نساء مقدسيات في الذاكرة الشعبية الجماعية*

بقلم: 

حين نبحث في كتب التاريخ، عن مشاركة نساء القدس؛ في العمل السياسي الفلسطيني، وفي العمل النسوي، منذ عشرينيات القرن الماضي؛ لا نجد الكثير.
تبرز ذكرى مظاهرتين، كان لهما أثر بالغ في مسيرة النضال الفلسطيني. أولاهما، جابت شوارع القدس، - إثر انعقاد المؤتمر النسوي الذي نظم في القدس العام 1929م -، وتوقفت أمام القنصليات الأجنبية المختلفة، وقدَّمت مذكرة بقرارات المؤتمر إلى القنصل. وقد سارت المظاهرة في مائة وعشرين سيارة.
والثانية، كانت في 15 إبريل 1933م، حين احتجت النساء على زيارة مسؤولين بريطانيين: "اللورد اللينبي" واللورد "سوينتون"، إلى البلاد. 
سارت النساء رغم هطول الأمطار، وعبرن شوارع القدس إلى مسجد عمر، حيث قامت الرائدة "ماتييل مغنم"، وهي مسيحية، بإلقاء خطبة من منبر المسجد، وسارت المظاهرة إلى القبر المقدس، حيث قامت الرائدة "طرب عبد الهادي"، وهي مسلمة، بإلقاء خطبة أمام مقبرة المسيح. 
أية حكمة سياسية تمتعت بها نساء فلسطين، ونساء القدس، بشكل خاص، في تلك الحقبة الزمانية. 
* * * * *
لم تقتصر المشاركة السياسية للمرأة المقدسية، على المظاهرات، وتنظيم المؤتمرات السياسية؛ بل أسَّست الاتحادات النسائية، والجمعيات الخيرية، وشاركت بالعمل السياسي بشكله المباشر، وغير المباشر.
وبالإضافة إلى نشاط النساء المدينيات؛ كانت هناك مشاركة سياسية واسعة من النساء القرويات؛ تمّ تدوينها من خلال أبحاث التاريخ الشفوي، في نهاية التسعينيات.
ويتضح من شهادات الكثير من الرواة؛ أن الأسماء المدينية هي الواضحة، في أذهانهم، وهي التي رسخت من خلال نشاطات الجمعيات والاتحادات النسائية، بشكل خاص. 
يتحدث الشيخ "داوود عريقات"، عن نضال المرأة الفلسطينية، ما قبل العام 1948؛ فيذكر أسماء الرائدات المدينيات، وعلى رأسهن: "زليخة الشهابي"، ويتحدث بفخر عن المشاركة السياسية لوالدته (عائشة الحج خليل المكي) وخالته (رقية الحاج خليل مكي)؛ ولكنه لا يذكر اسميهما إلاّ بعد إلحاح الباحثة.
ويفسر الشيخ "زهير الشاويش"، سبب إهمال ذكر اسم المرأة المتعمد؛ مؤكداً أن ذكر اسم المرأة لم يكن محبباً، إذ كان مقترناً بالعيب؛ ما يفسر جزئياً، سبب إهمال التاريخ المدون، لأسماء نساء، شاركن في العمل العام، في الثلاثينات.
* * * * *
من خلال شهادات الرواة؛ تبرز أسماء ذكرها التاريخ المدوَّن، وأسماء حفظتها صدور الرواة.
من أسماء نساء القدس، اللواتي استقرَّت عميقاً، في الذاكرة: الرائدات المخضرمات: "زليخة الشهابي"، و"هند الحسيني"، والشهيدة "حياة البلابسة".
تذكر الرائدة "عصام عبد الهادي"، أسماء نساء عديدات، برزن في العمل النضالي، وتميِّز دور الرائدتين من مدينة القدس: "زليخة الشهابي"، التي أسَّست مع "ميليا السكاكيني"، أول اتحاد نسائي فلسطيني، 1921، والرائدة "هند الحسيني"، التي احتوت بنات الشهداء، من خلال تأسيسها "دار الطفل العربي".
ومن خلال شهادات الرواة؛ تبرز أسماء نساء مقدسيات أخريات: "قدسية سيف الدين"، و"ناهد عبده السجدي"، و"نزهة درويش"، و"حلوة زيدان"، و"سلمى الحسيني"، و"بدرية الحسيني".
تتحدث الرائدة "وداد الأيوبي"، عن الرائدة "فاطمة أبو السعود"، كاشفة عن دورها السياسي المميز:
"كانت "فاطمة" تعمل مع مجموعة معينة من الطالبات، يحطوا التين بسلة التين أو العنب بسلة العنب، ويدوروا على الدكاكين وعلى البيوت، ويوزّعوا مناشير من تحت العنب، ومن تحت التين. كانت البيانات تنادي إما بالإضراب، أو بالمظاهرة".

أما "دمية السكاكيني"، فبالإضافة إلى حديثها عن الأسماء المعروفة؛ تتحدث بإعجاب، عن اسم غير معروف، لسيدة عملت في ميدان الإسعاف، عام 1948: "كوكون طليل".
وتتحدث الرائدة "سلمى الحسيني"، عن دور مميز للمناضلة "وجيهة الحسيني"، التي لم يعرف عنها سوى أنها زوجة القائد الشهيد "عبد القادر الحسيني". تتحدث عن دورها في تهريب السلاح لزوجها ورفاقه، وتصف حديثها عنها بأنه نوع من الإنصاف لما أهمله التاريخ:
"ليش حكيت عن الست وجيهة؟! هاي ما أهمله التاريخ؛ "وجيهة" اشتغلت كتير. مش دايماً وراء كل رجل عظيم امرأة؛ بس هييّ كانت امرأة عظيمة؛ مش بس زوجها".
أما النساء القرويات؛ فهن حاضرات، ضمن شهادات الرواة؛ وإن غابت أسماؤهن.
يتحدث د."صبحي غوشة"، عن طبيعة مشاركة المرأة القروية، في ثورة 1936:
"كانت المرأة تشارك في العمل الوطني، بنقل الأسلحة من خارج السور إلى داخل السور، وخاصة النساء اللواتي يلبسن الملاية الزّمّ، كنَّ يضعن أسلحة تحت ثيابهن، والقنابل اليدوية والمسدسات، وهناك قصص كثيرة عن نساء: أُم فلان. مثلاً، من عائلة إدكيدك، كانوا يقولون، بعدين القرويات كانوا يدخلوا السلاح تحت جون البقدونس والسلق، كانوا ينقلوها إلى الثوار داخل القدس، وكذلك كنا نعرف عن قرويات كثيرات، كنًّ ينقلن السلاح، والطعام، والأخبار، إلى الثوار".
ويؤكد المناضل "بهجت أبو غربية" مشاركة المرأة في العمل السياسي، والعسكري: "هي وزوجها، هو حامل بارودة، وهي حاملة بارودة. لا، أسماء ما باعرف. يعني اللي سمّيتها، كانوا يسمّوها "أمّ المؤمنين"، هذه شفتها، من عرب السواحرة، واللي في بلعا شوف عيني، والمظاهرات اللي صارت في القدس، واصطدموا بالشرطة. شوف عينيّ".
أما "أحمد العيساوي"، من بيت حنينا/ القدس؛ فيذكر بعض أسماء النساء اللواتي يذكرهن:
"والله بعرف واحدة من عنا، كان اسمها "منسية"، من بيت حنينا، وفيه واحدة بقولوا لها: "لطيفة السلمان"، و"حسنة القطنوية"". 
ويتذكر "زهير الشاويش"، دوراً فاعلاً للمرأة القروية، أثناء زحفه، ورفاقه، إلى القسطل، لنجدة القائد "عبد القادر الحسيني":
"مين كان عم بيدلنا على الطريق؟ اثنين من أهل القرية وأربعة من النساء. فالنساء دلونا، وطبعا لمّا عمّ تدلّنا؛ هيِّه معرَّضة للرصاص أكثر منّا".
* * * * *
وبعد،
رائدات يروين عن رائدات، وجيل يسلم جيلاً، والرواية مستمرة، وسوف تستمر.
ما زال هناك الكثير ليروى عن نساء القدس، وعن أدوارهن، مما يحتاج دراسات ودراسات.
لقد أضاء التاريخ الشفوي مساحات عُرفت، ومساحات لم تُعرف، وما زالت هناك مساحات مجهولة، تحتاج جهوداً جماعية لإضاءتها، وهي دين علينا، وواجب تمليه علينا ضمائرنا، تجاه من قدموا ويقدمون أغلى ما لديهم، من أجل استقلال الوطن وحريته.

* من ورقة قدِّمت في مؤتمر "القدس ثقافة وهوية"، في رام الله، من تنظيم "القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية 2013"، 2- 3 تشرين الأول 2013.

المصدر: 
الأيام