الملعب السياسي الإسرائيلي وكرة «كيري»
هاجم مسؤولون إسرائيليون كبار، بقوة، وزير الخارجية الأميركي (جون كيري)، وذلك بعد ساعات من تصريحاته التي لوح فيها باحتمال مواجهة إسرائيل مقاطعة وعزلة دوليتين وانعدام الأمن فيها إذا فشلت مفاوضات التسوية الجارية حالياً. ولم تكن هذه أول مرة يتلقى فيها رؤساء ووزراء خارجية أميركيون إهانات من إسرائيل. فكلما كانت تشتد حمأة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ويرفض الفلسطينيون الإملاءات الإسرائيلية ويضيق الأميركيون بالشروط الإسرائيلية التعجيزية، يبدأ اليمين المتطرف (الغالب على المجتمع السياسي الإسرائيلي) بالهجوم على حامل الأفكار الأميركي بحجة أنه جاء ليسلب «أرضهم» ويفرض عليهم تقديم «تنازلات» مؤلمة. ونتذكر هنا كيف جرى اعتبار الصهيوني العريق هنري كيسنجر الذي قدم خدمات استراتيجية جلية لإسرائيل، «يهودياً صغيراً»، في حين تم وصف الرئيس الأميركي باراك أوباما بـ«فرعون معاد للسامية»، وذلك عقب مطالبته بـ«تجميد» «الاستيطان» في عام 2010.
لقد تعددت صيغ الهجوم على كيري وتضمنت الكثير من الاتهامات والابتزازات؛ فهو بحسب وزير الشؤون الاستخباراتية الإسرائيلي يوفال شتاينتز، «عدواني، وتصريحاته مهينة ولا يمكن احتمالها. وهو كمن يصوب بندقية إلى رأس إسرائيل». كذلك لم يفوت زعيم اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، وزير الاقتصاد نفتالي بينت، الفرصة كي يهاجم كيري حيث أدلى بدلوه قائلا: «الأمن فقط سيؤدي إلى ثبات اقتصادي، ونحن نتوقع من الدول الصديقة لنا في العالم الوقوف إلى جانبنا أمام محاولات المقاطعة اللا سامية ضد إسرائيل، وألا تكون بوقا لأعداء السامية». ومن جهته، فإن وزير الإسكان «أوري آريئيل» من حزب «البيت اليهودي» اليميني المتطرف المؤيد للاستيطان وصف كيري بأنه «ليس وسيطاً نزيهاً بحديثه عن تهديد المقاطعة». أما وزير الحرب موشي يعالون، الذي بدأ الهجوم قبل الجميع على وزير الخارجية الأميركي، فقد اتهم الأخير بأنه «يتصرف انطلاقاً من هوس في غير محله وحماسة تبشيرية»، زاعماً «جهل» كيري، وذلك حين قال: «لا يستطيع أن يعلمني أي شيء عن الصراع مع الفلسطينيين». ورغم تقديم يعالون «اعتذاره» لاحقاً للوزير الأميركي، إلا أنه لم يتراجع عن مضمون تصريحاته. وقد أثارت جميع هذه التصريحات وغيرها توتراً كبيراً مع الولايات المتحدة.
والنتيجة التي نخلص إليها، بعيداً عما سيطرحه كيري، خاصة لجهة رفض الفلسطينيين تلك التسريبات التي قيل إنها تتضمن «خطته»، وعلى رأسها «يهودية الدولة»، فإن الهجوم جاء لمجرد أنه تساءل بموضوعية عن نتائج فشل مفاوضات التسوية حين أعلن: «هل سيبقى قادة السلطة الفلسطينية الملتزمون بعملية السلام في الحكم أم سيحدث المزيد من التطرف والعنف؟»، أي أن تعنت القادة الإسرائيليين يمكن أن يطيح بالاعتدال الفلسطيني. وبالنظر إلى الشخوص التي صدرت عنها هذه التصريحات، مع اختلاف خلفياتهم السياسية، يتأكد أنها كلها مجرد «أعراض» لـ«مرض مزمن» جوهره مقاومة هؤلاء الساسة ورفضهم لعملية «السلام، فضلا عن أهداف حزبية وربما شخصية. فـ«شتاينتز» مثلا هو صوت نتنياهو الذي فضل اعتماد التجسير الدبلوماسي وعدم مهاجمة كيري بشكل مباشر واضح. أما «بينت» فهو الذي يؤمن بأن «فكرة إقامة دولة فلسطينية في (أرض إسرائيل) قد عفا عليها الزمن»، معتبراً أن «أكبر مشكلة نواجهها الآن تتمثل في عدم استعداد القيادة الإسرائيلية للتأكيد بصوت واضح على أن (أرض إسرائيل) تعود (لشعب إسرائيل)». في حين أن «يعالون» هو على رأس المنافسين لنتنياهو على أصوات اليمين واليمين المتطرف في الانتخابات القادمة لرئاسة الوزراء.
ورغم ذلك، فثمة تصريحات مغايرة، مع أنها أيضاً تدخل في إطار الأهداف الحزبية والشخصية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تصريحات وزير الخارجية اليميني أفيغدور ليبرمان، وعلى عكس العادة، تساعد كيري، حين قال: «أريد أن أوضح. كيري صديق حقيقي لإسرائيل.. ما الهدف من تحويل صديق إلى عدو.. زملائي اليمينيون يتبارون في استعراض قدراتهم البلاغية.. من يستطيع أن يكون أكثر قوة وصخباً ضد كيري. هذه الغوغائية لا تفيد. يجب أن نسترخي قليلا». لكن هذا كله يدخل في سياق الطموح السياسي، فهو يحاول تغيير الصورة المتطرفة، بل الشاذة، التي عرفها المجتمع الدولي عنه، وها هو الآن يحاول الظهور بمظهر السياسي المعتدل، والساعي (لم لا) إلى أن يصبح الزعيم القادم لليمين في إسرائيل بعد نتنياهو وإلى براغماتية ينتهجها بهدف تغيير وضعه كشخص غير مرغوب به على الساحة الدولية، وذلك بعد إعادته إلى منصبه كوزير للخارجية في نوفمبر 2013 بعد أن كان قد استقال منه في أواخر عام 2012 بعد توجيه تهم الاحتيال وخيانة الأمانة إليه. في هذا السياق، جاء اتهام المتحدث باسم حزب «البيت اليهودي» وقوله: «ليبرمان يخاف من نفتالي بينيت (زعيم الحزب) ويعاني من انخفاض 70 في المئة من شعبيته بين الناخبين اليمينيين».
إذن، السياسيون البارزون الحاكمون في إسرائيل يبحثون عن مكاسب حزبية وشخصية، وهذا أمر طبيعي عند الساسة عموماً. غير أن ساسة إسرائيل –هذه المرة– اختاروا إدخال أهداف في شبكات منافسيهم من خلال ركل الكرة المستجدة: كيري. وكان يمكن للأمر أن يمر على نحو عادي لولا أنه جاء متجاوزاً للأعراف المتبعة بين الحلفاء (ومن هنا جاء رد الفعل الأميركي قوياً، لكن منضبطاً، وعلى لسان أكثر من مسؤول). وعلى ما يبدو أن جميع هؤلاء السياسيين نسوا، أو تناسوا، أن الولايات المتحدة هي الحليف الأقوى والأول بلا منازع لإسرائيل، وأن تردي العلاقات معها له ثمن أعلى كثيراً من كل المكاسب الحزبية أو الصراعات الداخلية الإسرائيلية. وما كان لذلك النسيان (أو التناسي) أن يحدث لولا أنه –كما الاتهامات آنفة الذكر ضد كيري– مجرد «أعراض» لمرض مستحكم عند قوى اليمين الإسرائيلي، ونقصد: مرض رفض السلام وبالتالي التسوية. هذا، مقروناً بارتفاع منسوب الشهوة للسلطة، وعلى نحو انتهازي فاضح، لدى رموز يمين إسرائيلي متطرف أفقده تطرفه الرؤية وأصابه بمرض «قصر النظر» السياسي. وهذا ما فطن إليه الكاتب الأميركي اليهودي الصهيوني لكن «المعتدل»، توماس فريدمان، حين كتب يقول: «إن كانت إسرائيل تريد حقاً إبطاء حملة المقاطعة، فستعلن أنه طالما ظل كيري يحاول التوصل إلى اتفاقية وطالما ظل هناك أمل في النجاح، فستجمد إسرائيل كل نشاطها الاستيطاني لإعطاء أفضل فرصة للسلام. وأعلم أن هذا غير محتمل، لكن شيئاً واحداً أعلمه جيداً هو أن هذا الصد المتواصل لكيري من قبل الوزراء الإسرائيليين وطلبهم أن يوقف الفلسطينيون كل «التحريض» مع استمرار إسرائيل حرة في بناء المستوطنات في وجههم، لن يكسب إسرائيل أصدقاء في أوروبا ولا في أميركا. فذلك فقط يمد المقاطعين بالقوة».