين لا يعملون ولا يتركون غيرهم يعمل.
قد يكون الرئيس عباس هو آخر الرجال من جيل مؤسسي حركة فتح الذين أعادوا للشعب الفلسطيني هويته وإرادته وقدرته على المطالبة بحقوقه السليبة بعد أن كادت الهوية الوطنية الفلسطينية تذوب وتتلاشى. والذين هم من جيلي يفهمون جيدا ما أقول ، ولولا الانطلاقة والاحتلال والحركة الفدائية وتفجير روح المقاومة لما كان اليوم هناك جيل يؤمن بحقه ويضحي من أجله كما هو الحال اليوم.
وإذا كان الرئيس عباس هو الأخير من جيل المؤسسين الثوار فإن على الجميع أن يدرك معنى القلق من أن ينتهي هذا الجيل ونحن ما زلنا نراوح مكاننا ، ومع كل الاحترام لمن يطمعون في إرث محمود عباس أقول بأن أحدا منهم لن تكون له المصداقية كقائد تاريخي ليرث محمود عباس ما لم يأت من خلال صناديق الاقتراع وبالانتخابات الحرة النزيهة. وعلى الرئيس عباس أن يتخلى بالمطلق عن فكرة تعيين نائب له أيا كانت التخريجة أو التوليفة القانونية التي يمكن أن يهيئها البعض له ، فإذا كان لا يملك الشرعية الانتخابية فإنه يملك شرعيته التاريخية ولكنه لا يملك حق توريث من يعقبه .
وعلى الرئيس عباس أن يعمل وبكل الوسائل الممكنة لمأسسة الشرعية الفلسطينية من خلال صناديق الاقتراع حتى ولو من خلال انتخابات نصفية في الضفة الغربية وإبقاء الباب مفتوحا لاجراء انتخابات استكمالية في غزة عندما تسمح الظروف بذلك.
الرئيس عباس في زيارته لواشنطن لن يكون على فراش من حرير ، فالرئيس الأمريكي يريد اختراقا في الجهود الحالية التي يقوم بها وزير خارجيته لسببين ، الأول هو أن أوباما الذي منح جائزة نوبل للسلام حال توليه رئاسة أمريكا وقبل أن يعمل أي شيء يستحق عليه هذه الجائزة يجد نفسه ملتزما ولو أدبيا تجاه المجتمع الدولي لعمل أي شيء يبرر له اخذه هذه الجائزة ، والثاني أن أوباما مقتنع بأن من مصلحة أمريكا أن تغلق هذا الملف لتضمن بقاء ووجود وشرعية حليفتها الاستراتيجية إسرائيل ولكي تتفرغ لملفات دولية ساخنة أخرى تهدد الأمن القومي الأمريكي وخاصة في مجال الارهاب المتزايد والمجال الاقتصادي الذي يقض المضاجع الأمريكية.
وللأسف الشديد ، ومع الرغبة الأمريكية بإيجاد تسوية في المنطقة فإن هذه الادارة تواجه صعوبات وعراقيل اسرائيلية جمة قد لا تمكنها من تحقيق كل ما تريد ولكنها وأمام هذه العراقيل ستحاول الضغط على الطرف الأضعف وهو نحن في هذه الحالة ، كما تحاول تخفيض سقف توقعاتها. فقد بدأت العملية على أمل التوصل إلى اتفاقية سلام ، ثم تراجعت وأصبحت التوصل إلى اتفاق يتم التوقيع عليه من الطرفين على مبادىء إطار للتسوية ، وأصبح الآن التوصل إلى مبادىء تحدد الرؤية الأمريكية للحل دون أن يوقع عليها الطرفان تتيح وتعطي المبرر لتمديد المفاوضات.
والرئيس عباس بحاجة في هذه المرحلة وإزاء الضغوط التي يتعرض وسيتعرض لها على نطاق أوسع ، لدعم من الجبهة الداخلية يشد على يده ويحمي ظهره لا إلى محاولات للتشكيك ولا إلى مزاودات ومهاترات لا تخدم إلا أولئك المشككين في مصداقيته وصفته التمثيلية. ولنا على الرئيس عباس أن لا يرضخ إلى أية ضغوط وأن يعطي الجبهة الداخلية الأهمية والأولوية الأولى حين عودته لأن ترتيب البيت الفلسطيني هو الأهم ولأن الرئيس عباس غير مخلد إلى الأبد ولأن أحدا غير منتخب من الشعب وعبر انتخابات حرة ونزيهة لن تكون له الشرعية التي توفرت للرئيس عباس على خلفية تاريخه وتجربته ومواكبته للقائد التاريخي ياسر عرفات.

القدس