«الدب» الروسي هزم «الحمار» الأميركي وإسرائيل كسبت نصراً بلا حرب

بقلم: 

 
في بداية هذا الموضوع تجدر الإشارة الى ملاحظتين:
الأولى: أن «الحمار» هو رمز الحزب الديموقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس باراك أوباما، أما الحزب الجمهوري فإن رمزه هو «الفيل»، وأما «الدب» الروسي فإنه يرمز إلى قساوة ذلك الحيوان الذي يعيش في مغاور الجليد على قمم جبال سيبيريا التي تعصى على الغزاة.
ولعل الحزب الديموقراطي الأميركي اختار «الحمار» رمزاً له لأنه يمثل الصبر ويتحمل المعاناة ويؤدي واجبه صامتاً، لكنه إذا ما «رفس» فإن رفسته قد تكون قاتلة، في حين أن «الفيل» الجمهوري يتمتع بذاكرة قوية لا تخلو من الحقد، وهو إذا ما استدار في مكانه فإنه يحطّم كل ما حوله.
أما الملاحظة الثانية فهي الآتية:
الصحافي لا يصنع الخبر، إلا إذا سقط ضحية وهو يؤدي واجبه في ساحة المهنة، فيستحق أن يكون خبراً. مهمة الصحافي أن يكتشف الخبر، وعليه أن يكون ممتلكاً القدرة، والخبرة، والمعرفة، ليستخرج الخبر كمن يبحث عن إبرة في كومة قش.
لكن، أحياناً، يكون الخبر الذي يكتشفه الصحافي خطيراً الى درجة أنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية نشره من دون أن ينسبه إلى مصدر. وأحياناً لا يكون المصدر مستعداً لتبني مسؤولية الخبر بعد نشره. وفي مثل هذه الحال يكون على الصحافي إما أن يحتفظ بالخبر كأمانة، أو أن يلجأ إلى أسلوب يبتكره، فينشر الخبر الخطير، معفياً نفسه والمصدر من أي مسؤولية.
هذا ما فعله رئيس تحرير جريدة «الحياة» في افتتاحية العدد الذي صدر صبيحة اليوم التاسع من أيلول (سبتمبر) بعنوان «التهمة أخطر من الضربة». لقد مرّر غسان شربل في تلك الافتتاحية خبره الخطير الذي سيتحول في المساء حديث العالم بعد ما أعلنه وزيرا خارجية الولايات المتحدة الأميركية وروسيا من جنيف، وبنصّه الحرفي تقريباً، كما ورد في «الحياة» صباحاً.
ثم ما لبث باراك أوباما أن فاجأ العالم بمد يده الى الرئيس الروسي، موافقاً على وضع محنة سورية في ثلاجة الانتظار تسعة أشهر على الأقل، إلى حين لملمة فتات أطنان الأسلحة الكيماوية التي تعهد النظام السوري بوضعها تحت الرقابة الدولية. ومنذ تلك اللحظة بدأ مسار الثورة السورية يتغير، ومعه مسار الأزمة اللبنانية باتجاه أكثر غموضاً.
لم يفت الوقت بعد لإعادة تسجيل الخبر الذي نشره غسان شربل في افتتاحية «الحياة» بالأسلوب الذي اعتمده.
فهو قد وضع نفسه في مكان المصدر، وراح يسأل ليجيب:
لنفترض أنك مكان وزير الخارجية السوري وليد المعلم ماذا كنت تحمل الى موسكو؟
وكان جوابه الخبر:
- «أتصرف على أساس أن الوقت ينفد. أعطي فلاديمير بوتين أوراقاً حقيقية علّه يساعد النظام على النجاة من الضربة (الأميركية) والخروج من المأزق. أعطيه مثلاً موافقة على وضع الترسانة الكيماوية السورية تحت إشراف خبراء الأمم المتحدة، وبضمانة روسيا ومشاركتها. وأترك الباب مفتوحاً للتلميح إلى استعداد لتدمير هذه الترسانة ولإحداث صدمة تفكك الجبهة الغربية. أعطيه حق إبلاغ الغربيين أن النظام السوري مستعد لإعلان وقف فوري لإطلاق النار والتوجه سريعاً إلى جنيف، وعلى قاعدة التفسير الأول لجنيف، أي قيام جسم انتقالي بصلاحيات كاملة. وقبل إعطاء بوتين هذه الأوراق على دمشق أن تضمن موافقة طهران عليها..».
في حين كان هذا الحدث يصاغ خبراً صحافياً مجهول المصدر، كانت الصفقة الروسية – الأميركية قد تمت بموافقة سورية – إيرانية – إسرائيلية... وخلال ساعات غطى الحدث شاشات التلفزيون، واكتشف العالم أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يستطيع أن يضحك، وهو الذي منذ اطلالته على الشاشة ينشر التجهم، متلبساً وجه بريجنيف في زمن الحقبة الشيوعية، حين كان الصحافيون الأجانب في الكرملين يستنبطون المعلومات من خلال تحليل الانطباعات التي تتكون لديهم وهم يحدقون في الصورة التي توزع عليهم، هذا إذا كانت هناك مناسبة تستحق أن يظهر فيها وجه بريجنيف أو كوسيغين أو خروتشوف.
هذه الأيام لا تتسع الصورة لضحكة الوزير سيرغي لافروف. أما الرئيس فلاديمير بوتين، فإنه أكثر جدية. يكفيه أن يقال إن «الدب» الروسي هزم «الحمار» الأميركي. ويكفي بوتين ما يتلقى من عبارات الشكر والثناء من النظام السوري ومن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية السيد علي خامنئي، ومن رئيس الجمهورية حسن روحاني.
في المقابل، كان على وزير الخارجية الأميركي جون كيري الضاحك في كل الحالات، أن يطير من جنيف مباشرة إلى القدس المحتلة ليقدم المباركة إلى بنيامين نتانياهو على النصر الذي كسبته إسرائيل من دون حرب، فقد خرجت الترسانة الكيماوية السورية من الخدمة، وما من دولة تعرف أكثر من إسرائيل حجم الترسانة السورية، وأين تتوزع.
إذا كان النظام السوري سوف يمتنع عن التلميح إلى أنه فقد الطلقة الأخيرة التي كان يهدد بها إسرائيل، فإن إسرائيل سوف تستمر بالتشكيك في صدقية النظام حتى اللحظة التي يتأكد فيها خبراؤها من أن الجيش العربي السوري بات مجرداً من أسنانه ومن أظافره.. وهذا هو المستحيل.
النظام الذي ما يزال يحكم دمشق أوصل الشعب السوري وسائر الشعوب العربية الى حالة من عذاب الضمير الوطني، والقومي، وحتى الأخلاقي. فأمام العدو الإسرائيلي الرهيب الذي يتحكم بمصير المنطقة بأسرها، ويستنفد قواها، ومواردها، وأجيالها على مدى خمس وستين سنة، كان السلاح الكيماوي، المحرم على العرب والمحلل عليه، ذريعته الدائمة في تحريض الغرب على الدول العربية. وقد عملت إسرائيل خلال العقدين الثامن والتاسع من القرن الماضي على زعزعة أركان الاتحاد السوفياتي، وكان البابا الراحل يوحنا بولس الثاني داعماً لحرية الشعوب المنضوية تحت مظلة موسكو. وحين سقط جدار برلين انهارت تلك المنظومة الدولية الأسطورية، فنزحت القوى الصهيونية، بكل طاقاتها وإمكاناتها، من روسيا ومن دول أوروبا الشرقية إلى إسرائيل التي صارت في مرتبة الدولة العظمى في الشرق.
بذريعة السلاح المحرم على العرب غزت أميركا العراق وأسقطت صدام حسين، وكان يجب أن يسقط بقوة الشعب العراقي. لكن مصيبة العراق باتت تقترب من سورية. وإذا كان السلاح الكيماوي السوري في طريقه إلى الحصار لتطمئن إسرائيل، وهي غير قلقة، فإن سلاحاً آخر أشد فتكاً يهدد وحدة سورية، وهو سلاح التكفير والتفجير والتهجير الذي يتخذه النظام ذريعة لارتكاب الجرائم عينها.
ولعلّ إسرائيل كانت تفضّل أن ينفذ أوباما ضربته للنظام السوري أولاً، وبعدها الاتفاق مع روسيا على مصادرة الترسانة الكيماوية، وقد أعرب وزير الدفاع «موشيه يعلون» عن هذه الرغبة في أواخر شهر آب (أغسطس) الماضي خلال فترة انتظار سقوط الصواريخ على دمشق وسواها، إذ أعلن أن ما يجري في سورية هو «سيرورة تشكل جزءاً من حدث تاريخي لا يحصل إلا مرة كل مئة عام، وهو يؤدي إلى تفكيك دولة قومية».
يمكن النظام السوري أن يتّخذ من هذا التصريح الإسرائيلي حجة لتبرير إذعانه للقرار الأميركي – الروسي. لكن الحقيقة هي أنه أذعن لإنقاذ نفسه وضمان تمديد بقائه حتى انتهاء ولايته في الصيف المقبل من العام 2014 على الأقل. وهذه هي رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وطاقم إدارته. ولو أن النظام يحرص على أرواح الشعب السوري، لا على مقام السلطة، لما أقدم على إزهاق 1400 روح بريئة بضربة واحدة.
المهم بعد اليوم ألا يتحقق حلم إسرائيل بتفكيك دولة سورية، فبعدها لبنان وسائر دول المنطقة.

* كاتب وصحافي لبناني

المصدر: 
الحياة