2013 "عام الظل" لـ "قضية العرب المركزية"

بقلم: 

 

اذا جاز لنا تسمية العام الفلسطيني الذي يلفظ ايامه الاخيرة ايذاناً بالرحيل، يمكن ان نخلع عليه اسم "عام الظل". فلم يحصل ان اصاب القضية الفلسطينية، التي احتلت مكانة الصدارة منذ نشوئها قبل اقل من سبعة عقود واقترن ذكرها دائماً بصفة "قضية العرب المركزية" سواء كان ذلك عن حق او رياءً ونفاقاً، هذا القدر من التهميش، وتقهقر مكانتها كما هي عليه اليوم .
فأي قراءة، سريعة كانت أم متأنية، لدفتر يوميات العام الفلسطيني المنصرم يكاد لا يعثر على أي انجاز يعتد به، في حين تتزاحم عشرات الشواهد التي تنهض دليلاً على انزياح الشأن الفلسطيني الى هوامش جدول اعمال عواصم القرار الدولي والاقليمي بعد تصدر الاوضاع المتفجرة في عدد من البلدان العربية، وبخاصة في سوريا، رغم الضجيج والصخب الذي حف بمهمة وزير الخارجية الاميركي جون كيري ونجاحه في حمل الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي على العودة الى مائدة المفاوضات بعد انقطاعها اكثر من اربع سنوات. بل لعلها مفارقة ان البحث في ثنايا هذا النجاح يقدم دليلاً اضافياً على المكانة المتدنية التي آلت اليها "قضية العرب القومية".
فقد وقعت مبادرة كيري لاستئناف المفاوضات اواخر تموز الماضي على وضع فلسطيني منهك وبالغ الصعوبة على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية، والبراكين من حوله وبجواره تنفجر في كل الاتجاهات، فيما اسرائيل تخنقه وتشدد حصارها عليه وتحشره في اقصى الزوايا الحرجة وتحيل حياة الفلسطينيين الى جحيم.
قبل انطلاق كيري بجولاته المكوكية المتتابعة لاستئناف المفاوضات، حقق الفلسطينيون اواخر عام 2012 انجازاً سياسياً بالغ الاهمية باعتراف كاسح من قبل 132 دولة خلال دورة الجمعية العامة للامم المتحدة بفلسطين "دولة غير عضو" رغم معارضة الولايات المتحدة واسرائيل اللتين فشلتا فشلاً ذريعاً في هزيمة الحق الفلسطيني، وبدا موقفهما معزولاً ومعاكساً للارادة الدولية الراغبة بإنهاء مأساة الشعب الفلسطيني التي طال امدها ورؤية فلسطين تشغل مقعدها اسوة بغيرها من دول العالم في الاسرة الدولية ومؤسساتها المختلفة.
حينذاك عاد الرئيس محمود عباس من نيويورك محملاً على اجنحة انجاز سياسي لا يقل اهمية عن الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في قمة الرباط عام 1974، واشغالها لاحقاً مقعد بصفة "مراقب" في الجمعية العامة الامم المتحدة.
كان ينتظر البناء على هذا الانجاز الذي أثار الرعب في قلوب قادة اسرائيل، وان يتابع بهجوم ديبلوماسي في اطار استراتيجية فلسطينية يمكن ان تؤدي، في حال تواصلها وتوفير عوامل نجاحها وهي ليست مستحيلة، الى امرين الاول: نزع الشرعية عن الاحتلال، إن لم نقل عن اسرائيل ذاتها، وثانياً: انتزاع قيام الدولة الفلسطينية على الارض من خارج دائرة المفاوضات الجهنمية ورغماً عن انف اسرائيل ولو بعد حين. 
بيد ان الطبع غلب التطبع، اذ بدا السلوك السياسي الفلسطيني مغلولاً بعجزه، ووقف متسمراً عند حدود انجاز الاعتراف الاممي بفلسطين "دولة غير عضو" ولم يتقدم خطوة واحدة الى الامام، على الرغم من المطالبات الفلسطينية التي الحت بمواصلة الهجوم الديبلوماسي والتقدم بطلب عضوية لسائر المؤسسات الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية، اولا بهدف ترسيخ اقدام الاعتراف الاممي بدولة فلسطين، وثانياً لما توفره عضوية هذه المنظمات من فرص مهمة لمحاسبة اسرائيل وقادتها على جرائمهم ونزع الشرعية عن احتلالهم عن الاراضي الفلسطينية.
الاستنكاف عن متابعة الهجوم السياسي والديبلوماسي، أدى بعد فترة قصيرة الى تآكل مفاعيل الانجاز، ولحق بغيره من انجازات، كقرار المحكمة الدولية في لاهاي حول عدم شرعية جدار الفصل العنصري، وتقرير "غولدستون" الذي دان اسرائيل بارتكاب جرائم حرب واخرى ضد الانسانية اثناء العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة في عملية (الرصاص المصبوب) اواخر عام 2007 اوائل 2008، وذهب هذا وذاك ادراج الريح، ولم يترتب عليهما أي اجراءات عملية ضد سفاحي اسرائيل.
ثمة عامل اخر يحضر بقوة من بين العوامل التي تكبح تثمير أي انجاز فلسطيني والذهاب به الى نهاياته الحاسمة، يتمثل بارتهان السلطة الفلسطينية وخزينتها الى اموال الدول المانحة والمتبرعين العرب من جهة، وقيود اتفاق اوسلو السياسية والامنية واتفاق باريس الاقتصادي من جهة اخرى.
فالدول المانحة، لا سيما الاوروبية، ليست جمعية خيرية، وهي اعلنت مرارا وتكراراً ان تمويلها واستمرار تدفق مساعداتها مرهون بتقدم عملية السلام، ولعل العرض الاخير الذي اعلنه الاتحاد الاوروبي عن تقديم دعم غير مسبوق للسلطة واسرائيل وتوقيع اتفاقيات شراكة كاملة معهما حال توصلا لاتفاق، يمثل دليلاً صريحاً على مقايضة تنازلات فلسطينية مطلوب تقديمها لبلوغ الاتفاق العتيد بثمن اقتصادي سيظل بخساً مهما كان مغرياً مقارنة بالثمن المطلوب دفعه من حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية.
الى ما سلف، ثمة عامل اخر بالغ الاهمية وسيكون له ولسنوات وربما عقود تأثيره على المصير الفلسطيني. تمثل بانطلاق شرارة "الربيع العربي"، وما تلاه من ثورات وحروب اهلية علنية ومستترة من كل نوع يحضر فيها الصراع المذهبي بقوة، ومعظمها يجري على مرمى حجر من فلسطين وتنذر ليس بانهيار انظمة سياسية بعضها انهار فعلاً، بل بانفجار خرائط "سايكس بيكو" لدول المنطقة كما عرفناها منذ مطالع القرن الماضي، وما سيترتب عليها من تداعيات عميقة التأثير ليس الفلسطينيون بمنأى عنها، ان لم نقل يقيمون في عين عاصفتها الهوجاء.
اولى تداعيات هذا الانفجار يمكن رصدها اولاً في غياب القضية الفلسطينية عن جدول اعمال ثورات الربيع العربي، واغلب الظن انها ستغيب طويلاً بعدما تحولت الثورات الى حروب اهلية دموية وغرقت بلدان كسوريا والعراق وليبيا ومصر إما بالعنف او الفوضى او بالاثنين معاً.
الغياب الفلسطيني عن برامج ثورات "الربيع العربي" وبوجود رغبة رسمية عربية عميقة واصلية بالتخلص من عبء القضية الفلسطينية، وانخراط العواصم الوازنة منها في الحروب الاهلية المندلعة وما يتصل بها من صراع اقليمي محتدم يجعل منها اولوية مطلقة تتقدم على الشأن الفلسطيني، ادى الى انكشاف الظهر وغياب الظهير العربي للفلسطينيين، وبالتالي صار امر الاستفراد بهم وابتزازهم، وفرض اتفاق اطار جديد شبيه بـ"اتفاق اوسلو" الذي ولد من رحم حرب الخليج وتداعياتها اقليمياً، وانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية دولياً، هدفاً قابلاً للتحقيق، ذلك ان ما يجري حالياً تصله صلة قرابة بالظروف التي انجبت "اتفاق اوسلو" واوجه الشبه بينهما بادية للعيان. 
واذا ما اضيف الى العوامل الدولية والعربية والاقليمية العامل الاسرائيلي بصفته عاملاً داخلياً يقرر من خلال اليات وقيود اتفاقي "اوسلو" و"باريس" الكثير مما يخص مصير الفلسطينيين ووجهة سير حياتهم، ويتقدم على جميع العوامل سالفة الذكر من حيث اهميته وتأثيره على ما آلت له الحالة الفلسطينية.
وما ضاعف خطورة العامل الاسرائيلي كان الفوز الساحق الذي حققته احزاب اليمين واليمين المتطرف، وتشكيل حكومة هي الاولى من نوعها منذ قيام اسرائيل، حيث وصل ايضاً للمرة الاولى حزب يمثل المستوطنين (البيت اليهودي) الى مقاعد الحكومة، واحتل المركز الثالث في ترتيب الاحزاب في الكنيست. هذا الفوز بزعامة ابرز عتاة التطرف بنيامين نتنياهو وضع القيادة الفلسطينية قبالة خيارات بالغة الصعوبة. 
بالتوازي مع هذه العوامل، ولكن قبلها جميعاً حافظ ملف المصالحة وانهاء الانقسام على جموده. بل في واقع الامر شهد مزيداً من التدهور وتراجع فرص اعادة تحريك عجلته بفعل عاملين: الاول: انشغال مصر راعية هذا الملف بوضعها الداخلي بعد "ثورة الثلاثين من يونيو" وسقوط حكم جماعة الاخوان المسلمين التي تنتمي لها حركة "حماس"، والثاني: ان التغيير المصري بدل ان يحفز "حماس" على الاقل لاسباب برغماتية لتنفيذ اتفاقي القاهرة والدوحة، وللوقوف على مسافة كافية كما فعلت حركة "فتح" والرئيس عباس ابان حكم محمد مرسي من الجماعة وتوكيد هويتها الفلسطينية كحركة تحرر، فان "حماس" ذهبت باتجاه اخر ومعاكس، واثبتت للمرة الالف شأنها في ذلك شأن الجماعة التي تنتمي لها انها حركة ايديولوجية وأن ولاءها لمرشد الجماعة يتقدم على اي ولاء وطني اخر، اذ انخرطت كما تتهمها على الاقل جهات مصرية رسمية واعلامية بالمشاركة المباشرة باعمال العنف التي شهدتها مصر بدءاً من اقتحام سجن وادي النطرون ابان "ثورة 25 يناير" وحتى اخر عمليات استهدفت عناصر الجيش والمؤسسات المصرية في سيناء والتواجد المسلح والفاعل في اعتصام رابعة العدوية، وهو ما ترتب عليه نشوء حالة من الخصومة المتبادلة بين الطرفين وحذف على ما يبدو ولو الى حين موضوع المصالحة من جدول الاعمال المصري.
وجل ما قامت به "حماس" هو نوع من التحايل على المصالحة بطرح رئيس وزراء حكومتها اسماعيل هنية مبادرة دعا فيها الفصائل الفلسطينية الى ادارة مشتركة لقطاع غزة، بدل ان يعلن القبول من دون تردد بتنفيذ اتفاقي القاهرة والدوحة.
ولم يكن خافياً، ان هدف دعوة هنية مشاركة "حماس" ليس في حكم قطاع غزة، فهذا طريقه انهاء الانقسام واستعادة وحدة الارض والمؤسسات الفلسطينية، بل لمشاركة الاخرين في تحمل وزر الحصار الذي تضاعف بعد عزل الرئيس مرسي واغلاق معبر رفح من جهة، ومن جهة ثانية ايجاد مخرج او مظلة فلسطينية للاستظلال بها بعد المأزق الذي اوقعت نفسها به، اولاً: بتغيير موقعها وتحالفاتها اثر اندلاع ثورات "الربيع العربي"، وثانياً: بعد سقوط حكم الجماعة بمصر، وانحيازها السافر ضد "ثورة 30 يونيو"
هذه الدعوة/المبادرة تبخرت مع وربما قبل ان يجف حبرها، فقد قابلتها حركة "فتح" المعني الاول بالدعوة بالرفض، فيما رأت فيها معظم الفصائل طريقة للهروب من استحقاق المصالحة.
بالمقابل، ثمة من رأى في حركة "فتح" في سقوط حكم مرسي بمصر فرصة سانحة لتكرار ذات السيناريو في قطاع غزة واسقاط حكم "حماس" تحت تأثير النموذج المصري، وبفعل تصاعد حالة التذمر والرفض لها بسبب ما جلبته من حصار يخنق قطاع غزة من جهة، وبسبب ممارساتها واستبداد حكمها، ولم يلحظ هؤلاء الفروق بين الحالتين، ولا باسباب وحوامل التغيير في مصر التي لا يتوافر على مثلها في حالة غزة وحكم "حماس".
واذا ما اضيف الى ذلك، انشغال الاطراف الاخرى التي كانت تبدي اهتماماً بشأن المصالحة لا سيما تركيا وقطر اللتان صبتا جهدهما صوب ملفي سوريا ومصر، فقد غابت فعلياً أية عوامل دافعة نحو استئناف المصالحة الفلسطينية. 
وخلاصة القول، ان جميع العوامل السابقة التي تلبدت بها سماء فلسطين على امتداد شهور العام المنصرم كانت تذهب باتجاه مضاعفة حالة الضعف والوهن التي يرزح تحت وطأتها الوضع الفلسطيني على ضفتي الانقسام في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهي العوامل ذاتها التي جعلت وزير الخارجية الاميركي جون كيري يتقدم غير هياب ساعيا الى توظيف كل ما يقع تحت يداه من عوامل ضغط وابتزاز مع تهديد اميركي بالثبور وعظائم الامور الى درجة ان الرئيس باراك اوباما نفسه اتهم عباس في احد مكالماته معه بانه يضر بالمصالح الاميركية العليا في المنطقة، لحمله على العودة الى المفاوضات والتنازل عن طلبه توفير شرطين لطالما طالب بهما واعتبرهما استحقاقين للشروع في مفاوضات جدية وهما: وقف الاستيطان واعتراف نتنياهو بحدود الرابع من حزيران كأساس لهذه المفاوضات.
وغني عن البيان ان كيري الذي انفق جهوداً طائلة، وتجشم عناء السفر ست مرات واجتمع مع عباس ونتنياهو خلالها عشرات الساعات، انتهى الى الاذعان للطلبات الاسرائيلية. فتعهداته التي صاغها وقدمها للطرفين كي يستأنفا التفاوض خلت من شرط وقف الاستيطان، وتعهد بمعارضة ادارة بلاده لاي اجراءات استيطانية والعمل على ما اسماه لجم اندفاعتها، اما اسرائيل التي تصادر الارض وتقيم المستوطنات فلا تلزمها اقتراحاته بأي شيء في هذا المجال. كما تعهد هو باسم بلاده ايضاً بحل الدولتين على اساس حدود عام 67، لكن نتنياهو اعلن على رؤوس الاشهاد رفضه ذلك، اكثر من ذلك فقد اعلنت حكومته يوم انطلاق المفاوضات البدء ببناء 168 وحدة استيطانية لتأكيد موقفها الرافض أي وقف ولو مؤقتا للاستيطان.
وجل ما استطاع كيري تقديمه اقناع اسرائيل بإرجاء طلبها الاعتراف المسبق بيهودية اسرائيل، وادراج هذا الطلب على جدول اعمال المفاوضات لاحقاً، والافراج عن 104 من اسرى ما قبل "اتفاق اوسلو" على اربع دفعات، كتقدمة للرئيس عباس كي يستطيع تمرير قرار العودة للمفاوضات بأقل الاعتراضات الشعبية والفصائلية، مقابل تعهد فلسطيني بعدم تقديم أي طلبات عضوية لمنظمات ومؤسسات الامم المتحدة، لا سيما محكمة الجنايات الدولية.
آنئذ، اعطى كل من عباس ونتنياهو موافقتهما على استئناف المفاوضات. عباس اعطاها لوقف حملة الضغوط الهائلة التي مورست عليه، ولضمان تدفق المنح والمعونات العربية والدولية بعد ان اصبحت خزينة السلطة خاوية، ولتسجيل الافراج عن الاسرى في رصيده كانجاز في عام عزت فيه الانجازات، ثم اخيراً في مقام اول أنه لا يريد ان يتهم بافشال عملية السلام وتحميله مسؤولية الفشل وتبعاته التي لا قبل له بها، ثم ان التسعة شهور التي حددت كسقف لهذه المفاوضات ستنتهي من دون أي نتائج، وعندها لن يلومه احد على العودة لمؤسسات الشرعية الدولية.
اما نتنياهو فقد ضمن ان استئناف المفاوضات بالصيغة سالفة الذكر لا تلزمه بأي استحقاق واجب التنفيذ ولا تعرضه ولا حكومته لاي اهتزازات، وهي (المفاوضات) يمكن ان تتواصل لألف عام من دون ان تتوصل لاية نتيجة تذكر، فيما الاستيطان سيواصل، وتهويد القدس سيستمر، وخلق الوقائع على الارض لن يتوقف ولكن بدون انتقادات دولية، وبغطاء توفره المفاوضات والمفاوض الفلسطيني الذي لا يعترض، وان اعترض لا ينسحب، بالاضافة الى انه وضع في جيبه التعهد الفلسطيني بعدم طلب عضوية أي من المنظمات الدولية خلال فترة المفاوضات (6-9 شهور)، وهو ما كان كما اسلفنا يؤرق قادة اسرائيل من مختلف الاطياف، ويهدد شرعيتها وينزع عنها أي غطاء اخلاقي.
وقائع ونتائج جلسات المفاوضات التي انطلقت في 30 تموز في واشنطن وتواصلت في القدس الغربية، برئاسة الدكتور صائب عريقات عن الجانب الفلسطيني ووزيرة العدل تسيفي لفني عن الجانب الاسرائيلي، حتى الان غنية عن البيان، فوسائل الاعلام حفلت خلال الاشهر الماضية بأخبار الاخفاق والفشل.
اسباب هذا الاخفاق والفشل تكمن اصلاً في ان هذه المفاوضات استؤنفت من دون أي مرجعيات سوى تعهدات كيري الشفوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، واطلقت فعلياً يد اسرائيل في فرض ما تريده، وهي الى ذلك مفاوضات منفردة رفضت اسرائيل حضور حتى المبعوث الاميركي لعملية السلام اليهودي الذي خدم في الجيش الاسرائيلي في حرب تشرين 1973 مارتن انديك ومنعته من دخول غرفة التفاوض.
العقدة التي وضعها المفاوض الاسرائيلي في منشار المفاوضات تمثلت في تصدر الملف الامني جدول اعمال المفاوضات واخضاع موضوع الحدود لما يسميه الترتيبات الامنية، وبمد هذا المنطق على استقامته فإن مفهوم الترتيبات الامنية لا سيما في منطقة الاغوار سيمتد ليشمل ملفات التفاوض الاساسية كالاستيطان والقدس والمياه .
وذا كان الموقف الاسرائيلي لا يدعو للاستغراب، بل انه متوقع، فإن ما يثير شتى انواع التحفظ والرفض هو الموقف الاميركي الذي رأى في تبني المطالب الامنية الاسرائيلية مخرجاً لاستعصاء المفاوضات وارتطامها بطريق مسدود.
والادهى والامر، ان الادارة الاميركية التي بلعت الاهانة الاسرائيلية برفض دخول ممثلها انديك قاعة التفاوض، استقدمت الجنرال جون الن، وهو واحد من كبار جنرالاتها المرموقين، لصياغة اقتراحات حول الترتيبات الامنية في الحل النهائي، فعقد والفريق المساعد له عشرات الاجتماعات وانفق مئات الساعات في البحث والنقاش مع قادة الاجهزة الامنية وجنرالات الجيش الاسرائيلي ولم يزر مرة واحدة رام الله، ولم يكلف نفسه عناء مشاهدة ما يعانيه الفلسطينيون سلطة وشعبا جراء الاجراءات الاسرائيلية.
وخلص الجنرال الن، بعكس سلفه الجنرال جيمس جونز الذي عمل على ذات الملف ابان ادارة بوش وخلص الى استنتاج مفاده ان الاخذ بالاعتبارات الامنية الاسرائيلية سيعني الحيلولة دون قيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً، الى استنتاجات مغايرة وصاغ خطته التي تتضمن بحسب ارفع المصادر الفلسطينية:
اولاً: تواجد متفق عليه للجيش الاسرائيلي على طول نهر الاردن لمدة تتجاوز اربع سنوات وقد تصل الى عشر سنوات، وقد تشارك في هذا التواجد قوات اميركية على ان يتم تخفيض القوات تدريجيا والمدة الزمنية وفقا للوضع الامني في الضفة الغربية وعلى الحدود .
ثانياً: الدولة الفلسيطينية ستكون منزوعة السلاح، وستقوم طائرات الاستطلاع الاميركية بمهمة المراقبة المتواصلة للاراضي الفلسطينية على غرار المراقبة التي تجريها في الجولان السوري بعد اتفاق فصل القوات بين اسرائيل وسوريا.
ثالثاً: ستكون المعابر الحدودية علي نهر الاردن بإدارة مشتركة بين الطرفين مع تمثيل اميركي، وسيتم اخلاء الضفة الغربية من الجيش الاسرائيلي ماعدا الاغوار ولا يسمح بمطاردة ساخنة للجيش الاسرائيلي داخل الضفة الغربية .
رابعاً: ضخ استثمارات اميركية كبيرة في مجال الاستخبارات وتحسين قدرات الجيش الاسرائيلي لتوفير بديل تكنولوجي مقابل انسحاب الجيش الاسرائيلي من الضفة الغربية، بالاضافة الى تواجد اسرائيلي في مراكز الانذار المبكر في مرتفعات الضفة الغربية .
خامساً: اقامة مطار في الاراضي الاردنية على نهر الاردن مخصص لاستخدام الفلسطينيين وبوابه تفتح على جسر يفضي الى الضفة الغربية، ويتولى الامن الاردني بالتنسيق مع اسرائيل ادارته.
كما اقترح كيري تأجيل الافراج عن الدفعة الثالثة من الاسرى ودمجها مع الدفعة الرابعة والاخيرة وبالتوازي معها سيعلن "اتفاق اطار" جديد يتضمن ما سلف بشأن الترتيبات الامنية، بالاضافة الى الاعتراف بيهودية اسرائيل، بالمقابل سينص على حل الدولتين على اساس حدود 67 مع تبادل يتفق عليه بالاراضي، وستكون جميع قضايا الحل النهائي كالقدس والمستوطنات واللاجئين والمياه والعلاقات المستقبلية موضع تفاوض بين الجانبين دون تحديد اي سقف زمني او خط النهاية لهذه المفاوضات، وهو ما يتيح لاسرائيل مدها الى ما شاء الله.
ويلاحظ ان خطة كيري تقوم على تجزئة الحل وفصل المسار الامني عن المسار السياسي وربط الثاني واخضاعه لاعتبارات الاول. فاتفاق الاطار الجديد في حال تمت الموافقة عليه يعطي اسرائيل فوراً كل ما تريده (يهودية الدولة، والترتيبات الامنية) فيما يرحل كل الملفات الاخرى ذات الصلة بالحقوق الفلسطينية على ذمة المستقبل الذي لن يأتي، اي تأبيد الاحتلال ولكن بموافقة فلسطينية.
لقد فصلت الخطة الامنية الاميركية على مقاس المطالب الامنية الاسرائيلية، وسيتممها اتفاق الاطار الجديد او اتفاق الحل الانتقالي طويل الامد "اوسلو ب" في ضمان استمرار الاستيطان وتهويد القدس، وانهاء قضية اللاجئين بإهمالها، وهو ما يعني انهاء قضية فلسطين في لحظة عربية مريضة.
ان خطة كيري الاسرائيلية المطروحة على المفاوض الفلسطيني لقبولها من دون زيادة او نقصان تمثل مفصلاً بالغ الاهمية والخطورة، وهي كما وصفها قيادي مشارك في المفاوضات من النوع غير القابل للبحث، ولا خيار سوى رفضها جملة وتفصيلاً، بيد ان ما فات القيادي ان الرفض وحده ليس كافياً، ناهيك ان يكون سياسة.
فالوضع الفلسطيني يواجه اليوم واحد من اكثر المآزق صعوبة، وخطة كيري بشقيها الامني و"اتفاق الاطار للحل الانتقالي" الجديد المقرر طرحه نهاية الشهر الأول من 2014 سيضاعف هذا المأزق، وستجد القيادة الفلسطينية نفسها في اقرب الاجال قبالة استحقاق خطير، وثمة اشارات يمكن التقاطها من ثنايا بعض التصريحات التي صدرت عن بعض القيادات الفلسطينية، وابدت استعدادا لمد فترة التفاوض الى ما بعد شهر نيسان المقبل على "اتفاق الاطار" العتيد وبدأت في تصنيفه، فهو كما قال كبير المفاوضين الفلسطينيين قبل ايام: "اكثر من اعلان مبادئ واقل من اتفاق نهائي"، ما يفصح عن موافقة مضمرة على الدخول مرة اخرى في ذات اللعبة وتجريب المجرب بعد عشرين عاماً من المفاوضات بدون نتائج ما خلا السيئ منها.
ان الخروج من النفق الراهن على صعوبته ليس مستحيلاً. والولايات المتحدة ومعها اسرائيل ليستا في افضل احوالهما. والدعوة التي اطلقها بعض الفلسطينيين الى عقد مؤتمر "جنيف 2" لانهاء الاحتكار الاميركي والاستفراد الاسرائيلي بعملية السلام بقصد تدويلها ليس بلا سند، ويمكن تجميع عناصر القوة والفعل لجعلها امراً ممكناً، شريطة ان يعيد الفلسطينيون النظر بذاتهم السياسية وصياغة برنامجهم الوطني وانهاء انقسامهم واستعادة وحدتهم قبل ان يطلبوا المساعدة من غيرهم.

 

المصدر: 
المستقبل