أوسلو في ذكراه العشرين.. القفز عن بوابة مدريد 1

بقلم: 

في التاسع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1991 حدَّد وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر ونظيره السوفييتي بوريس بانكين يوم الثلاثين من الشهر ذاته، موعداً لافتتاح مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط، تستضيفه العاصمة الإسبانية (مدريد). على أن تستمر أعماله مدة ثلاثة أيام. ووجهت دعوات حضور المؤتمر إلى كل من سورية، لبنان، الأردن، وفد من فلسطينيي الضفة والقطاع ، مصر، إسرائيل، المجموعة الأوروبية، مجلس التعاون الخليجي، اتحاد المغرب العربي، مراقب صامت عن الأمم المتحدة، بالإضافة إلى راعيي المؤتمر الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي

وسارع المجلس المركزي الفلسطيني في الموافقة على حضور الفلسطينيين للمؤتمر، وأحال الموضوع إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، رغم معارضة أطراف رئيسية في المنظمة وخارجها. وبعد يومين أعلنت الحكومة الإسرائيلية آنذاك برئاسة اسحق شامير موافقتها على المشاركة في المؤتمر، وتكشَف لاحقاً أن الموافقة جاءت بعد تلقي ضمانات بعدم ممارسة أي نوع من أنواع الضغوط عليها لوقف الاستيطان في المناطق الفلسطينية المحتلة، وتأجيل كل القضايا الرئيسية في الصراع إلى مرحلة لاحقة، وقصر البحث في المسار الفلسطيني على حكم ذاتي محدود.

وتزامن ذلك مع إعلان إسحق شامير، في مؤتمر صحفي عقده في ستراسبورغ، 23/10/1991، أن حكومته بصدد طرح مشروع على الكنيست، يمنع في حال إقراره إخلاء أي مستوطنة في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة. وهو ما دعا الولايات المتحدة الأميركية لإخطار الأطراف المشاركة في مؤتمر مدريد إلى عدم توقع نتائج سريعة من المؤتمر.

وفي الحادي والثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر 1991 افتتح مؤتمر مدريد بكلمتين عامتين للرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) والسوفييتي ميخائيل غورباتشوف، وكلمة لرئيس المجموعة الاقتصادية الأوروبية، وخلت الكلمات الثلاث من وضع إطار واضح للمفاوضات، وتعاملت الكلمتان الأميركية والأوروبية بانتقائية مع قرارات هيئة الأمم المتحدة الخاصة بالصراع الفلسطينية والعربي- الإسرائيلي، وهو ما شجع إسحاق شامير في كلمته أمام المؤتمر على تجاهل هذه القرارات بشكل كامل من أسس التسوية، كما تجاهل مبدأ "الأرض مقابل السلام"، بل وأكثر من ذلك اعتبر أن تركيز المفاوضات على ذلك سيوصل العملية التفاوضية إلى طريق مسدود.

رغم ما سبق، بدأت المباحثات الثنائية بين الوفود العربية والوفود الإسرائيلية في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1991، لكن ظهر واضحاً للعيان أن الولايات المتحدة الأميركية خطفت العملية التفاوضية، وهمّشت دور الراعي السوفييتي، وهو ما ترك آثاراً سلبية كبيرة تجلت نتائجها المدمرة لاحقاً، في القطبية الأحادية التي مارستها الولايات المتحدة بعد حل الاتحاد السوفيتي، والسعي لتهميش دور روسيا الاتحادية التي ورثت مقعد الاتحاد السوفييتي في رعاية العملية السياسية والتفاوضية في منطقة الشرق الأوسط. فقد وجدت الولايات المتحدة في الدور المتوازن الذي لعبه الاتحاد السوفييتي، ومن ثم لعبته روسيا الاتحادية، خطراً على المشروع الأميركي- الإسرائيلي الهادف إلى فرض الرؤية التوسعية الإسرائيلية للحل، حيث حدَّد آخر وزير خارجية للاتحاد السوفييتي بوريس بانكين رؤية بلاده لأسس تسوية قابلة للحياة، مع انطلاق مسارات المفاوضات الثنائية العربية- الإسرائيلية. واستندت الرؤية السوفييتية إلى ضرورة الوقف الفوري للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة في العام 1967، وانسحاب إسرائيل من هذه الأراضي، واعترافها بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وقبولها بمبدأ "الأرض مقابل السلام"، وإيجاد حل ملائم للقدس، وحق كافة دول المنطقة العيش بسلام ضمن حدود معترف بها دولياً.

وكانت الصدمة الأولى في مسار المفاوضات الأردنية والفلسطينية- الإسرائيلية تركيز رئيس الوفد الإسرائيلي إلياكيم روبنشتاين على المسائل الإجرائية ومكان المفاوضات، وكادت المفاوضات أن تنفجر لولا تدخل الراعيين، الذي أثمر عن بيان مشترك باستئناف المفاوضات على أساس القرارين (242 و338)، من خلال توزيع الوفد الأردني- الفلسطيني المشترك على وفدين فلسطيني وأردني، دون تغيير في مبدأ مشاركتهما في وفد موحد برئاسة عبد السلام المجالي. إلا أن الأمور لم تتغير كثيراً حيث أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي  إسحاق شامير مجدداً على أن إسرائيل لن تتفاوض مع وفد فلسطيني مستقل، ولن تقبل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

وانعكس هذا التعنت الإسرائيلي على الموقف الأميركي، فانصب جهد واشنطن لتسويق مشروع إدارة ذاتية للفلسطينيين تحت مسمى (حكم ذاتي محدود) في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، مستثنى منها القدس الشرقية. وأبدت منظمة التحرير على لسان رئيسها الراحل ياسر عرفات موافقتها على حكم ذاتي كحل مرحلي، شرط انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة في الخامس من حزيران/يونيو 1967، ورفضت منظمة التحرير المشروع الإسرائيلي لـ(لإدارة الذاتية للسكان دون الأرض)، وأصرت أن يكون الحكم الذاتي كاملاً وشاملاً للأرض والسكان. لكن واشنطن تجاهلت موقف منظمة التحرير، واقترح وزير خارجيتها (آنذاك) جيمس بيكر على الوفد الإسرائيلي والوفد الأردني- الفلسطيني المشترك تقديم نماذج لمنطقة حكم ذاتي، تتجنب القضايا الخلافية الحادة مثل السيطرة على الأرض، بما يعني العودة من باب دوار إلى مقولة حكم ذاتي للسكان دون الأرض.

 

وقبل بدء الجولة الثانية من مباحثات واشنطن اتخذ وزير الدفاع الإسرائيلي حينها موشي أرينز، 4/1/1992، قراراً بإبعاد اثني عشر فلسطينياً، وهو ما اضطر الوفد الفلسطيني لتعليق مشاركته بالمفاوضات. وبعد ثلاثة أيام اتخذ مجلس الأمن الدولي بالإجماع قراراً حمل الرقم (726)، أدان فيه إسرائيل لاستئنافها سياسة الإبعاد، وأكد على انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ودعا إسرائيل للتراجع عن قرارها، وتأمين العودة الفورية للمبعدين. ووفر القرار مدخلاً مناسباً لعودة الوفد الفلسطيني- الأردني المشترك وباقي الوفود العربية إلى طاولة المفاوضات في واشنطن. وبالفعل؛ أبلغت الوفود العربية الجانب الأميركي، في التاسع من كانون الثاني/يناير1992، موافقتها على استئناف المفاوضات الثنائية مع الوفود الإسرائيلية. غير أن أجواء التفاؤل اضمحلت من جديد قبل أن تبدأ الجولة الثانية من المفاوضات، بقرار الحكومة الإسرائيلية المسبق تعليق المفاوضات بعد جلستين أو ثلاث على الأكثر، وكذلك التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد لبنان.

وفي الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير 1992، انعقدت الجلسة الأولى بين الوفد الإسرائيلي والوفد الفلسطيني المنضوي في إطار الوفد الأردني، وسلَّم الوفد الفلسطيني للوفد الإسرائيلي مذكرة تطالب إسرائيل بتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي بإعادة المبعدين الفلسطينيين الاثني عشر، وفي الجلسة الثالثة بين الوفدين التي عقدت في اليوم التالي عرض الوفد الفلسطيني على الوفد الإسرائيلي مقترحاً بإقامة حكومة انتقالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وانسحاب القوات الإسرائيلية، وإنشاء برلمان فلسطيني من (180) عضواً، ينتخبون تحت إشراف دولي من الفلسطينيين في الضفة والقدس وقطاع غزة، يتولى بدوره انتخاب رئيس ومجلس تنفيذي من عشرين عضواً.

وردت إسرائيل على المقترح الفلسطيني بتعليق المفاوضات حتى منتصف شباط/ فبراير 1192. وتصادف مع قرار تعليق المفاوضات أزمة حكومية إسرائيلية بانسحاب حزبي "مولديت" و"هتحيا" اليمينيين المتطرفين من الائتلاف الحاكم، على خلفية رفض مناقشة إعطاء حكم ذاتي للفلسطينيين في مفاوضات واشنطن، واضطر شامير لتقديم استقالته والإعلان عن انتخابات مبكرة للكنيست الإسرائيلي في نهاية حزيران/ يونيو 1992، وأُقر ذلك الكنيست في 5 شباط/ فبراير1992 .

 وبدأ يظهر في الجلسة الأولى من الجولة الرابعة لمفاوضات واشنطن، 25/2/1992، افتراق جدي في مدى تقدم المسارين الفلسطيني والأردني. وانتهت الجولة إلى خلافات عميقة بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، وعبَّر عن ذلك رئيس الوفد الإسرائيلي روبنشتاين بالقول: "إن إسرائيل لا يمكنها قبول المقترحات الفلسطينية حول الحكم الإداري الذاتي، لأنها تشكل خطة لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وليس حل تسوية". وهنا بالضبط كان مأزق العملية التفاوضية التي انطلقت في مؤتمر مدريد.

ولم يحصل في الجولة الخامسة من المفاوضات الثنائية في واشنطن أي تقدم يذكر، وعلى ضوء الفشل المتكرر في واشنطن، استبقت واشنطن الجولة الخامسة بإعلانها في 22/4/1992 نقل الجولة السادسة من المفاوضات الثنائية إلى العاصمة الإيطالية (روما)، إلا أن الوفود العربية المفاوضة فضلت إبقاء المفاوضات في مكانها كي لا تتهرب الإدارة الأميركية من التزاماتها

وأعلنت إسرائيل، في ظل انتقال الحكم لحزب العمل برئاسة إسحاق رابين، أنها تأمل في الجولة السادسة التوصل مع الجانب الفلسطيني إلى اتفاق لإجراء انتخابات في نيسان 1993، ينتخب فيها فلسطينيو الضفة والقطاع (القدس غير مشمولة) مجلساً إدارياً من خمسين عضواً، وشكَّل هذا المقترح رداً على المقترح الفلسطيني بانتخاب مجلس تشريعي من مئة وثمانين عضواً. ورغم ذلك أبدى الوفد الفلسطيني أمله في الشروع مباشرة بمناقشة تفاصيل الحكم الذاتي والانتخابات التي اقترحتها إسرائيل، لكن الطرح الإسرائيلي في جلسات المفاوضات بيّن للوفد الفلسطيني على نحو قاطع أن إسرائيل تراجعت عملياً حتى إلى ما دون مضمون ملحق الحكم الإداري الذاتي في اتفاقيات كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر. وهذا ما انتهت إليه أيضاً الجولة السابعة التي بدأت في23/10/1992.

ليخرج بعدها الوفد الفلسطيني من الجولة الثامنة، عقدت 9/12/1992 وكانت الأخيرة في مفاوضات مدريد- واشنطن، بخلاصة أن الإسرائيليين يتمسكون بمفهوم جوهره "حكم ذاتي للمستوطنين اليهود أكثر منه حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة". وكان الرئيس الراحل ياسر عرفات قد أعلن في 26/11/1992 أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، وأن الفلسطينيين سيقررون قريباً ما إذا كانوا سيوقفونها أم لا، وذلك يتوقف على نتائج الاتصالات مع راعيي المفاوضات. ليكشف لاحقاً عن أن المفاوضات السرية في أوسلو كانت قد قطعت مرحلة حاسمة.

المصدر: 
انباء موسكو