«أبو جهاد» وحكايات ما قبل فتح!
«ابو جهاد» وانا، كان بيننا اتفاق مضمر لم يجر الحديث فيه، وهو العمل على انصافه، من خلال محاولة تصحيح تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
لم يطلب مني «ابو جهاد» ذلك، ولكنني كنت ادرك بحدسي انه يتوقعه، ومن جانبي لم المح له بشيء، ولكنني كنت قد اخذت على نفسي عهداً بأن انصفه، وكان «جندي من العرب» العنوان الذي وضعته للكتاب الذي انوي تخصيصه لسيرته.
تمهلت من خلال توقع بأنه ما زال هناك متسع من الوقت لمتابعة المسيرة. ولكنني تعلمت درساً بأنه كان خطأ فادحاً المراهنة على سلامة اخطر قائد فلسطيني واجه اسرائيل بعد النكبة. وكان مستقبله اشد خطورة عليها من حاضره، اذا ما اصبح يوماً قائداً للثورة الفلسطينية بعد رحيل ياسر عرفات بطريقة او بأخرى. لذلك قررت اسرائيل ان تئد مستقبل الفلسطينيين باغتيال خليل الوزير «١٦/ ٤/ ١٩٨٨»، قبل القضاء على حاضرهم.
في العام «١٩٥٤» كان كلانا في قطاع غزة يغني على ليلاه الفلسطينية بطريقة مختلفة، فقد كان عضواً ناشطاً في حركة الاخوان المسلمين. وضمن النشاط السري للحركة حصل على تدريب عسكري كان شغوفاً بتطبيقه، مما دفعه للانسحاب من حركة الاخوان المسلمين، وادخله في متاعب مع المخابرات المصرية في قطاع غزة. اما انا فكنت ذا اتجاه قومي عربي شغوفاً بالوحدة العربية لاسترجاع فلسطين. وكنت رئيس تحرير مجلة «المستقبل»، وكاتب عمود في جريدة «غزة»، ومشرفاً على تحرير جريدة «اللواء» ومع انني اعمل في العلن، الا انه كان لا مفر من متاعب مع المخابرات المصرية التي تشرف على الرقابة الصحفية. وربما بسبب السري والعلني في تلك المرحلة، كان خليل الوزير يعرف عني اكثر مما اعرف عنه.
مضى الزمن بخطى سريعة، وفيما بعد، حدثني ابو جهاد عن نشاطه في تلك المرحلة، في لقاء مطوّل تم بيننا في بيروت، بعد ظهر يوم الاحد ١٧/ ٩ / ١٩٧٨، وهذا ما قاله ابو جهاد:
التجربة الحزبية
«حتى ونحن في غمرة العمل الحزبي كنا نصارع ليكون اتجاه الحزب فلسطينيا ولتكون قيادته فلسطينية، وكنا ندخل في صراعات مع الذين سعوا لربط التنظيمات في غزة بقيادات غير فلسطينية وخارج فلسطين، لقد كنا نرفض هذا الاتجاه ونسعى لتكوين الشيء الفلسطيني رغم كل ما واجهناه من عقبات.
ولقد تولدت لدينا قناعة، من خلال التجربة، بأن العمل الحزبي لن يقدم شيئا لفلسطين، ووجدنا ان الاستمرار في هذا الطريق سيدخلنا في متاهات واسعة لا نستطيع الخروج منها، لذلك ادركنا بأنه لا بد من خلق الشيء الفلسطيني».
(الشيء الفلسطيني)
كان التشكيل في هذه المرحلة ١٩٥٤ مكونا من مجموعة الشباب الذين اعتمدوا على إمكاناتهم الخاصة، وكانت قيادة التشكيل تضم معي الاخ حمد العايدي والأخ محمد الافرنجي، وكان الأخ محمد الافرنجي مدرسا في وكالة الغوث، والأخ حمد العايدي موظفا في نفس الوكالة، وكنت طالبا واقوم بتعليم بعض الدروس الخصوصية فنجمع ما نحصل عليه من نقود بالاضافة الى بعض التبرعات وكذلك ما يرسله الاصدقاء الذين يعملون في الخارج، كنا نجمع هذه المبالغ ونشتري بها المعدات، فاشترينا متفجرات من صيادي السمك، وكنا نقع احيانا على صفقات جيدة، ففي احدى المرات اشترينا من منطقة خانيونس نصف طن من المتفجرات كانت مكونة من الغام قديمة وغيرها بستين جنيها، وقد ساعدنا هذا على القيام بسلسلة من العمليات.
(خلف خطوط الهدنة)
"قمنا بزرع الالغام في المناطق التي تحتلها اسرائيل خلف خطوط الهدنة، ونسفت عدة جرارات وآليات لها، وكنا نضع العبوات الناسفة في محطات توليد الكهرباء ومراكز المياه في المستوطنات، كنا نرسل دوريات داخل المناطق المحتلة. ووصلت احدى هذه الدوريات الى منطقة يازور وضربت سيارة لاندروفر عسكرية لاسرائيل على طريق يافا - يازور.
(نسف خزان زوهار)
"اما اخطر العمليات التي قمنا بها فكانت نسف خزان زوهار بالقرب من الفالوجة. حيث وضعنا فيه كمية كبيرة جدا من العبوات والمتفجرات. فتدفقت المياه وانسابت الى بيت حانون المستعمرة، وبيت حانون البلد، ومنها الى قرية هربيا حتى صبت في البحر الابيض المتوسط. وفي اليوم التالي ذهبنا انا ومحمد الافرنجي على دراجة هوائية الى بيت حانون وشاهدنا برك المياه التي سببها انهيار الخزان الذي نسف".
(جمل يكشف السر)
"كان ذلك عندما كنا في دورية في منطقة قريبة من وادي غزة، ونستعد للدخول الى المناطق المحتلة باتجاه طريق بئر السبع. وخلال المراقبة لاحظنا نشاط الدوريات المصرية والاسرائيلية على جانبي خط الهدنة في تلك المنطقة مما اضطرنا الى تأجيل العملية. فتركنا المعدات وبقي احد افراد الدورية لاخفائها، فقام بدفن الالغام قريبا من الجسر واخفى الصواعق في جهة ثانية بعيدة عن الالغام.
تصادف بعد ذلك مرور دورية مصرية من الهجانة التي تتجول على ظهور الجمال. فارتطم خف الجمل بأحد الالغام فسمع الجندي صوت الارتطام فترجل عن الجمل واخذ يبحث في المكان فعثر على الالغام، ثم وجد الصواعق بعيدة عنها، فحملت الدورية المصرية الالغام الى مصطفى حافظ مسؤول المخابرات. وعندما تفحصها ادرك انها من صنع محلي".
(المخابرات تعتقلني)
«قام مصطفى حافظ ببث رجال المخابرات للتحري عن مصدر الصناديق الخشبية والقطع المعدنية عند كل النجارين والحدادين في قطاع غزة. ففشلوا في التعرف على مصدر الصناديق الخشبية. ولكن الذي حدث انني عندما ذهبت الى الحداد في السابق لعمل اللوحات المعدنية، كان ابنه موجودا في المشغل، والابن يعرف شخصيتي. فلما جاء رجل المخابرات ليستفسر من الحداد عن القطع المعدنية انكر علاقته بالموضوع ولكن ابنه سارع بالاجابة وقال انا اعرف الشخص الذي طلبها وهو فلان. فداهم رجال المخابرات بيتي واعتقلت . وبعد ذلك خرجت من السجن بكفالة».
(التعاون مع الفدائيين)
«عندما كان مصطفى حافظ وبقية رجال الاستخبارات المصرية يبعثون بالفدائيين (الفلسطينيين) للاستطلاع فقط، كنا نكلف هؤلاء الفدائيين بمهمات قتالية. كان الفدائي يزود من المخابرات المصرية بكمية معلومة من الذخيرة وبعدد محدد من القنابل عليه ان يعود بها كاملة .. فكنا نزوده بالذخيرة وبعدد من القنابل. فيؤدي المهمة الاستطلاعية التي كلفه بها جهاز المخابرات. ثم يقوم بعمل اشتباك ويضرب ويعود. وعندما تحصي المخابرات ذخيرته تجدها كما هي. وكانت صلتنا قوية بافراد هذه الدوريات وبعضهم يقاتل الان معنا في قوات الثورة».
(الرد على التخاذل)
«كان منطلقنا وطنيا فلسطينيا قوميا مرتبطا بعروبته وقوميته ويحرص كل الحرص على ان يجسد ارادة شعبنا العربي الفلسطيني. كنا نقول بأن النضال من اجل تحرير فلسطين هو الطريق الذي سيجمع العرب ويجعلهم يلتقون في خندق واحد. وهذا النضال سيزيل الحدود ويعزز الشعور القومي العربي».
قبل اسدال الستارة على هذه المراجعة التصحيحية، نذكّر بان السجين والسجان لم ينج اي منهما من الاغتيال. فان جهاز امان اغتال مصطفى حافظ بواسطة طرد ملغوم في غزة (١٩٥٦/٧/١٢ )، وان اسرائيل جهزت حملة عسكرية برية وبحرية وجوية تكفي لاحتلال دولة، لاغتيال خليل الوزير في ١٩٨٨/٤/١٦ في تونس.