الحياة والموت.. لغة النظام السوري في اليرموك
بشكل مفاجئ وجه النظام السوري صفعته الجديدة في وجه كل متابع للمأساة الإنسانية الحاصلة في مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية، وذلك بقصف المخيم المحاصر بالبراميل المتفجرة للمرة الأولى منذ بدء أزمته، ما أسفر عن سقوط 8 شهداء وعديد الجرحى الذين يتوقع انضمامهم إلى قائمة الشهداء نتيجة انعدام الموارد الطبية والغذائية عن المخيم. كما يشهد كارثة إنسانية أدت إلى سقوط أكثر من 50 شهيدا نتيجة الجوع، 17 منهم خلال الأسبوعين الماضيين فقط. صحيح أنه لم يعد مستغربا مدى الوحشية التي يمارسها النظام بحق أبناء شعبه في كل المناطق. لكن مفاجأة “البرميل المتفجر” أنها قد أتت بعد تحرك شعبي وجماهيري كبير من أجل فك الحصار عن المخيم المنكوب والذي وصلت أصداؤه إلى كل مكان في العالم، وبعد قدوم وفد من منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة “أحمد مجدلاني” إلى دمشق والاتفاق مع النظام على خطة عمل لإدخال مساعدات عاجلة لإنقاذ حياة المدنيين كخطوة أولى، ثم الانتقال إلى ترتيبات متفق عليها من أجل تحييده عن الصراع الدائر في البلاد.
الذي حصل أن النظام فرض على قافلة المساعدات المرور خلال عدة أحياء تخضع لسيطرة المعارضة السورية في طريقها إلى المخيم، وخلال مسيرها تعرضت لإطلاق نار يؤكد شهود العيان أن جنود النظام هم من قاموا به بهدف إفشالها، والجميع يعلم بأنه حتى لو دخلت القافلة إلى الأحياء التي تسيطر عليها قوات المعارضة فهي لن تصل أبدا إلى اليرموك، باعتبار أن تلك الأحياء أيضا محاصرة منذ عام، ولا يمكنهم رؤية المساعدات تمر أمام أعينهم دون الحصول على شيء منها، ولو كان النظام السوري جادا في رغبته بوصولها إلى المخيم لسمح بإدخالها من مدخله الرئيسي الذي تسيطر عليه قواته. وفي اليوم التالي عصرا وبينما كان الأهالي ينتظرون المحاولة الجديدة لإنقاذهم قامت حوامة سورية برمي برميلها المتفجر وسط المخيم في تصعيد عسكري ونوعي غير مبرر وغير مسبوق، باعتبار أنها المرة الأولى التي تستخدم فيها البراميل المتفجرة، وبالتالي كانت صفعة قوية لوفد منظمة التحرير الفلسطينية المتواجد في البلاد لإنقاذ المخيم، وليس للوقوف كشاهد عيان على قصفه بالبراميل المتفجرة، وهو الذي كان يأمل بعد تبنيه لوجهة نظر النظام حول الصراع في سوريا عموما وفي اليرموك خصوصا، أن يحقق إنجازا وحيدا وهو فك الحصار عنه.
بخبثه المعتاد يهدف النظام من خلال هذه الضربة إلى تحقيق عدة مكاسب، أولها إحراج المنظمة الفلسطينية أمام جماهيرها في سوريا وفي كل مكان، وإظهار عجزها وضعفها خاصة أنها تلقت الضربة ولاذت بالصمت بدون أي تعليق، بينما كان أهالي المخيم ينتظرون إغاثتهم وليس قتلهم، وهو ما يزيد من اتساع الهوة بينهم وبين المنظمة والذي كانت أولى مؤشراته خروجهم في مظاهرة منددة بها وبعجزها.
لم يكن القصد إحراج منظمة التحرير فقط، فقد مهد النظام خلال فترة الحصار الطويلة التي فرضها على اليرموك، إلى خلق حالة احتقان شديدة تجاه مختلف الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها منظمة التحرير والجبهة الشعبية- القيادة العامة بزعامة “أحمد جبريل”، بعد إفشاله لجميع المبادرات التي تقدمت بها لفك الحصار عن المخيم، وقيامه بالغارة الأخيرة، التي يرمي من خلالها إلى تأجيج مشاعر الغضب تجاههم جميعا، ما جعلهم يطالبون بسحب تمثيلهم السياسي، وهو أخطر ما قد تواجهه “المنظمة” على وجه خاص، بسبب الظروف الصعبة التي تمر بها عملية المفاوضات الحالية خاصة أن فلسطينيي سوريا والذين يصل تعدادهم إلى 600 ألف لاجئ لهم وزنهم في الحسابات السياسية المرتبطة بعملية التسوية وحق العودة.
وبالتأكيد هذه الحالة الفوضوية من الانقسام الشعبي والفصائلي التي يساهم النظام السوري في تكريسها بين الفلسطينيين أنفسهم حول قضية اليرموك، تصب في مصلحته ويتخذها وسيلة لتبرير جريمة الحصار القاتل الذي يفرضه، باعتبار المخيم شأن فلسطيني ولا يحل إلا باتفاقهم، الأمر الذي يطيل عمر الحصار ويزيد من مأساويته ويبتز النظام من خلاله منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية ويجبرها على دفع مواقف سياسية داعمة له، حيث يكون بيده وحده منح صك شرعية لمن أراد أمام المحاصرين، حين يسمح لأي طرف منهم بإدخال المساعدات وإنقاذهم، فالنظام لم يعد يأبه بعد قتله المئات بمختلف الطرق؛ حول شكله أمامهم فقد سقط قناع “المقاومة والممانعة” الذي كان يرتديه لسنوات طويلة خلت.
ومن الأهداف الأخرى التي سعى النظام إلى تحقيقها أيضا، زرع الفتنة بين الفلسطينيين والسوريين وتمزيق النسيج الاجتماعي الذي يربطهم، ومشاعر الأخوة التي سادت بينهم خلال سنوات اللجوء الطويلة وسنوات الثورة، فهو يحاول زيادة مشاعر الغضب لدى المدنيين المحاصرين في المخيم، واستخدامهم ليقوموا ضد معارضيه السوريين الذي يتهمهم على الدوام بعرقلة دخول المساعدات إليهم، وليعجل بتحقيق ذلك يخضعهم إلى حرب نفسية قذرة من تجويع وقصف وآخرها بالبراميل المتفجرة، في وقت نجحت بقية المناطق المجاورة لهم في التوصل إلى اتفاق يسمح بدخول إمدادات الغذاء والدواء.
وبعد فشل”البرميل” في إحداث الصدع الذي يتمناه بين أهل المخيم والمناطق السورية المجاورة، خاصة بعد إعلان الثوار في داريا إسقاط الطائرة التي قصفته وتسمية إحدى الحدائق لديهم باسم “شهداء اليرموك”، يسعى النظام الآن إلى تأجيج الصراع على المساعدات بين المحاصرين أنفسهم عندما سمح بدخول 200 سلة غذائية فقط لإغاثة 5500 عائلة محاصرة من السوريين والفلسطينيين ووعد بجرعات مشابهة في الأيام القادمة، ولكن دخولها إلى المخيم عبر مدخله الرئيسي يؤكد بالدليل أن النظام هو الذي كان يعيق وصولها في المرات الماضية، وقد يفسرها البعض أنها تأتي استجابة لضغوط دولية لإيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة في سوريا، لكن هذه الجرعة الصغيرة في اليرموك ليست إلا بداية للعبة جديدة قد يكون أحد أوجهها، الأزمة النفسية والاجتماعية التي سوف تخلقها عملية التنافس بين المحاصرين للحصول على جرعات الحياة هذه، طالما لم يفك الحصار نهائيا عنه.
حتى الآن أثبت المحاصرون في اليرموك أنهم ليسوا لقمة سائغة لدى النظام يستطيع تحريكها كيفما شاء، والدليل أن المظاهرات التي خرجت بعد الغارة الجوية، كانت أبرز هتافاتها التنديد به وصمت “المنظمة” وتواطؤ “جبريل” والتأكيد على وحدة الدم الفلسطيني والسوري. بذلك نجح المحاصرون في تفويت الفرصة على النظام، بينما تبدو منظمة التحرير وفصائلها العشر، مدركة لهذه اللعبة القذرة التي تمارس عليها ومساومتها على “شرعيتها” في اليرموك وباقي مخيمات سوريا، خاصة أن قضية الموت جوعا أصبحت خبرا يوميا على محطات الفضائيات ونشرات الأخبار ولم يعد في الإمكان تجاهلها، و”قطرة” المساعدات التي دخلت لن تكون كافية لامتصاص الاحتقان الشعبي المتزايد من الداخل والخارج حول تقصيرها بإنقاذ أرواح المحاصرين. كما أن الاكتفاء بلوم “الجماعات المسلحة”، وهي كذبة النظام لم تعد تنطلي على أحد حتى على “الممانعين” أنفسهم، وعليهم الإسراع بإنقاذ أنفسهم من المستنقع السوري قبل أن يفجرهم برميل جديد قد يسقط على المخيم.
في المحصلة؛ النظام السوري يستخدم لغة القوة ورسائل الموت والحياة للتحاور مع الفلسطينيين وابتزازهم جميعا عبر مخيم اليرموك وعلى منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها العشرة أن يجدوا لغة مناسبة للرد عليه، وبالتأكيد لغة “الصمت” لن تنفعهم.